د. محمد عرفات حجازي - برتراند رسل والحكمة من دراسة الفكر اليوناني

يتّخذ الناس في عصرنا الحاضر موقفين متعارضين تجاه الفكر اليوناني. الموقف الأول، وهو الأكثر ذيوعًا: ينظر إلى اليونان باحترام يكاد يبلغ حدّ الخرافة، معتبرًا أنّهم مبدعون أفضل الجوانب في كلّ شيء، وأنّهم رجال ذوو نبوغ خارق للطبيعة البشرية بدرجة يستحيل معها على المحدثين أن يرجوا الوقوف معهم فيه على قدم المساواة. أمّا الموقف الثاني، والذي أوحت به انتصارات العلم: فيعتبر سلطان القدماء كابوسًا جاثمًا، وأنّه من الأفضل اليوم أن ننسى معظم ما أضافوه إلى عالم الفكر.
إنّ كلًّا من الرأيين السابقين بعضه على صواب وبعضه على خطأ، ومن هنا يحاول برتراند رسل، في كتابه "تاريخ الفلسفة الغربية"، أن يقرّر أيّ نوع من الحكمة يمكننا حتى اليوم أن نحصّله من دراستنا للفكر اليوناني.
يعتبر رسل أنّ اليونانيين هم الذين خلقوا التفكير النظري خلقًا، ذلك التفكير الذي استقلّ لنفسه بحياة خاصة به، ونموّ خاص به، والذي برهن على أنّه قادر على البقاء والتطوّر، خلال أمد يزيد على ألفي سنة.
لقد استكشف اليونانيون الرياضة، وفنّ التدليل القياسي. إلاّ أنّ ضيق نظر اليونان وانحصاره في جانب واحد يظهر في الرياضة؛ فتفكيرهم كان يتّجه بهم في التدليل على نحو قياسيّ، يبدأ من البديهيات، ولم يكن استقرائيًا يبدأ من الحواس.
ويرى رسل أنّ اليونان قد وفقّ في التفكير القياسي توفيقًا هائلًا، ضلّل العالم القديم، والشطر الأعظم من العالم الحديث. ولأنّ المنهج العلمي الاستقرائي لم يستطع، إلّا بخطوات وئيدة، أن يحلّ محلّ العقيدة الهيلينية التي تؤمن بالاستدلال القياسي الذي يبدأ من البديهيات، يذهب رسل إلى أنّ من الخطأ أن نعامل اليونان باحترام خرافي، وإنّ محاولة تمجيدهم بالتصغير من شأن التقدّم العلمي الذي تمّ في القرون الأربعة الأخيرة لممّا يقعد بالفكر الحديث عن النهوض.
وثمّة حجّة أخرى، أهمّ، ضدّ المغالاة في احترام غيرنا، مفادها أنّه إذا أقبلت على دراسة فيلسوف، كان الموقف الصحيح هو ألّا تشعر نحوه باحترام ولا باحتقار؛ بل أن تنظر إليه أوّل الأمر بنوع من مشاركته وجدانه مشاركةً تقوم على افتراض أنّك توافقه وجهة النظر، حتى يمكنك إدراك شعورك حين تؤمن بنظرياته؛ وعندئذ فقط، يمكن أن تقوم بدور الناقد، وهو موقف يجب مطابقته قدر الإمكان بالحالة العقلية لشخص في سبيله إلى نبذ آراء كان يعتقد في صدقها.
وفي هذه الحجّة الأخيرة، قد يتسلّل الاحتقار إلى موقفنا في نصفها الأول (موافقة الآخر وجهة النظر)؛ وقد يتسرّب الاحترام إلى موقفنا في نصفها الثاني (نبذ الشخص لآراء كان يعتقد صدقها).. وهنا يشدّد رسل، على ضرورة أن نظلّ ذاكرين لنقطتين؛ الأولى: هي أنّ الرجل الذي استحقّت آراؤه ونظرياته أن تكون موضع درس، لك أن تفرض فيه أنّه كان على قدرٍ من الذكاء. والثانية: هي أنّه لا يحتمل أبدًا لأيّ إنسان أن يكون قد بلغ الحقّ النهائي الكامل في أيّ موضوع؛ فالرجل الذكي إذا ما عرض أمامك رأيًا ظاهر البطلان، لا ينبغي أن تحاول البرهنة على أنّه مصيب على وجه ما من أوجه الصواب..
ويخلص برتراند رسل، إلى أنّنا بهذا المران على الخيال التاريخي والنفسي، نزداد في أفق تفكيرنا، وفق تبيّن مقدار الحماقة في كثير من أهوائنا الفكرية العزيزة على نفوسنا، إذا نظر إليها أبناء عصر آخر يختلفون في مزاجهم العقلي عن أبناء عصرنا..



L’image contient peut-être : 5 personnes










تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى