أمل الكردفاني- ثقافة التعفن

الطبقة المسحوقة، تتعامل مع الحياة بشكل فاعل جداً، تحاول اختصار الزمن لأداء عمليات حياتية استراتيجية بشكل يومي، أي أنها عمليات من أجل البقاء، وهي كذلك لأنها يجب أن تتم بأدوات قليلة جداً، وهي أدوات تنتجها الطبيعة، كالاحتطاب، جمع الماء من الترع والأنهار، بناء أكواخ من القش والطين، تربية المواشي والقليل من الزراعة، وغالباً ما يتم استخدام المنتج الطبيعي الواحد لتحقيق عدة أغراض؛ فالطين لبناء كوخ، وأيضاً لصناعة الأواني، الذرة لعمل كسرة وعصيدة، ولعمل شراب مُحلَّى وشراب مسكر، ولإطعام بعض الحيوانات، والأشجار للاحتطاب ولسقف المنازل وصناعة الأثاث من مقاعد وأسرة وطاولات..، غير أن الطبقات المسحوقة لمَّا تفلتت من حياة الريف إلى حياة المدن، وجب عليها أن تمارس أعمالاً أشد قسوة من حياة الريف، إذ تتسع المنافسة بين الإنسان والآلة من ناحية، وبين الإنسان والإنسان من ناحية ثانية..فنَقْف آبار السايفونات، وجمع القمامة، وكنس الشوارع، وغيرها من الأعمال، لا تستدعي قوة عضلية بقدر ما تستدعي قوة نفسية، قوة نفسية حيوانية على وجه التحديد. وبالتالي التعايش مع العفونة، تعايشاً براغماتياً؛ فكلما زاد الاندماج مع العفونة كلما استطاع الإنسان المنافسة في سوق العمل الخاص بتلك الأنشطة التي ينفر منها باقي البشر. وإذا كان هذا طبيعياً جداً بالنسبة لقواعد اللعبة البشرية، أي لعبة الصراع الأزلية، فإن النظافة تعد عاملاً سالباً يضعف الإنتاجية، وهكذا تتشكل ثقافة العفونة عند الطبقات المسحوقة، وأعتبرها ثقافة لأنها تتحول من كتلة مفاهيمية أداتية إلى أسلوب حياة، يتم توارثه من الآباء للأبناء، حتى لو لم يعمل الأبناء في تلك المهن التي تتطلب العفونة. فالكمساري (محصل النقود)، ماسح الأحذية، الفريشون في الأسواق، بائعو الأطعمة في المناطق الفقيرة، غاسلو السيارات، عمال المصانع...الخ؛ هؤلاء وغيرهم يمكنهم أن يمارسوا هذه الأعمال دون الحاجة للإغراق في العفن، لكنهم لا يفعلون، لأنهم اكتسبوا العفونة كثقافة جمعية، تنتقل من جيل لآخر. يمكننا مثلاً أن نلاحظ الفرق بين عامل هندي وعامل ياباني، بل عامل فلبيني، سنجد أن ثقافة التعفن تقل عند الياباني وتبلغ اقصاها عند الهندي وتتوسط عند الفلبيني. يرفع الوضع الإقتصادي للدولة من مستوى النظافة العامة، ولكن ليس في كل الأحوال، خاصة إذا لم يواكب التقدم الإقتصاديَّ تقدمٌ ثقافي. وعلى هذا سنجد ثقافة التعفن متوفرة في أغلب الدول العربية والأفريقية، حتى الغنية منها. وسنجد أن الكثير من الأديان (كفلسفات روحية) تبنت ثورة ضد ثقافة التعفن، عبر ما يُسمى بالتطهر، الذي يتخذ أشكال مختلفة كالغطاس، والوضوء، والغسل...الخ. مع ذلك فإن هذه الأديان فشلت في تحقيق نتائج ملموسة، ففي الدول التي بها الكثير من الديانات كالهند والصين، والدول التي بها دايانة الإسلام والمسيحية، لا زالت ثقافة التعفن هي الغالبة، خاصة في آسيا وأفريقيا.
وعلى الرغم من أن التعفن من المفترض أن يورث الأمراض، إلا أنه يعتبر أكثر تحرراً من مقابله (النظافة).. إذ ليس الأمر متعلقاً بتكاليف النظافة من مياه وصابون ومعاجين الأسنان وعطور..الخ فقط؛ بل أن ثقافة التعفن تحقق جانبين نفسيين مهمين؛ الأول، هو الشعور بالحرية، والثاني -وهو الأهم- الإندماج في الجماعة. وفي أحيان كثيرة، تعتبر النظافة ثقافة مضادة للتواضع الإجتماعي. ومن ناحية إقتصادية توفر ثقافة التعفن واجهة لطلب العمل. فمن يحتاج لعامل لن يتجرأ على طلب العمل من شخص نظيف يرتدي بدلة وربطة عنق. لذلك فالتعفن علامة تجارية للشغيلة. إن العامل يعلن قابليته لأداء أي عمل عبر واجهته المتعفنة تلك، كنس الأرض، تجفيف البالوعات، نقل الغائط، ..الخ...فالعرض يزيد الطلب. وتفترض العفونة قدرات لازمة أخرى كقوة التحمل العصبي والقوة العضلية، حتى ولو لم يكن ذلك حقيقياً..لذلك تستخدم ثقافة التعفن في التدريبات العسكرية الشاقة، إذ يجب أن يتحمل الجندي العفن وأكل ما تتقزز منه النفس عندما يكون في ساحات المعارك، أو معسكرات الأسرى أو هاربا منها..أو حتى محاصراً من العدو. وهكذا فثقافة التعفن ترتبط بالتخلي، أي النزعة إلى التعامل مع ما هو موجود فقط، أشجار، حيوانات، إخراجات،..الخ..وبالتالي تمثل ثقافة التعفن إستقلالية للفرد، فمن يتمتع بثقافة التعفن، يستطيع أن يسافر إلى أي مكان ويعيش في مختلف الظروف القاسية دون خوف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى