أحمد رجب شلتوت - في رواية حصن الزيدي.. السلطات تتشابه مهما اختلفت مرجعياتها

عبر فولتير عن رؤيته لقصور التاريخ الرسمي بقوله “ لقد كتبنا تاريخ الملوك ولم نكتب تاريخ الأمة”. فالتاريخ الرسمي دائما ينطق بلسان السلطة ويحتفي بالسلطان متجاهلا عوام الناس مع أنهم هم الذين يصنعون التاريخ بدمائهم، فلما ظهرت الرواية حاول مبدعها أن يؤنسن التاريخ فاحتفى بالمهمشين والمقهورين وكل من أغفلهم المؤرخ الرسمي، هكذا نشأ التعارض بين دوري المؤرخ والروائي، وقد تصدى لدراسته كثيرون منهم الدكتور فيصل دراج، خصوصا في كتابه “ الرواية وتأويل التاريخ” حيث يقول أن “الروائي العربي يستدعي المؤرخ ويطرده لأكثر من سبب، فالمؤرخ يقول قولا سلطويا نافعا ولا يتقصى الصحيح، يهمش تاريخ المستضعفين، ويوغل في التهميش إلى تخوم التزوير وإعدام الحقيقة.. ولهذا يقوم الروائي العربي بتصحيح ما جاء به المؤرخ، وما امتنع عن قوله”. وهو بذلك يشير إلى ما يجب أن يقوم به الروائي حينما يتخذ من أحداث التاريخ مادة لعمله الإبداعي، فرهانه أن يتعقب الفراغات التي أهملها التاريخ الرسمي، وأن يذكر ما أغفله المؤرخون، وأن يعي دائما أن دوره التأويل وليس إنتاج معرفة تاريخية.
تحولات الحصن
رواية “ حصن الزيدي” هي الرواية الفائزة بجائزة راشد بن حمد لعام 2019، والصادرة عن دار نوفل للنشر والتوزيع في بيروت، تتخذ من الحصن عنوانا لها، وهو بؤرة الأحداث باعتباره رمزا للسلطة، لذلك فالأقسام الثلاثة المكونة للرواية تنسب الحصن للسلطة المهيمنة، مرداس (القبيلة) في القسم الأول، والزيدي (رجل الدين) في القسم الثاني، أما الثالث والأخير فالنسب للضابط الذي يحكم باسم الثورة. تبدأ الرواية بمشهد سينمائي متقن، حيث تركز الكاميرا على عبدالجبار ملقى على الأرض، ينقل نظره من بندقية أبيه الشيخ مرداس إلى عيني الأب، لحظات وتنطلق رصاصة تردد الجبال صداها، لقطات متعاقبة تصور مشهد قتل شيخ الحصن لابنه الكبير، ثم تنتقل الكاميرا إلى الأم شبرقة في جناحها، وهي لا تصدق أن زوجها قتل ابنها، فتركز ناظريهٌا على أطراف غابة الجبال حيثٌ تدور الحرب.. تنتظر أن يأتي الزوج مكذبا الخبر، فلما لا يأتي تضطر للتصديق و تغلق النافذة وتنكفئ على نفسها كسيرٌة. تهرب شبرقة من لحظتها القاسية إلى الماضي، لتنثال ذكرياتها ابتداء من يوم العرس وهي راكبة الحمار، متجهة نحو الحصن الذي يبدو لها “مهيمنا من قمته البعيدة”، تبلغ القمة لكنها تتركها بزواج الشيخ من فاطم ابنة الشيخ الزيدي، قبل خمسة عشر سنة، كان جبار صبيا يافعا لم يفسد بعد، فكأن فساد الأب الذي انتقل إلى الابن لم يستفحل إلا بمصاهرته لرجل الدين الذي اتخذ منه مستشارا، بقتل جبار تفقد شبرقة كل شيىء إلا الذكريات فتستسلم لها، تتذكر ابنها الأكبر “عنصيف” _ اسم نبات بري ينمو في الجبال _ وشبابه ودوره في فرض السطوة على الوادى، تتذكر عودته متقدما رعيته يحملون الأسلاب، ينوب عنصيف عن أبيه في قيادة الحصن، ويتولى مهام جمع الخراج من البن والقات ثم إرساله إلى الإمام في صنعاء، ويغير على القبائل الأخرى إن خرجت عن طاعة الدولة/ الأمام، وتشير الرواية عبر الذكريات أيضا إلى ملمح هام من ملامح المكان، يتمثل في طبقة “الأخدام”، الذين تصفهم بأوصاف سلبية تؤكد رسوخ التمييز الطبقي في الذهنية الجمعية للقبيلة، فهم غرباء عن الوادي، سود، غوغاء، أقذار، يسكنون الأكواخ التي تتجاور مكونة الأدرام، وهي تشكل هامشا بالنسبة للحصن الذي يمثل المتن، فساكن الحصن هو السيد، وسكان الأدرام أخدام، يعيشون حياة بهائمية، ويمارسون المحرمات ولا يعرفون دين الله، ذلك من وجهة نظر سكان الحصن. لذلك تستهدف زخات الرصاص تجمعات الأخدام فهم إن ماتوا لا دية لهم وإن عاشوا يعمل من يقدر على العمل أجيرا في المزارع وبأجر بخس، عنصيف تعجبه واحدة من الأخدام اسمها حمامة فيتخذها خادمة في الحصن، ويزورها ليلا فتحمل منه، تلد بنتا تسميها زهرة البنت تحمل ملامح عنصيف ولون بشرته، وتشبه جدتها شبرقة، التى تستدرج حمامة حتى تعرف من الأب الحقيقي لابنتها. تستقر لها الأمور إلى أن يقتل عنصيف ويفر قاتله محتميا بالشيخ شنهاص شيخ غرب الوادى، تمرض شبرقة وتكاد تموت ويفاجئها الشيخ مرداس بالزواج من إحدى أقرباء قاتل عنصيف، وينجب منها ابنا يسميه جمالا. لاحظ الاسم وإشارته الى جمال عبدالناصر. هنا يتدخل الراوى العليم في ذاكرة شبرقة التي لا تتذكر كأم ثكلى، لكن تكمل حكاية عنصيف والحصن، وتحكي أشياء لا يفترض علمها بها، ويتأكد البعد الطبقي في كراهية سكان الحصن لحمامة السوداء، وفي أمثالهم ومنها “اغسل الوعاء بعد الكلب واكسره بعد الخادم”. وهم بلا ثمن لدرجة أن جبار الذي يحل محل أخيه عنصيف يجرب بندقيته الجديدة فيصوب على مزارع يعمل في الحقل، فسرعان ما يهوى على الأرض والفأس بيده، بينما العصافير تطير فزعة، بينما البعض أبدوا انبهارهم بمهارة جبار في التصويب. مما يدفع الأخدام والمزارعين إلى الهرب باتجاه غابة الجبل، ويزداد تدريجيا عدد الهاربين ومنهم أبناء عمومة لمرداس وأقارب لسكان الحصن، فتقوى شوكتهم ويشرعون في شن هجمات ليلية على الحصن، مما يدفع الشيخ زيد الفاطمي في خطبة الجمعة إلى لعن الفارين وتسميتهم بالعصاة. لكنهم يواصلون التقدم، وتنحدر تدريجيا سلطة الحصن حتى ينقلب الشيخ زيد الفاطمي على صهره، فيحبسه ويسيطر على الحصن الذي يصبح “حصن الزيدي”، في إشارة إلى انتقال السلطة من شيخ القبيلة إلى رجل الدين الذي كان مستشارا للسلطة السابقة، وقام بتطويع الناس لها مستغلا تفسيراته للدين، ومعه تزداد الأمور سوءا، ويستمر القتل والحرق والحبس حتى تقوم الثورة في صنعاء ويسقط حكم الأئمة، في البدء يظل الزيدي حاكما للحصن الذي يبدو وكأن لا صلة تربطه بالعاصمة وما شهدته من تغيرات، حتى يعود جمال ابن مرداس، وكان قد تعلم في مصر وعاد إلى اليمن ضابطا، ثم إلى الحصن ممتطيا صهوة دبابة، داخلا الوادي الذي لم تدخله من قبل سيارة، فيدك ما يعترضه من حجر وشجر، ويطلق مدفعها القذائف مهدما ما تسقط عليه وناشرة الرعب في القلوب قبل أن تتوقف لينزل منها جمال معلنا وصول الثورة إلى الحصن الذي أصبح “حصن الثورة” ويخطب في الناس واعدا بشمس جديدة تشرق على الوادي، وتساوي بين الجميع، لكن جمال سرعان ما يختفي ليعود الناس إلى تفرقهم، ولتبقى الدبابة رابضة في مكانها ليمتلئ مدفعها بأعشاش العصافير.
تشابه واختلاف
الروائي اليمني محمد الغربي عمران مسكون بالتاريخ ويكاد يوقف عليه مشروعه الروائي، فرواياته تقف على حافة التاريخ اليمني الحديث بحثا عن أسباب ما أوصل وطنه إلى ذلك المآل الدامي شديد البؤس، لذلك تجد بين أعماله كلها صلات قربي بحيث يمكن التعامل معها باعتبارها أجزاء عديدة لرواية واحدة. فمثلا نجد في الثائر امتدادات لمصحف أحمر، ومسامرة الموتى هي جزء ثان لظلمة يائيل، أما في حصن الزيدي فقد اختلف الأمر تماما من حيث طريقة البناء عن كل أعمال الكاتب السابقة التي اعتمد فيها على الوصف المسهب، زادت تقريرية السرد الملائمة لأسلوب السرد السينمائي الذي قدم الرواية من خلاله. تركز الرواية على مكان هو الحصن كمقابل للوطن و السينما فن يكرس سلطة المكان على الزمان، فجاء النص مقسما إلى مقاطع تصويرية بعضها متزامن فتم توزيع الأحداث على لقطات تمسح الأحداث والأشخاص من الخارج. أما من حيث الشخصيات والمكان فنجد أصداء وامتدادات لروايات الكاتب خصوصا مصحف أحمر، كذلك نلمس مفارقة فيما يخص وضع المرأة، فهي تعانى في الحصن تهميشا وإقصاء واضحين وبالرغم من ذلك نجد لها أثرا في تحريك الأحداث، فنلحظ حضورا وتأثيرا كبيرين للأم مقابل انحسار لدور الأب، وكذلك نلحظ حيوية شادن ابنة شنهاص وعائشة زوجة مرداس وأم ابنه جمال، وزهرة حبيبة قارون، كلهن فاعلات ومؤثرات ، كذلك يعتمد السرد في حصن الزيدي خصوصا في نصفها الأول على سيل ذكريات الأم شبرقة شيخة الحصن، وفي ذلك تتشابه مع مصحف أحمر حيث الراوية امرأة، تصف حركة الأشخاص داخل المكان المفعم بالعنف سواء في الجبل أو الوادي، وكذلك السجن والضريح.
هكذا توضح الرواية تشابه جوهر السلطات، سواء انتمت إلى قبيلة تقسم الناس إلى سادة وعبيد، أو أئمة يطوعون الدين لمصلحتهم الشخصية أو ثوار يقتاتون على الشعارات، فلم يتغير في الحقيقة إلا اسم الحصن في تبعيته للسلطات المتعاقبة على حكمه، بينما أحوال الناس ظلت مقيمة على بؤسها.




d9%87/[/URL]http://alzawraapaper.com/pdf/

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى