أحمد عبد الرحمن فرج الله - قراءة في المجموعة القصصية " شوكولاتة نيتشه"

ست وعشرون قصة هي محطات رحلة المجموعة القصصية"شوكولاتة نيتشه" للقاص صابر رشدي، هذه الرحلة القاهرية التي تبدأ صافرة انطلاقها من سور وابور النور بالسبتية وتنتهي إلى حيث النصب التذكاري للجندي المجهول بمدينة نصر، محطاتها منفصلة متصلة مرتبة زمنيا يجمعها رابط واحد تنمو الأحداث وتتصاعد من خلاله لتصل في متواليتها القصصية لمحطتها النهائية، المتأمل لنصوص المجموعة بعناصرها الزمان والمكان والشخوص والأحداث، يجد أن زمن الرحلة يستغرق الفترة من أوائل السبعينات من القرن الماضي ويتوقف عند أوئل الثمانينات تقريبا، عشر سنوات كاملة وأكثر بطعم الشوكولاتة ورائحة القهوة يلتهمها القارئ في جلسة واحدة أو جلستين اثنتين، المكان هو الحي الشعبي في روض الفرج والسبتية وجزيرة بدران وبولاق أبو العلا، شخوص القصص جميعها تبدو جلية من الاستهلال الذي صدر به الكاتب مجموعته وهي لهذا الطفل الراصد للعالم من حوله، أو المشارك لوقائع والصانع لأحداث هذا العالم الثري، ربما هذا الطفل هو شخص الكاتب الذي اشتبك قلمه المبدع مع الأحداث ببراعة ومشهدية من عايشها ورآها لا من سمع عنها، وليس من سمع كمن رأى !
يقول الكاتب" كنت أراه في منامي، صبيا جميلا، مغمورا بالضياء، يجلس إلى منضدة ذات طراز عتيق، بيده ريشة ذهبية، يخط بها على الأوراق، ثم يرفع عينيه قليلا، يقرأ بنبرة خفيضة، ثم يعاود الكتابة منتشيا، مستغرقا في لحظات انتباه .....
أحداث القصص في مجملها كاشفة لعالم الأساطير والخرافات واللامعقول يتجلى هذا في قصص"المترنحات وذكور البط، سرادق صغير، شوكولاتة نيتشه، ضاربة الودع، سيدة النهر... وغيرهم"
في نص"سرادق صغير" الذي تناول طقس عزاء السيدات وكأنه يجسد مقولة" ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة !" صور الكاتب بسينمائية عالية الشيخة "سهير" مقرئة الحي الوحيدة، أمراة كفيفة، لكنها شديدة الاعتناء بمظهرها الوقور، نظارة سوداء، ومعطف صوفي طويل، وسمت هانم من أصول أرستقراطية !
وتكتمل الصورة على لسان الصبي الرائي المراقب للأحداث عن بعد دون أن يشعر بوجوده أحد حديث النسوة المتشحات بالسواد القادمات لتأدية (واجب العزاء) وهن يثرثرن على المرحوم بينما يكتمن الضحك بصعوبة، ليحافظن على تقمص حالة الحداد !
يراهم يهمهمن ويتهامسن فيما يينهن عن من ستبدأ العديد على الميت أولا، حتى يصلن لنقطة اللاعودة فتقوم احداهن بإنقاذ الموقف، قبيل خطوة واحدة من المكان صائحة بأعلى صوت
- يا بطل، يا سيد الرجال، يا من كنت بلا مثيل !!
صيحة مدوية، تتبرع بها ، بشهامة واقتدار، حتى لا توغر منهن الصدور، إنها امراة ذكية، تقدر قيمة اللحظة، تعرف ان ما تفعله ضرورة حتمية !
هذه النصوص السردية المحكمة تعري المجتمع في كثير، تضعه أمام نفسه وأمامنا وهو يظهر خلاف ما يبطن سواء قام بفعل ذلك عن سوء قصد أو قصد سوء !
القصص تتنوع ما بين الطول والقصر الذي يناسب موضوعها فهي منسوجة على منوال منضبط تماماً، لا تزيد حرفاُ ولا تنقص، مشدودة بحرفية عالية تخلو من الترهل الممل أو التقصير المخل، أقصر قصص المجموعة هي قصة "حالة" والتي في تقديري تشبه قصة "نظرة" للكاتب الكبير يوسف إدريس وأكبرها هي قصة "شوكولاتة نيتشه" والتي تحمل المجموعة الفاتنة اسمها.
تبدأ المجموعة بقصة "العلاج بالماعز" والتي يرصد فيها الكاتب الموروث الشعبي في علاج سيدات الحي لأطفالهن ممن ضربتهم أمراض بعينها كالسخونة القاتلة أو من تناثرت على وجوهم البثور واعتقادهن بالتداوي بألبان هذه الماعز..في حي محروم من الخدمات الصحية يلجأ أهله أو بعض أهله إن تحرينا الدقة إلى الطب البديل أو لهكذا مستشفى تخصصي شعبي منصوب في عرض الطريق العام !
هذا الاعتقاد بالشفاء والذي يجسده المثل الشعبي"اعتقد في الحجر يشفيك !" ينسحب على قصص أخرى كما في قصة "طابور" والتي تدور رحاها داخل أروقة إحدى المستشفيات والتي يسمونها في ذلك الزمن"المجموعة" والتي تقوم بعلاج الجرحى ربما دون تخدير أحياناً لضعف امكاناتها الطبية ويصل المشهد الهزلي والمأساوي لزروته عندما يصف لنا الكاتب فيما يشبه الميلودراما صيدليتها التي تقدم الدواء للمترددين من المرضى، هذه الصيدلية التي تحوي جنباتها طاولة خشبية متواضعة على سطحها صندوق كرتوني مليئ بأقراص بيضاء، بينما على مقربة رجل يعمل على برميل بلاستيكي كبير ممسكاً بعصا طويلة يحركها دائرياً داخل هذا الوعاء الموجود في داخله سائل برتقالي اللون، الصيدلي الطاعن في السن يتسلم الروشتة ثم يقوم بالتحديق فيها بعوينات سميكة !
- أين الزجاجة ؟
قارروة صغيرة، يشتريها المرضى بنصف قرش، من المرأة الجالسة على الدوام بالقرب من المدخل، يتناولها الرجل، ثم يمررها إلى عامل البرميل، الذي يقوم بدوره بتعبئتها، ثم إعادتها إليه بحركة رشيقة، يلتقط الصيدلي كيس الأقراص غير المغلفة التي قام برصها عامل الكرتونة يمد يده بالعلاج " بالشفا إن شاء الله ! "
يمتد هذا الاعتقاد وينسحب على نص "قرص مسكن" حيث يصاب بطل القصة بالصداع على نحو مفاجىء وهو يتناول طعامه داخل مطعم عتيق من مطاعم الحي فيبتلع قرص مسكن لتهدئة الألم الذي راح يضرب رأسه بعنف دون هوادة، فيعتقد عامل المطعم العجوز أن هذا القرص"منشط" فيطلب منه أن يحضره له في زيارته القادمة، فيحضر له ذات القرص المسكن بعدما كشط الاسم الطبي بشفرة موسي ليخفي معالمه، في زيارته التالية للمطعم يقوم "العامل المعتقد" بتوزيع أطايب الطعام على المائدة التي يجلس إليها بطل القصة، كان اللافت تقديمه لأطعمة لا يقدمها المطعم لزبائنه كونه لا يبيعها من الأساس، كأن العامل أتى بها خصيصا لأجله في شكر وامتنان نادر كمن يرد له الجميل !
بعض قصص المجموعة عن ذلك الولد المستكشف لأرض بكر لم تطأها قدماه، الشغوف لمعرفة شعابها وطبوغرافيتها كما في قصة " الطريق إلى الاستاد، وجاهل في الأوبرا، سينما فلوريدا، وقصة "اشتباك" التي جسدت أحدات 18 ، 19 يناير عام 1977 .
لا تخلو النصوص كذلك من رصدها لشقاوة الأطفال في هذا الحي الشعبي كما في قصة"هناك شيء يحترق" وقصة" برطمان زجاجي" حيث الولد الذي يعبث بدولاب بيتهم الذي يحوي كل ما تخبأه أمه بعيداً عن متناوله، فإذا به يجد (برطمان) به حبيبات تشبه حبيبات السكر في شكلها الخارجي، يتذوقها بطرف لسانه مستكشفا إياها، فيكتم على إثرها ألمه حيث كان البرطمان حاوية لمادة البوتاس الكاوية !
لحظتها كان رفقته الولد "رياض السيد" الذي يكرهه الجميع، فدعاه مدعياً البراءة التامة أن يتناول من السكر هذا، فيتناوله "رياض" المغدور به باطمئنان شديد ليسقط من فوره مغشياً عليه ويستدعون له عربة الإسعاف !
هنا يرسم الكاتب ببراعة فرحة المتجمعين من أهالي المنطقة في شخص"رياض" هذا الولد الذي لم يسلم أحد من شقاوته المنفرة التي لا يحتملها بشر فيقول" تحلقوا حول رياض وهم منفعلون ظاهرياً، بينما يبطنون أمنيات أكيدة للتخلص من هذا الشيطان الذي كدر الجميع، مرتكباً كل الجرائم بما لا يتناسب مع طفل من سلالة البشر !
.
المجموعة صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسة أصوات أدبية عن عام 2019 .
.
أحمد عبد الرحمن فرج الله
في 2020/9/11

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى