إبراهيم محمود - فرْجَنة النص

تاريخ النص المكتوب، مهما كانت مرجعيته " أرضية أم سماوية"، يجهر بجنسانيته الصارخة، أعني بها: الحامل الذكوري لها. ربما يكون في ذلك تعدّياً على الحقيقة. إنما هل أُمعِن النظر في طريقة كتابته " من ألفه إلى يائه" لمعرفة صفة اليد التي باشرت بالكتابة، والفاعل الجنساني في ذلك، حيث لا يُشك في أنها هي ذاتها تذكّر بالخاصية القضيبية ذات الصيت تاريخياً؟

أن يكون النص جسداً " كما بات معروفاً ومقروءاً لدى قرّائه المعنيين "، وكما هو مقرَّر في بنية تكوينه المعهود إلى الآن، ربما يشكّل ذلك أقل من نصف التوصيف، حيث إن هناك " ما هو أكثر من النص غير المصرَّح به علانية، أو صراحة "، ما يضيء هذا النص المعتبَر كاملاً، أو هكذا يوحى. إنه النص الذي يطالب بتقديمه من الداخل، ومن قبَل اللغة التي كتِبت به، وأي مخاتلة قائمة، في تحريره، على مستوى الكلام، وماذا يحمل في طياته من تدابير معينة لجعل النص نصاً، إنما – تحديداً- لإظهاره نص حقيقة، وليس أحادي الجنس، لمن به نظر طبعاً.

سنتقدم قليلاً في هذا الممر المعتم كثيراً تاريخياً، بحيث يمكن إماطة اللثام عن التقليد الأكثر عراقة، الأكثر مكراً في هذا الإنسال الطويل المدى، في عملية الكتابة، وكيف أن أداة الكتابة، لا تحمل صفة قضيبية معينة، كما جرى ويجري وصفها فرويدياً" ربما هي المأثرة التي اتخذ منها فرويد وأتباعه، المصدر الرئيس لكل صنافة الاشتقاقات بباعها القضيبي العميق الأثر "، إنما ترتقي إلى مستوى القضيب، تكونه، وتفضح سرّه الذي يُتستَّر عليه، للتأكيد على غياب هذا المفهوم، بغية إيغال الأثر، الدفع به داخلاً، استجابة للنشوة المصمَتة، وإجراءاً ذكورياً لعوباً لاحتواء الآخر " الجسد الأنثوي في كليته" بوصفه مادة الكتابة، بوصفه الكتابة: الجسد، هنا وهناك، أي ما يكون عجينة مخدَّمة، طوع أمر " خميرة " الرجل، أعني بها ذكوريته.

لا أعتقد أن هناك مكاشفة لهذا الجانب الحي والخطير في تاريخ النص، وكيف صيرَ نصاً، وهو في مطروحه محوَّر فرجاً يحمل دمغة المرأة: الأنثى، والأنثى المختزلة في هذا البعد " المثقوب" الباعث على الطرب والانتشاء، طرف هو الآخر شاهد تاريخي على " بطاقة" منشأه.

الطرب ذو مفهوم سلطوي، والسلطة إعمال مأثور قضيبي فيما هو مجتمعي، من منظور الهيمنة، والطرف تعرية جلية لموجِده ومسمّيه، إذ ليس من طرب إلا بوجود ما أوجده: ما يكون مؤنثناً، أنوثياً، حيث يبرز تأرجح الجسد الطروب، وقوعه المنشود في حالة نعظية، أو سكَر، كما لو أنه استحال قضيباً بكامل عريه.

يتراءى الصوت الطروب في الطرف المقابل تمثيلاً لافتاً للجسد المحوَّل إلى جانب امتلاكي" جسد المرأة " وقد أفصح عن علامته الفارقة، كونه المذكّر بالجسد الذي سرعان ما يمهّد لاستدراج الآخر: الذكر، وقد انفرج له.

لا تخلو أي كتابة من معلَم طربي، وهو بأساسه الجنساني. طرب الرجل جنسانيته الملوّح بنسَبه القضيبي، وعلى مستوى الكتابة، تأتي المقاربة الأكثر قابلية لكشف المخبَّأ عن هذا الضلوع التاريخي التليد في الجرْم المشهود، وغير المعايَن في حقيقة أمره: حقيقة الكتابة بوصفها تمثيلاً جسدياً أنثوياً، وهو ينطق بأشكاله، ببِدَعه ذكورياً.

المنطلق هو الصوت نفسه، الصوت الذي أعطي المكانة الأولى، الاعتبار الأول، المنزلة الأولى قداسية صوت الرجل وهو في مساحته يجمع بين الحضور الحسي له، كما يشهد كلامه، كما تترجم اللغة مباشرة هذه القيمومة، والغياب الماكر الذي يتجذر في الميتافيزيقا بخاصيتها السماوية " من يتربع على عرش كوني ذكَر بامتياز "، ومن الطبيعي، في الحالة هذه، أن يحمل المنزَّل، وأن يقرّر المنزل خطاباً ذكورياً، وقد تم تحصينه في " لوحه المحفوظ".

في المنطلق لا يخفي الصوت متكلمه الرئيس، حيث تسلسلت صيَغ الكلام، فنونه، وقد استحالت آثاراً عينية، وأذنية في آن.

من النص المكتوب بألفبائه، من النص المنصوب بإيقاعاته " الموسيقى "، والمجسَّم " النحت " والمرئي " الرسم "...الخ، إلى آخر التمثيلات في الفكر والأدب والفن والعلم نفسه، عاش النص عراقته المخاتلة، زيف حقيقته، أي إطلاق سراح النص بوصفه نصاً محرَّراً من كل أحادية تعبير، أو تجنيس، ذلك هو الإنشاء الإمبريالي الأكثر مأثرة عمْرية في التاريخ.

ليس للرجل هنا إلا أن يقول خداعه، تمثيله الممسْرح، لتمرير المشتهى لديه، وهو أن يكون الضمير المتكلم: الذكري، حيث إن " أنا " هنا، تعنيه، وأن كلام المرأة باعتماده ، لم يجد حتى الآن، أي مقاربة نقدية له. تقول المرأة " أنا " كما هو حال الرجل. لكن فور البدء بالقول، حتى ينكشف العنف المعمول، حتى يظهر نوع التمثيل الاستلابي لجسد المرأة، عندما يفصح الضمير عن المضمر فيه، وهو أن ليس من " أنا " بصفة مميّزة لجسد الكلام، أو المتكلمة هنا.

من " الطبيعي " أو " المنطقي " أن تتجذر هذه المؤامرة ذات المرجع الماورائي والمصان فقهياً، وعلى أصعدة مختلفة هنا وهناك في لغات مختلفة، في النص الدال عليها، وقد تشرَّبها، كما هو الجسد الأنثوي الذي يتلقى الآخر المسيطِر بالنسبة للجسد الذكري، مع تغييب لذلك التكافؤ الذي يفصل بينهما، الذي يمنح المرأة حضوراً خاصاً، استقلالية مميّزة.

نكون هنا إزاء أكثر صيغ العنف عراقة وديمومة، على مستوى النص المكتوب، الذي يبدو غفلاً من الاسم الفعلي له، جهة الجنسانية، نص يسهم في كتابته كل من الرجل والمرأة، أو يطرحه الرجل كما لو أنه يعني الاثنين على قدَم المساواة، سوى أن مجرد تلمُّس السطح الملحوظ له، حتى ينكشف منطوقه، وهو أنه منتوج ذكوري، ومرعيّ ذكورياً.

في فرجنة النص، ليس من كلمة تصنَّف خارج ما هو جنساني، ليس من نص برّي هنا، إن أمكن التعامل معه، لبعض الوقت، حيث البرّية ذاتها في المعهود الجنساني ملحقة بهذه السطوة المرهوبة الجانب، كما تعلِمنا بذلك الأدبيات الميثولوجية، وكيف أن مطر السماء لا يعدو أن يكون منياً ذكورياً، لتكون السماء بالطريقة هذه حاملة قضيب هائل، مهيب، وهو يحيل ماء الأرض إلى فاعل خصوبة وإخصاب، كما تشهد بذلك دورة الطبيعة " طقوس الموت والانبعاث، تمثيل حي لذلك "، كما لو القضيب يشهد سباته الفصلي، أو حالة موات مؤقتة، ليعاود الانبعاث وممارسة دوره في منح الحياة للطبيعة مجدداً. من السهل إثْر ذلك تخيُّل هذا المشهد على مستوى الكتابة، حيث العلامة الفارقة قضيبية.

قضيب محمي، قضيبي، يختفي ويظهر، قضيب صامت وبليغ الأثر، قضيب مدشّن للحياة والموت وما بعد الأخير، عبر " سلطانه المبين ". ماذا بقي هنا سوى أن يستسلم النص لولي أمره، لولي نعمته، وما قرَّرته رغبته الجنسانية المقصد؟

هنا، وليس سوى هنا، ينفتح النص كما هي فرجته، كما هي العلامة المؤثرة والمثيرة في آن له، ما على النص إلا أن " يعترف " بالمراءاة التاريخية التي كانت المخرِج الأعرق في لعبة الدور التأمري على الجسد وكيفية اختزاله.

هنا، وليس سوى هنا، يحال النص إلى خاصيته الباعثة على إنشائه استجابة للسلطة النافذة فيه، لاستعماره مؤبداً، ونزع هذه الصفة، إبرازاً إلى أن الجاري وضع طبيعي ليس إلا.

في فرجنة النص، يمكن للباحث في أركيولوجيا"ه"، في نشأته، أن يكشف عن هذه اللعبة السافرة في التعامل مع النص بوصفه أنثوي الطابع، حيث يتصرف به قلم هو أداة كتابة، إنما هو تمثيل عضوي ذكوري، وما في هذا الأثر من عمى لم يعايَن كما ينبغي، ولو في الحد الأدنى، ولكل ذلك التفسير التاريخي ذاته، وهو يشغل موقع المراقِب والمعاقِب.

كيف لعملية الكشف هذه أن تتم، وقد استحال الجسد الذكوري نفسه قضيباً، حيث القضيب يستجيب لحافزه الحيوي، أو العضوي، كما لو أنه يعمل بعيداً عن أي مؤثر جنساني، عن أي محرك " بشري " له، وقد تداخلت فيه اللغة والكلام، ولم يعد لهذا القضيب إلا أن يشغل أفق الرؤية الكونية، قضيب مأمور، وقد أصبح آمراً، وقضيب آمر، وقد أصبح الجامع بين مختلف السلطات، كما هي فرجنة النص، حيث جسد المرأة محوَّر نصاً، ولكنه النص المتشكل بإمرة الرجل الذكوري، وهذا من جهته، معطوف على ما يسنده ويعضده ويرفده إيروسياً وحيوياً وماورائياً بكل متعه المرتقبة بعد الموت.

تُرى، من من الكتّاب نظَر في الممتد أمامه نصاً، وكيف انفرش له، وهو يثبت نظره على بؤرة توتر بالنسبة إليه، وقد استحال هو قضيباً خالصاً، والمنفرش له فرجاً؟

من أوهم الأوهام هنا، أن المرأة الناطقة، المرأة الكاتبة توحي لنفسها وهي تستعرض نصها، على أنها تعبّر عما يميّزها جسدياً، وفي الوقت الذي تفارق خاصيتها الأنثوية، وهي تنوب عن الرجل الذكر، إذ تكون قضيباً معاراً، والنص فرجاً لا يُرى على حقيقته، لنشهد زيفاً مركَّباً: الرجل المنزوع القضيب، والمرأة المعارة الفرْج. يا لطرب الرجل الامبريالي المعولم هنا ؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى