فاتن بالحاج صالح - قراءة في نص " إسعاد الموتى بتلميع الأرواح" للشاعر فتحي مهذب

يعتبر هذا النص نصا مغايرا بأتم معنى الكلمة هو مغاير لأنه يرفض السائد و المتاداول و الراهن و هذا الخروج عن السائد هو خروج عن السلطة و الرقابة و الحصار. ستناول النص من حيث اللغة والزمان و المكان و علاقة النص بقارئه المفترض. يظهر هذا القطع مع السائد انطلاقا من العنوان .اسعاد الموتى بتلميع الأرواح حيث تعودنا على العناوين المختزلة لكن العنوان هنا كان شديد الامتداد.
و مظاهر التجديد أيضا تظهر في كسر مرايا التعريفات الكلاسكية للزمان و المكان و في الاعلاء من قيمة اللغة بمعنى جعل اللغة هي النص و النص هو اللغة. من هنا نرى الشاعر يهدم ثم يعيد البناء .و بعبارة أخرى هو يجرب. فعلى مستوى المكان تعمد الشاعر فتح المكان على العالم و جعله أكثر امتدادا و أكثر اتساعا و أكثر انتشارا في المدى (ظهر فهد / مصح سري / بيتي / مصبات الأنهار/ نافذتي / مخيلتي / مقبرة مهجورة / الأماكن المظلمة / الإمكان...)
و هي أماكن تتراوح بين الأماكن الواقعية وهي الأماكن الخيالية . الأماكن الموجودة أصلا و الأماكن التي خلقها الشاعر... ذلك أن الشاعر يبحث عن جماليات خفية بالاشتغال على جمالية القبح و نصب الفخاخ لأكثر الاماكن غرابة و لا منطقية ..الهدف منه بناء فضاءات أخرى مغايرة. و الى جانب هدم المكان يهدم الشاعر أيضا الزمان اذ يكسر مع الزمن الميتافيزيقي فهو له لحظته و يتخذ من المسكوت عنه بوصلة فالشاعر اذ يؤرخ يؤرخ للزمن الهلامي الذي لا تقدر على الامساك به. ( العصر الوسيط/ في عز جنوني / في مخيلتي / في الليل / حين يهاجمني الفراغ... )
و نرى ان الزمن هنا موغل في الماضوية و الحداثية في ٱن معا و في الراهن الواقعي و الخيالي المتوقع معا . فهو زمن هارب من الزمن المقاس المعلوم . كسر الشاعر اذا مع الزمن الموضوعي في اتجاه خلق زمنه الخاص / الذاتي / المغاير / المتفرد / النتمرد ...
أما اذا تأملنا لغة القصيد فسنلاحظ أنها مختلفة اذ تتواجز الوظيفة التواصلية التي تعتبر اللغة أداة تبليغ الفكرة الى الوظيفة الجمالية و ذلك بالتعويل على تقنية اللعب بالأفعال ( تام - ناقص: عزف - بكى ) ( صحيح - معتل : جلب- باع ) ( ثلاثي - مزيد: قطع - أدار) و الأزمنة ( مضارع - مستقبل: أقطع - سأحلب) والصياغات ( البناء للمعلوم -البناء المجهول ) مما يجعل الاسلوب بذلك يخرج عن المعيار الذي لا يتشكل إلا في النص . أما في الإختلاف فان الشاعر جعل اللغة حقلا من الأعشاب الصالحة لدرء صدعات كبيرة ليبدو النص كالمسرح العبثي تصاحبه موسيقى مجنونة ( أعزف بكلاريناتي في ...تصاحبني - ايقاع أقدام..) يحيل الى الفوضى المرتبة و التعتيم الواضح و الذاتي الجمعي . ( أنا - أشباح - متصوفة - أرامل..) لذلك يجب أن يخلق القارئ نصا موازيا مع نص الكاتب ليصبح النص تبعا لذلك بخير عن كسره للتعاقب و دحره لسلطانه العاتي و اطلاله على ما وراء التعاقب من ثبات و ديمومة.) هو نص يحدث فينا الدهشة و يدفعنا التفكير لأنه نص لا يقدم الأجوبة بل يطرح الأسئلة و يدفعنا التفكير مع صاحبه في ايجاد الأجوبة عن أسئلة الذات و قضايا الوجود وهو ينصت باستمرار الى المهمش والمقصي و تمنحه امكانيات الوجود المختلف. فكيف بمكننا أن تجمع بين المتناقضات في نص واحد : ( الموتى - الأحياء / الأرواح - الأجساد / البشر - الأشباح ) هو نص ينصت باستمرار إلى المهمش و المقصي و يمنحه امكانيات الوجود المختلفة فالشاعر هنا منح لنفسه حق تناول الأشياء اليومية البسيطة و الأقرب إلى الفهم .فهو قد أحد ثم عن ( .اشباح من العصر الوسيط ٫ أقدام الأسلاف ' النتصوفة' أمي ' الشجرة للأرامل ' الموتى' الأرواح ) و كل هذه المفردات مرتبطة بمعجم تاريخي ثقافي ديني اجتماعي لكنه ربط معظم هذه الأسماء بصفات تنتمي لمعجم الجنون و الأمراض النفسية أو لمعجم الموت ( مصح الأمراض العقلية - يعانون من الصرع - دون سند عائلي - تبكي - دموع الأرامل ..) معنى ذلك أن تاريخنا قد مات و ثقافتنا الدينية مصابة بالصرع و مجتمعنا يتيم فاقد السند يحكمه ثلة من الأشباح من العصر الوسيط مصابون عقليا . نحن اذا في عالم مجنون و مجتمع مريض يحكمه الأشباح (الخرافات ) و الموتى ( الموميات و الشيوخ المرتبطون بالماضي ) فأين الأصحاء و أين الأسوياء و أين الحكماء و أين المثقفون ؟ من خلال المراوحة بين ضميري الغائب الجمع هم و المتكلم المفرد أنا يتبين لنا أن لا تواصل بين الهم رمز للٱخر أو الجماعة بمختلف تفريعاته ( المجتمع ' الساسة..) و الأنا رمز لذات الشاعر أي المبدع و المثقف و الحكيم . فما هي ردة فعل الأنا أمام الهم تتراوح بين الإيجابية ( ايواء - غسل - تهدئة خاطر - عزف - السعي لاسعادهم...) لكن كيف و ما هي الوسيلة؟" اسعاد الموتى بتلميع أرواحهم " دور المبدع الفنان هنا هو السعي لاسعاد الٱخرين عن طريق محاولة تحريك مشاعرهم بدغدغة أرواحهم بواسطة الفن شعرا أم رسما أم مسرحا أم موسيقى و غيرها . لأن تلميع الأجساد يؤدي الى تغيير مؤقت فالاجساد قشور أما الأمر الأصح فهو تلميع الأرواح لأنها اللب و الجوهر و الأساس و الرحى و قد عول لايصال هذه المقاصد على المفاهيم الثلاثة الٱتية ؛ الإيجاز و الشمولية و الكثافة .

الناقدة فاتن بالحاج صالح.

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى