نجيب شاهين - علاقة شوقي باللبنانيين في نظر الدكتور مبارك

قال شوقي في يوبيله إنه يهتدي بهدى المتنبي في أدبه واعترف له بالسبق اعتراف أبي العلاء به قبله

وشوقي في ملتي واعتقادي - كلمتي أبي العلاء - أعظم شاعر بعد أبي الطيب بغير استثناء، ولا يخرج من هذا الاستثناء أبو العلاء. وله مواقف لم يقفها المتنبي نفسه بل سائر من سبقه

هذا هو رأيي وقد أكون مغالياً، ويكون سبب هذه المغالاة لوثة باطنية مما اصطلحوا عليه بلفظة ذاتية، وأكون مخالفاً فيها لجمهرة غالبة من أهل الرأي في الأدب والشعر وما يشتق عنهما. وقد أكون مصيباً، وفوق كل ذي علم عليم

جالست حافظاً حقبة من العمر في القهوة المناوحة (لدار الكتب الملكية) في باب الخلق كنت أوافيه فيها أياماً من الأسبوع وكلانا يدخن فيها نرجيلته، وكان حافظ هو المتكلم في الغالب، وكنت أنا السامع كعادته مع أصحابه، وكان أثناء بساطته (مباسطته) يمزح ذاماً للمتنبي مفضلاً عليه البحتري ناسباً انتصار الشاميين له إلى كونه شامياً مثلهم. ولم يكن كذلك تماماً لأنه ولد في بادية الشام وطوف في الشام ومصر وعاد إلى الشمال فمدح سيف الدولة الحمداني هناك، ثم هبط إلى طرابلس (الشام طبعاً) في أواسط الشام وأنشد فيها بعض مدائحه، ورحل إلى دمشق فأنشد فيها قصيدته الشينية على ثقلها، وأنتقل إلى فلسطين فمدح بدر بن عمار وقال فيه قصائده ومنها القصيدة المشهورة التي وصف فيها قنصه للأسود على ضفاف الأردن وبحيرة طبرية. ومنها يستدل على وجود الأسود هناك حينئذ مع أنها انقرضت الآن. وتنقله الكثير هذا بين الشام ومصر جاء مصدقاً لبيته الذي يقول فيه:

بأي بلاد لم أجرَّ ذؤابتي ... وأي مكان لم تطأهُ ركائبي

فإن كان الشام وطناً له فقد كان وطناً ثانياً، وهل أقول إنه كان دخيلاً فيه!

وكان يعرض لنا في مجلسنا ذكر شوقي طبعاً، فإذا ذكره بعض حساده بسوء ولغوا في ذمة تصريحاً أو تعريضاً لم يشاركهم حافظ ولم يردهم، بل كان يلقي لهم الحبل على الغارب تساهلاً وتهويناً لا تشجيعاً لأنه كان من أشد المعجبين بشوقي حقاً أجيء الآن إلى تعليل قول الدكتور مبارك إن شوقي تغنى بالمسيح إيفاء لمتأخرات دين عليه للسوريين؛ وهو تعليل واهٍ، لأن أعظم إشادة لشوقي بالسيد المسيح احتوتها قصيدة الهمزية التي نظمها في أواخر القرن الماضي وألقاها في مؤتمر جنيف سنة 1894 أي منذ نحو نصف قرن وفيها:

ولد الرفق يوم مولد عبسى ... والمروءات والهدى والحياءُ

وازدهي الكون بالوليد وضاءت ... بسناه من الثرى الأرجاءُ

وسرت آية المسيح كما يسري ... من البحر في الوجود الضياءُ

تملأ الأرض والعوالم نوراً ... فالثرى مائج بها وضاءُ

لا وعيد، لا صولة، لا انتقام، ... لا حسام، لا غزوة، لا دماءُ

لم يكن شوقي حينئذ قد اشتهر ولا عرف الشام أو عرفه أهله وسمع به أدباؤه وشعراؤه. وكانت بضاعته قليلة على سمو نوعها، ورأس ماله، صغيراً، ولا دين له أو عليه يوفي به دائنته.

فليس تعليل الدكتور بحاو شيئاً من حسن التعليل. وكنت قد عللت مدائحه للمسيح بقراءته للتوراة والإنجيل قراءة دارس لها شأن كل أديب شاعر بلغ من الأدب شأواً رفيعاً ولا سيما أن الأدباء الغربيين متفقون على القول أن سفر النبي أشعياء في التوراة قطعة راقية من النثر الشعري بالعبرية، فرأى شوقي من الغضاضة عليه كشاعر فحل ألا يلم بذلك السفر ويعرف ما يحويه كأدباء الغرب وكما يناسب مقامه كشاعر شوقي من الطراز المعلم

والظاهر أنه قرأ سفر أشعياء، وما ورد في قصيدته الأندلسية الميمية مقتبس منه. فقد جاء فيها قوله:

عيسى سبيلك رحمة ومحبة ... في العالمين وعصمة وسلام

ما كنت سفاك الدماء ولا امرأ ... هان الضِّعاف عليه والأيتام

يا حامل الآلام عن هذه الورى ... كثرت عليه باسمك الآلام

فهذا البيت الأخير مقتبس من قول أشعياء في نبوته عن المسيح: (لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها. . . وعبدي البار يبر كثيرين وآثامهم هو يحملها. . . ولقد حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين) ولست أذكر: أقال شوقي (يا حامل الآلام) أم (يا حامل الآثام) وكلا القولين واحد لأنه كُنى بالآلام على الصليب في اعتقاد المسيحيين عن آثامهم الموروثة عن آدم الأول. ويقول علماء المسيحية إن أشعياء تكلم عن المسيح بروح النبوة قبل مجيء المسيح بما يقرب من ألف سنة

بهذا الاتفاق في قول أشعياء وشوقي يبعد أن يكون توارد خواطر بينهما

وإذا تغنى لبناني بشعر شوقي فللسبب الذي يتغنى بشعر المتنبي اللبناني وشوقي، لا لجامعة جنسية أو دينية بين الثلاثة، بل بجامعة الأدب التي لا تميز بين الأديان والأوطان والتي من أجلها قدم امرؤ القيس النصراني على غيره من شعراء الجاهلية، وسوى بين الفرزدق وجرير المسلمين والأخطل النصراني في الدولة الأموية. وفتح لبنان أبوابه مرحباً بشوقي، وفتح أدباء مصر صدورهم لشبلي الملاط وللأخطل الصغير

نجيب شاهين




مجلة الرسالة - العدد 496
بتاريخ: 04 - 01 - 1943
أعلى