نزار حسين راشد - نجيب محفوظ بين الأدب والسياسة

لا يمكن للأديب أن ينجو من المحاكمة السياسية، ببساطة لأن الكتابة موقف، فقد حوكم ألبير كامو أدبياً لموقفه من استعمار بلاده للجزائر، وأثني على همنجواي بسبب قتاله إلى جانب الجمهوريين، ضد فاشبة الجنرال فرانكو، إبان الحرب الأهلية الإسبانية، وهكذا وفي أجوائنا السياسية العربية المشحونة دائماً، وفي ظل حدث سياسي أثار عاصفة في أجوائنا السياسية، هو الاتفاقية الموقعة بين دولة الإمارات العربية وإسرائيل، تستعاد مواقف نجيب محفوظ السياسية، من تأييده لاتفاقية كامب ديفد التي وقعها أنور السادات مع إسرائيل، إلى تواصله مع كتاب إسرائيليين، لا بل امتداحه لهم وثناءه عليهم!
ليس بين الشاعر والروائي مسافة كبيرة، فكلاهما يفترض أنه يمثل الضمير الجماهيري، والحس الوطني العام، وفي الوقت الذي فجٍر فيه أمل دنقل قصيدته الخالدة لا تصالح في وجه السلطة السياسية، كان نجيب محفوظ يتخذ موقفاً ممالئاً لها.
يذهب النقاد في تفسير ذلك كل مذهب، إلا أنني سأذهب في اتجاه مختلف، ربما لم يذهب إليه أحد ممن خاضوا في الموضوع، مبررين أو مدافعين او حتى منتقدين ناقمين، وسأبسط وجهة نظري النقدية كما يلي:
لتفسير موقف الأديب او الروائي من قضيّة ما،ينبغي أن يُنظر إلى شخصيته، وتركيبته النفسية، من خلال سيرته وحياته، وليس فقط أعماله وإبداعاته.
وبالنظر إلى شخصية نجيب محفوظ وظروف حياته، نرى أن الرجل قضى ما يقارب ربع قرن موظفاً في وزارة الأوقاف، لم تحُل شهرته ولا إبداعه الروائي، من أن يستمرٍ في الجلوس على مقعد الوظيفة، ثم عقداً ونيف كموظف في هيأة السينما،
لم يتمرّد، ولم يحتج ولا اشتكى ولا تظلّم، ولم يتخذ مسار حياته أي منحى دراماتيكي، ولم يطرأ عليه أي تغيير جذري، ولهذا دلالة كبيرة على شخصية الرجل، فهو ألوف مطواع مسالم، لا يمتلك أية نزعة ثورية، ولا يتمتع بطبيعة رافضة، أو حدّية ثائرة، متكيف ومتصالح مع المتاح، وراضٍ بما هو عليه، وربما يفسر هذا نفسه الروائي الطويل، ذي الإيقاع الرتيب المتواتر، الذي ينظم الأحداث في عقد منتظم متسلسل، خالٍ من المفاجآت والأحداث الكبيرة، وقراءة واحدة لثلاثية قصر الشوق تُجلّي هذه الحقيقة بوضوح لا لبس فيه.
ولعل شخصية كمال عبد الجواد في الثلاثية هي الأقرب لشخصية نجيب محفوظ نفسه، فليس بدعاً أن الشخصية الروائية التي يسلّط عليها الكاتب الضوء تكون في العادة متماهية مع شخصيته بدرجة أو بأخرى.
فكمال ذو نزعة فلسفية تماماً كما هو محفوظ نفسه، وليس لديه أية رؤية ثورية، حتى أنه يكاد يعتبر استشهاد أخيه فهمي في دنشواي نوعاً من الموت العبثي، الأمر الذي يضاعف فجيعته به، إضافة إلى حبه له أيضاً، ويتحول الأمر في النهاية إلى فاجعة شخصية مؤلمة وليس تضحية من أجل قضية تستحق هذه التضحية!
فإذا عطفنا على رواياته الأخرى كأولاد حارتنا والتي أرى أنها عمل مسرحي ألبسه نجيب ثوب الرواية، ثم الحرافيش وقلب الليل وزقاق المدق والسراب، فليس من الصعب أن نستنتج أنها كلها يطغى عليها ذلك الحس القدري، الذي لا يرسم نهجاً للخلاص، بقدر ما ينحو إلى التسليم بالممكن واللعب بما هو متاح.
هذا المنحى الغيبي يطغى بالذات على شخصيات أولاد حارتنا، وإن كان محفوظ قد غلفها بتفسير أنثروبولوجي، يضع اللوم على طريقة تطور المجتمعات البشرية والفكر البشري، هذا التطور المسجون داخل حتمية لا تستطيع الشخصيات الفكاك منها بإراداتها الذاتية المحضة.
حتى وإن كان نجيب محفوظ قد رمز للشخصيات المقدسة وحتى الإله برموز بشرية، إلا انه يضع المصير البشري داخل التفسير الديني المحض: قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء قال إني أعلم ما لا تعلمون"
والذين حاكموه بتهمة الكفر لم ينفذوا في الحقيقة إلى أعماق رؤيته بل وقفوا عند تمثيله للمقدسات برموز بشرية.
وإذا نفذنا في الرؤية والاستكشاف إلى أبعد من ذلك، فسنتلمّس عبثية طاغية في رؤية محفوظ للحياة وللكون، وحتى العلاقات الإجتماعية هي منظومة ظرفية لا تحكمها لا الجدلية الماركسية ولا صراع الأضداد الهيجلي، بل هي دائرة مرسومة تتحرك داخل محيطها الشخوص والأحداث.
لقد وقف محفوظ في تعبيره الروائي على باب تلك الحيرة الوجودية، لم يتخط أعتابها لا إلى الثورية الماركسية، ولا إلى السياسية الإسلامية، التي تريد استعادة نموذج مفقود بفعل تفريط الحُكّام في أمور الأمة كما ترى.
وفي الحقيقة فإن هذه الرؤية بكل أبعادها هي التي أملت على محفوظ موقفه السياسي.
فليس هناك أعداء بالمطلق، وليس هناك مباديء ثابتة ولا حتى قضايا مقدّسة، وبالتالي فلا ضير أن نمُدّ اليد لمن يصنفه الآخرون عدّواً، ما دمنا لا نقيس أصلا بمقاييسهم، والقاريء للثلاثية يبصر بوضوح أن الكاتب نفسه يرى ان انتماء الشباب لتنظيمات الإخوان والشيوعيين ليس إلا مراهقة سياسية، عديمة الأثر في تغيير مجرى الأحداث، التي لا تحركها إلا الأقدار الغامضة، والغيب الذي لا سبيل للرؤية البشرية القاصرة إلى سبر غوره!

نزار حسين راشد
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى