أحمد رجب شلتوت - فكّر بالمنطق، واكتب بالخيال..

أدباء ونقاد ينصحون: فكّر بالمنطق واكتب بالخيال
حاول كين روبنسون في كتابه «صناعة العقل» تعريف الخيال فقال، إنه هو الرؤية بعيون العقل، مؤكدا على أن العقل البشري يتميز عن عقول الحيوانات، بامتلاكه القدرة على التخيل. وقال الرسام والشاعر الإنكليزي وليم بليك، «إن الخيال ليس حالة، إنه الوجود الإنساني ذاته».
ولا يكتسب الأدب أدبيته إلا من الخيال، ولا يتحقق الإبداع عموما إلا بالخيال، ولا يعني ذلك مجافاة المنطق والحقيقة.
وعن العلاقة بين الحقيقة والخيال في الإبداع، ودورها في الإلهام الذي يقود المبدعين لنسج نصوصهم الأدبية، وابتكار شخصيات أعمالهم يدور هذا التحقيق.
التحام الخيال بالمنطق
يرى الناقد والروائي المصري سيد الوكيل، أن التحام الخيال بالمنطق هو بالضبط آلية عمل الدماغ البشري، فهو قادر على أن يجعل منهما شيئا واحدا، فعندما يتمكن اللاوعي من السيطرة على الوعي، يتوه الإنسان في دهاليز مظلمة وعبثية. ورغم أن فرويد اعتبر المبدعين عصابيين، إلا أنه نبّه إلى مهاراتهم في الذهاب إلى أقصى حدود اللاوعي، ثم العودة مرة أخرى إلى الوعي. ويوجز سيد الوكيل خلاصة تجربته مع الإبداع في قوله «أفكر بطريقة منطقية، وأكتب بطريقة خيالية»، فذلك يضمن عملا خياليا متماسكا ومقنعا، حتى أن بعضهم يعتقد أن ما كتبته في رواياتي عن بعض الشخصيات العامة المعروفة، هو من قبيل حدث بالفعل. وأن ما كتبته من أحلام مترعة بالخيال، هي أحلام بالفعل، أما من يؤمنون بأن العقلانية تفسد الخيال فيسلمون أنفسهم له في كل شيء، فهم يسلمون أنفسهم لهوة مظلمة ومترعة بالضلالات، ومهما كانت روعة ما ينتجونه من خيال، قد يتحولون إلى شخصيات ذهانية. ولو نظرنا حولنا لرأينا عشرات الذهانيين يجوبون الشوارع، نجن نتحاشاهم ونعتبرهم مرضى خطيرين، بينما هم في واقعهم الداخلي ينظرون إلينا باعتبارنا كائنات غريبة. صحيح هم مرضى، ولكنهم في الأصل كائنات سوية، وغالبا كان متميزين في عملهم أو دراستهم، لكن لا وعيهم تمكن من السيطرة على وعيهم، حتى التهمه تماما.
الخيال والوجود
ترى الأكاديمية والناقدة العراقية نادية هناوي سعدون، في الخيال عونا للمبدع لاستخلاص الحقيقة الجمالية، وهو الذي يرتفع بالواقعي الحسي إلى التجريد الجمالي، فيتحقق التقاء الفن بالفلسفة. وكلما كان الخيال خصباً كان الإبداع حافلاً بما هو جديد وغير مألوف. والفيلسوف الأصيل كالأديب الأصيل غذاؤه فكري أساسه العقل، وخيالي أساسه الإلهام والفطرة. وينطوي الفهم المنطقي لمعنى الحقيقة على إشكالية معرفية، منها أنّ الحقيقة الفلسفية لا سبيل إلى بلوغها البتة، ومنها أن الحقيقة جمالية وهي تتجلى في الإبداع من خلال الإلهام، حيث يمتزج فعل العين بفعل العقل وتنغمس التجربة العقلية في التجربة الجمالية، التي عناصرها اللون والإيقاع والفضاء والمنظور، فيتحقق الاستمتاع. وباجتماع اللذة بالمعرفة نصل إلى التنوير في توظيف سلطة الفكر. ونحن قد ندرك بالخيال ما لا ندركه بالعقل والحواس، كما أنّ في ترابط السحري بالواقعي والعقلي بالبصري والنفعي بالجمالي نكون أمام رؤية ما وراء عقلية بها تفصح الأشياء عن حقيقتها. وهو ما جعل فرجينيا وولف ترى الخيال في العمل الإبداعي مثل خيوط العنكبوت «قد يكون اتصاله بالحياة بخفة متناهية ولكنه متصل بها من كل ركن من أركانه الأربعة».
ثالوث الإبداع
أما الأكاديمي العراقي خالد علي ياس فيرى أن «الحقيقي والواقعي والمتخيل» أضلاع تشكل الثالوث المنتج للإبداع، ويأتي هذا الثالوث نتاجا للعلاقة الجدلية بين واقع الأشياء وخيالها، في تكوين نظامها الخاص، وبحسب طبيعة تكوينها الجمالي بنية ورؤية، فرسوخ قاعدتي الواقعي والخيالي في تكوين الإبداع، جعل من الواقع تمثيلا للحقيقة، بينما التخييل يمثل المفارقة الفنية لهذه الحقيقة، وهذا هو ما دفع ناقدا مثل فولفانغ آيزر، للانطلاق في حديثه عن الأمر من خلال ثلاثية (الواقعي والتخييلي والخيالي)، ودفع قبله ت.ي.أبتر، لكي يؤكد على أنّ أساس أي إبداع هو التّحولات الخيالية، والانزياحات عن الحقيقة الواقعية، التي أنتجتْ بالضرورة فانتازيا الإبداع، وهنا يجب أنْ ننطلق في إدراكنا للقضية من خلال مصطلح حقيقة، بوصفه الأنموذج الأساس في المحاكاة، مع التّأكيد على اختلافه، على الرغم من تداخله مع مصطلح واقع، وهو ما يؤكد اللبس الكبير في الاستعمال بينهما، كون الأول يمثل العالم كما هو، بينما الثاني يمثل العالم الإبداعي المنطلق من جمود الحقيقة إلى رحابة الخيال الإبداعي، ليغدو الواقع هجينا بين الحقيقي والمتخيل، وهذه معادلة تؤكد انفراد الخيال بنزوعه وتمركزه في بنية الإبداع، بعيدا عن أي حقيقة صارمة، وتأتي بذلك تدرجاته العديدة في التّعبير الفني عن انزياحات الابتعاد الجمالي، والانتقال من الواقع الممكن تحققه إلى الخيالي المتحقق بفعل الإبداع، وهذا ما يبرر تحولات الرّؤية الإبداعية في علاقتها بهذه العناصر الثلاثة، انطلاقا من واقعية تسجيلية، مرورا بواقعية سحرية وصولا إلى واقعية افتراضية، تنتهي الحقيقة عند عتبتها، لتبدأ حقيقة ثانية ينتجها الإبداع نفسه، ولكن بقوانينه وأنظمته الخاصة، وهذا ما يجعل هذه التّساؤلات منطقية، كونها معبرة عن حالة انتقال من المادي إلى الفيزيقي، بحثا عن الوهمي المتصور إبداعيا.
مومياء لغويّة
ويرى الشاعر والروائي السوري هوشنك أوسى، أن الأدب ليس حصيلة لغويّة محضة، فاللغة في الأدب تجسيدٌ وحسب، والروحُ فيهِ الخيالُ. إذ الأدبُ دونَ خيال، محضُّ مومياء لغويّة محنّطة. ذلك أنه بإمكانكَ تعليم وتلقين أيّ شخص لغةً ما، لكنكَ لن تكسبه القدرة على التخيُّل. وبالنسبة لي، فنجاحُ أي نصٍّ أدبي، أحيلُ 50% منهُ إلى الخيال الكامن فيه، و40% إلى اللغة التي حاولت تجسيد هذا الخيال على صعيد بناء السرود وتكويناتها من أشخاص وحيوات وأمكنة وأزمنة، و10% إلى الأفكار والأسئلة التي يطرحها النصّ. وأقيس جودة الخيال لدى أيّ أديب بمدى اشتغاله في مناطق الاستثناء، وليس مناطق السائد المتعارف عليه، والمتداول من النصوص الإبداعيّة التي تشبه بعضها بعضا. الخيال في الأدب، يفترض تجاوز ذلك التقليد، حينئذ، يكون للأدب طابع استشرافي تنبّؤي.
جنون الاستعارات
وأخيرا يقول الروائي المغربي جلول قاسمي، إن الخيال بقوانينه المخصوصة، يعيد ترتيب العناصر، ويجدد رصف الأشياء وأن لعبة الاستعارات تحتاج لبعض الجنون. مثل ولادة طفل بجناحين، أو فراشة برأس بشري، فالخيال يسخر من الوصف العياني للأشياء. هو ذا الخيال. وهي ذي أعرافه ومساراته. وفي الرواية نسأل عن حظها من الخيال، وهي تلتقط مفردات الحياة، وتعيش نثر اليومي. هل تحتكم إلى شعرية كبرى هي شعرية النص الروائي في كليته؟ أم تخوض سبيلا أقرب إلى نهج الشعر؟ حيث اللغة أجنحة.. وما قيمة عمل ينقل واقعا ويتبعه حذو النعل للنعل؟ الحكايات، والمصائر والعلاقات، والأمكنة كلها علامات طي الخاطر. وفي العقل الباطن متسع للحلم، وللضجيج، ولمراودة المستحيل. والحكاية «كذبة الروائي» وحلمه، وعجزه، خيال الرواية يستعيض عن الغائب بحاضر يشاكله في غفلة من الوعي المنهك. ومن الحاضر الموبوء نخلق حياة نصية، نستلذ العيش فيها، ومن ثم ننقلها للآخرين. من نقصنا ومن عقدنا ومن وجعنا.. نكون ساحة احتفال كبير. هناك كذب شبيه بالذي قاله القدماء: «أعذب الشعر أكذبه» وهنا؛ يحق لنا أن نقيس، فنقول: أجمل الروايات أكذبها…

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى