فتحي مهذب - الأموات طيبون للغاية

،، صباح الجوري الأبيض .. نص شاعرنا فلسفي بامتياز ، ميتافيزيقي بالطبع ، تجاوز الوصف والتعبير المتداولين بوفرة في أوساط الشعراء إلى التعبير الميتافيزيقي لتيمة الموت بلغة ميتا - لسنية .. لغة النص أتت مفعمة بالثراء اللفظي المتنوع والمتغاير بتغاير وتفاوت المعاجم : لغة جمعت بين الفلسفي / الميتافيزيقي [ الزمان / المكان / الهيولي / فلاسفة / الأبدية .. ] ، والفيزيقي / الفلكي [ نيازك / فلكي .. ] ، والسيكولوجي / التحليل النفسي [ اللاوعي .. ] والغني / المسرحي [ الأوبرا .. ] .. هذه اللغة المتدفقة كشلال ينساب باستمرار ، وكفيض لسني يتناثر في سماء التجريد الميتافيزيقي والتخييل الفني أضفت على النص الشعري هالة جمالية وحلة سحرية من حيث البلاغة البايانية والبناء اللفظي .. **** هذا من منظور الدال Signifiant ، أما من حيث المدلول Signifié أو المتن الشعري فتوجد محطتان سافرتان : محطة " أنا لا أخاف الأموات " / محطة " أنا أحب الأموات " .. ما لفت انتباهي في سياق المحطة الأولى نفر من المداولات الشعرية العميقة عمق مخزونها الفلسفي ، مثالا لا حصرا : منطوقة " الأحياء طيبون للغاية " التي تشير في بعدها الأنطولوجي / الميتافيزيقي إلى اعتبار العالم الأبدي / ماوراء الوجود المادي حياة إيجابية ، فاضلة ، هادئة كأنها المدينة الفاضلة مقابل المدينة الضالة ( المجتمع الإنساني الراهن ) ، الحياة فيها هنية ، والمخلوقات فيها طيبون ، لا يزعجون الأحياء في حياتهم ، راقدون تحت الثرى دون مضايقة الأحياء فوق الثرى ، صامتون صمت الحكيم ، وهادئون هدوء الدمى ... عطفا على منطوقة أخرى في المحطة الثانية " سيعودون إلى العالم . إنهم أوضح من غموضنا .. أسياد المكان والزمان .. وصناع الأبدية .. " .. وصف فلسفي لتيمة الموت ، هذا الأخير اعتبره جهابذة الفكر الفلسفي ، يونان وعرب ، غرب ومسلمون ، اعتبروه تتويجا للحياة المادية ، هو النهاية السعيدة والمآل النبيل الذي يختم مشوار الإنسان في وجوده ، هو غاية الإنسان من وجوده في الوجود ؛ مقولة الموت نظر إليها الفلاسفة نظرة إيجابية { تبديد الخوف ، الترحيب بالرحيل واستقبال العالم الآخر .. سقراط / أفلاطون / الأبيقوريون / شوبنهاور .. } .. الأموات صناع مجد الأبجدية ، تعبير ميتافيزيقي عميق وجميل في آن ، إذ الأبدية لعالم الغيب لا لعالم الشهادة ، للميت لا الحي ، للامتناهي لا المتناهي ، للزمن السرمدي لا للزمن الإداري الترتيب .. الأموات سيعودون إلى العالم ، من هم ؟ أهم المهدي المنتظر ؟ أحرار الوجود وأخياره ؟ منقدو البشرية من الويل والشر والضر ؟ المخلوقات الملائكة الطيبة التي ستملأ الأرض عدلا وفضيلة وخيرا أسمى ؟ .. تساؤلات فلسفية / ميتافيزيقية يثيرها النص الشعري " الأموات طيبون للغاية " .. *** في المحصلة ، أقول بأن النص الشعري قيد التأمل ، نص ذي طابع مجرد يدخل في خانة الشعر الميتافيزيقي يحبل بفكر عميق يخالف ماعهدناه في النصوص الشعرية الكثيرة التي تتغنى بألم الحب ، أو تصف الموجود بما هو موجود .. على الرغم من أن الإبداع جميل بإنتاجه بصرف النظر عن موضوعاته .. يقول الفيلسوف إ . كانط الألماني " الفن الجميل هو تصوير جميل للشيء ، وليس تصويرا لشيء جميل " .. وبهذه المقولة الفلسفية / الاستيطيقية أختم مداخلتي ، وأنوه بطرافة وقيمة إنتاج شاعرنا فتحي مهذب وأستسمحه إذا أسأت فهم وتأويل بعض مقاطع النص . المبدع عبد الوهاب حميرين.

** أنا لا أخاف الأموات...
حين يطلون من كوة الباب..
بعيون زجاجية ثاقبة..
وينادون باسمي..
لأني بارع جدا في تنظير أسرار النوم.
وسرد الجزئيات الهامشية..
. مثل جلب غابة كثيفة بنبرة متصوف..
أو قتل غراب برمية نرد..
أنا لا أخاف الأموات..
وهم يتدلون من سقف مخيلتي..
يختلسون نجيمات صغيرة
تضيئ سماء رأسي ..
يطبطبون مثل هنود حمر
فوق كتفي المتهدلتين..
مثل أذني فيل نافق..
أنا لا أخاف الأموت
الذين يطبخون الشاي
على أثافي اللا وعي..
الذين يسردون وقائع غريبة جدا..
اندلعت تحت الأرض..
أنا لا أخاف الأموات..
هم طيبون للغاية مع الأحياء..
يحبون القطط السوداء..
والنيازك التي تنمو في حديقة الفلكي..
والكلمات الناعمة مثل الجبن..
ورائحة السمك المقلي..
والبيوت المكيفة..
المليئة بزيزان المتقدمين في السن.
المسامرات الليلية التي تقلم أظافر
الملل وآلام المفاصل..
أنا لا أخاف الأموات..
لأني ميت بالتقسيط..
علاقتي شاقولية بهم..
أدعو الحارس رضوان باستقبالهم
مثل سياح أجانب..
في نزل فخم بالفردوس..
وتعميدهم بدم يسوع ..
منحهم بطاقة مجانية
لحضور حفلات فلاسفة
في دار الأوبرا ..
أنا أحب الأموات..
يؤلمني نومهم الطويل..
تحت الأرض..
لكن حين تنضج
جلودهم الدبقة..
سيعودون الى العالم..
سيصعدون قمم الأشجار..
عبر نفق الجذور العميقة..
سيكاتبون الأبدية بحبر العصافير..
ويضحكون فوق رؤوسنا
لأنهم أوضح من غموضنا..
عميقو الهيولى ..
أسياد المكان والزمان..
وصناع مجد الأبدية .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى