أمل الكردفاني- كيف تنتهك حقوق الإنسان إنسانية الإنسان

ما هي معايير حقوق الإنسان؟
هناك توجه غربي شامل نحو (غربنة) كل العوالم الأخرى، بل أن بعض الآيدولوجيين الأمريكيين، يعدون العوالم الثلاثة (الرأسمالي، الشيوعي، دول العالم الثالث) من قبيل الماضي، مؤكدين على سيادة النظام العالمي الجديد، أو الأمركة (أنظر مثلا: مايكل دينينج، الثقافة في عصر العوالم الثلاثة، ٢٠١٣).
فهل نحن بالفعل قد تم شملنا داخل النظام العالمي الجديد؟ نعم نحن نرى كل هذه التغييرات التي تمت خلال الثلاثين عاماً الماضية، بعد سقوط جدار برلين، وإنهاء الخطر الشيوعي على الرأسمالية، ثم توجيه المدافع تجاه الحرب على الإرهاب لإخضاع الشرق بالكامل. وبعد نهاية الحرب على الإرهاب، تبقت جيوب مقاومة صغيرة، ومحاولات روسية صينية للمحافظة على الكبرياء التاريخي لهما. مع ذلك، فإعلان إنتصار الرأسمالية لم يكتمل بعد. فلا زالت هناك مبادئ حيوية لابد من كسرها أولاً. وسوف يتم كسرها عبر أدوات متعددة، وأهما اللغة المدغدغة للعاطفة، تلك التي لا تقل خطورة عن لغة الدين إن لم تفوقها تأثيراً، وتعزز تلك اللغة بتهديد مستمر وخنق إقتصادي وأمنى للشعوب المغيبة. إن ما حدث في لبنان من دعوة الآلاف فرنسا لإعادة إحتلال لبنان، وبعثة حمدوك لإحتلال السودان، مؤشران هامان لتحديد مدى نجاح الجهد البريطاني والأمريكي والفرنسي في هاتين الدولتين، بعد أن استسلمت باقي الدول.
غير أن هذا ليس كل شيء، فمن الأدوات التعبيرية، والتي تحولت لعلامة بطريركية، سنرى مسألة حقوق الإنسان، فحقوق الإنسان، هي الكلمة الأكثر عذوبة وتأثيراً على جميع المنهكين والمتعبين والمقموعين في هذا العالم. إنها كلمة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا ينبغي لها. ومن هنا سنوضح أننا غالباً ما نستخدم تلك المدغدغات اللغوية بغير تفكيك لبنياتها ومن ثم إبصار النصف المظلم منها.
نعم، لا يمكن إنكار هيمنة هذه الكلمة السحرية على روح كل ثائر وكل تائق للحرية، ولكنها هيمنة تعمي الأبصار حين تخفي وراءها الحرب العالمية الثالثة (والتي هي حربٌ مفاهيمية ونفسية بإمتياز) ضد الإنسانية جمعاء.
هناك حقوق، الطفل، المرأة، المثليين، البوذيين، المسلمين، عبدة الأصنام، بل وحقوق النباتيين، واللحوميين، والمتعرين، والرياضيين، والمدخنين..الخ فكل شيء يمكن أن يكون داخلاً ضمن جوقة حقوق الإنسان، فالمصطلح مطاط جداً، بحيث يسع كل شيء ما دام الإنسان (كفرد) هو كائن حر. له أن يكون ما يريد أن يكونه. بغض النظر عن لغته ودينه ولونه وعرقه، أي بغض النظر عن الجماعة. إن حقوق الإنسان بما هي كذلك، تنتزع الإنسان من الجماعة، وتلقي به في الفردانية، أي تحوله من إنسان إلى (فرد). والفرد ليس سوى رقم إحصائي، بلا مضمون إنساني. يتم هدم الخصوصيات الثقافية، عبر تفكيك مجتمعاتها فرداً فرداً. وهكذا ينسى الفرد أنه كان إنساناً من قبل، حيث يستقل بذاته، ليدافع عنها ضد جماعته، أي ضد أي قيمة تُستمد من تلك الجماعة التي كان ينتمي إليها. فحقوق الإنسان على هذا النحو الراديكالي الذي يُشهر في الخطاب الغربي نحو الآخر، ليس أكثر من تشييء للإنسان، أي تحويله من إنسان لشيء، وهكذا يدخل كفرد في الآلية الرأسمالية أعزلاً تماماً من أي قوة يستند إليها ليقاوم. فما تفعله حقوق الإنسان في الواقع هي أنها تضعف الإنسان وتقوي الفرد. الإنسان الذي يجب أن يظل إنساناً حتى بمشاعره المتناقضة كالحب والكره، والعدل والظلم، والتساهل والتزمت، وليس روبوتاً جامد الحس..إن هذا الحق هو الأهم في حقوق الإنسان، والذي تنتهكه خطابات الدفاع عن حقوق الإنسان نفسها.
ولكن كيف انخدع العالم بهذا الخطاب؟
إن العالم، انخدع لأن المصطلح نفسه كان مزيفاً في جزء منه، فالمصطلح الحقيقي -أو الذي كان سيعبر عن حقيقته بالفعل- هو مصطلح (حقوق الفرد). لقد أدى استبدال كلمة إنسان بكلمة فرد، فهذه الأخيرة مفردة جافة جداً، فاضحة أكثر من جفافها، حيث تعكس ذلك (العزل) المتعمد للفرد عن جماعته (ثقافته)، وذلك تماماً كما تفعل المفترسات بعزل الفريسة عن قطيعها قبل اصطيادها. والصيد هنا هو تسخير الضعف للإستسلام التام للتروس الرأسمالية الضخمة، كما هو حاصل بالفعل في أمريكا. أن تتحول تلك الغالبية من البشر (وهم الأقل إنتاجاً إبداعياً) إلى عُمال مسحوقين في العمل، إذ لا يملكون سنداً إجتماعياً يمنحهم طمأنينة الكسل. سيوفر ذلك على الحكومات دعومات إجتماعية بمليارات الدولارات، وسيتم التخلص من كبار السن والمعاقين كما حدث في أزمة كورونا هذه، حيث تُهمل المستشفيات الأوروبية والأمريكية كبار السن وشديدي المرض من أجل الشباب الذي هو القوة العاملة في التروس الرأسمالية، دون أن يجد ذلك أي مقاومة بدفاعات إنسانية (مجردة) من تلك الشعوب. هذا هو الهدف الأساسي من ذلك القصف المستمر بمصطلح حقوق الإنسان على الدول الذي لا زالت تحاول الحفاظ على إنسانيتها؛ من أجل أن تفقد إنسانيتها ..تماماً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى