سعيد كنيش - ما طبيعة التحولات في الصين المعاصرة.. عودة للنقاش (الجزء الاول)

أرحب بالنقاش حول موضوع تحديد طبيعة التحولات في الصين المعاصرة، الذي انطلق من خلال مداخلة الرفيق والصديق عزيز محب، للرد على مقال لي بعنوان "مناقشة لآراء مثارة حول الصين المعاصرة". اقول العودة للنقاش نظرا للتأخر بعض الشيء في متابعته وذلك بسبب بعض الاولويات التي طرأت بالنسبة إلي.
أعتبر ان الانشغال بموضوع التحولات التي تجري في الصين المعاصرة ليس من باب الترف الفكري أو الخوض في الموضوعات البعيدة. بل هو من صميم الانشغال الداخلي من أجل المساهمة في توضيح مشروع البديل الذي يمكن ان نقترحه في مجتمعنا بكل ما يلزم من الوضوح النظري والعملي، والخروج من حالة الغموض التي لا زالت تلف بعض العقول؛ وذلك بالاستفادة من دروس القرن العشرين في النضال ضد الرأسمالية والامبريالية، وذلك كقراء مجتهدين لما يقع في عالمنا (على الاقل بالنسبة إلي).
الاستفادة من دروس القرن العشرين هي قراءة في تجارب نضال الشعوب ضد الرأسمالية والامبريالية على ضوء منهج النقد الماركسي/ المادية التاريخية. وفي هذا الصدد لا أحد يمكن أن يعلو على النقد، أو يمنح نفسه صكوك الغفران، لأنه اختار مثلا الانتماء إلى تيار ماركسي تعرض أحد أبرز قادته "ليون تروتسكي" لجريمة الاضطهاد والاغتيال . فالنقد لا يعني السب، والاتهام المجاني كما قلت في مداخلتك.
عندما أقدمت قيادة الصين الشعبية في أوج الصراع مع قيادة الاتحاد السوفياتي في أواخر ستينات القرن الماضي، على تصنيف URSSكإمبريالية صاعدة آنذاك، على ضوء ما سمته نظرية "العوالم الثلاثة" . وقد تم تبنيها رسميا من طرف الحزب الشيوعي الصيني بزعامة ماو. وهي نظرية مغرقة في الرجعية في رأيي. وقد قادت ممارستها من طرف قيادة الصين الشعبية، إلى استغلال الولايات المتحدة لهذا الصراع الحاد بين الصين والاتحاد السوفياتي. وهندس كيسنجر وزير الخارجية الامريكي للزيارة "التاريخية" إلى الصين من طرف الرئيس نيكسون في مطلع السبعين من القرن الماضي، ولقائه مع الزعيم ماو تسي تونغ، ورسم سياسة الانفتاح والتقارب مع الصين، وشن الحرب الواسعة على الاتحاد السوفياتي باعتباره محور الشر. وفي هذه الاجواء قامت العديد من الحلقات المنتمية "للتيار التروتسكي" بالانخراط في هذه الاجواء المعادية للاتحاد السوفياتي. والقفز على قانون التناقضات وترتيبها، من أجل جني الهباء الذي خلفه انهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو. الذي ألصقت به وبالدول المتحالفة معه، أوصافا بغيضة مثل النظم الاستبدادية المجرمة والمتعصبة قوميًا والشمولية.
لنتذكر جيدا التحالفات التي نشأت داخل قيادة "نقابة التضامن" البولندية وضمنها حلقات "ماركسية تروتسكية"، ومن خلفها الكنيسة البابوية ومن خلفهم جميعا، دور المخابرات الامريكية والاوربية المركزي في التحريض وصناعة الرأي الموجه ضد الشعوب في أوربا الشرقية. لقد كانت بولندا خاصرة دول حلف وارسو الهدف الاول، لتسقط في شباك الليبرالية المتوحشة، وتحت قيادة حكومات يمينية وعنصرية.
لنتذكر أيضا الكتابات والتحليلات التي كانت تصدر آنذاك من داخل بعض هذه الحلقات المنتمية "للتيار التروتسكي"؛ حول الصراع المرير الذي انطلق كما قلت في بولونيا وغيرها. وكانت تعتبره هذه الحلقات عملية تصحيح للبيروقراطية وضد الستالينية، ومن اجل الديمقراطية...الخ؛ وليس هجوما منظما للإمبريالية وغزوا لهذه المجتمعات كأسواق جديدة. وحده في حدود علمي المناضل "أرنست مانديل" الذي قدم تقييما يحدد فيه الأخطاء القاتلة المرتكبة آنذاك في تحديد طبيعة التناقضات، وموقف الماركسيين المنتمين للتيار التروتسكي.
كذلك أطرح دور الاساتذة المنتمين لبعض هذه "الحلقات التروتسكية"، الذين كانوا يدرسون في جامعة السوربون بفرنسا، قسم اللغة الروسية؛ ودورهم في اختيار وترجمة الاصدارات الادبية لكتاب في الاتحاد السوفياتي باعتبارهم كما كان يقال "كتابا منشقين" . وتقديم أعمالهم المنتقاة بعناية للأوساط الادبية الغربية. وبفعل فاعل تحتل هذه الاعمال المراتب الاولى في المبيعات والصالونات والمحافل. تم تنال الجوائز ومنها طبعا جائزة نوبل. وقد احتج آنذاك كاتب فرنسا العظيم "جان بول سارتر"، ورفض تسلم هذه الجائزة المتحيزة والمسيسة.
بعدما انتهت هذه الحقبة من "الحرب الباردة"، انكشف الدور الذي لعبته "أجهزة العمل الغير المباشر" التابعة للغرب الامبريالي، ووقوفها مثلا بالدعم المالي والاعلامي وراء العديد من المجلات و دور النشر الثقافي الذي كانت تنشر للكتاب المنشقين، او "الادب المنشق". أذكر كمثال رواية " الدكتور جيفاكو " الوحيدة للشاعر "بوريس باسترناك" الذي منح جائزة نوبل فقط لانتقاده فترة الحرب الاهلية في روسيا. وطبعت روايته في العديد من اللغات بتمويل مباشر من CIA، ولم تكن لترقى لأعماله الشعرية الاخرى المبدعة.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ( لأسباب في الاساس داخلية)، و انهيار كذلك "الاشتراكية الديمقراطية" ودولة الرعاية، وكثلة دول عدم الانحياز، وتحول أمريكا إلى شرطي العالم المتوج. وبعد تنظيم هجوم الرأسمالية المعولمة بقيادة الولايات المتحدة على شعوب العالم من خلال ما يسمى بالبرامج الاقتصادية والاجتماعية ذات النزعة الليبرالية المتوحشة. وهي حقبة لا زالت ممتدة ولا زلنا نعيش اليوم نتائجها بكل المآسي الانسانية والبيئية. هل لا زال علينا من جديد ان نطرح التساؤل من هم الأعداء الحقيقيون للشعوب في الجنوب والشمال؟. ومن هم الذين يحكمون على اغلب الشعوب بالفقر والتهميش والاستلاب، ويشعلون الحروب ويدفعون التوازن البيئي على الارض للهاوية ؟ .
الجواب تعرفه شعوبنا في منطقتنا العربية والمغاربية، وشعوب امريكا اللاتينية واسيا و أوربا الوسطى؛ تدرك من خلال الحروب العدوانية التاريخية والراهنة من هو عدوها الرئيسي. ولا تحتاج في هذا الباب لمن يلهمها. خاصة من هؤلاء " الماركسيين" الذين اشرت إليهم بدون تعريف. لقد اعدت التذكير بهذه الاحداث حتى لا يعاد مرة اخرى ارتكابها ويصبح اصحابها كيفما كانت نواياهم اضحوكة للتاريخ.
تقول في مداخلتك إن الصين المعاصرة قد حسم النقاش حول طبيعة التحولات التي تجري داخلها من طرف "الماركسيين" (بالتعميم)، حسب رأيهم و توصيفك هي بلد رأسمالي، وربما امبريالي ...الخ، و بهذا فقد قضي الامر ورفع النقاش. كملاحظة فالحزب الشيوعي الصيني يعد من بين اعضائه أزيد من 120 مليون عضو وعضوة، مما يدعو إلى التواضع عند إطلاق الاحكام التعميمية عن الماركسيين . و تضيف ان النقاش او الخلاف بين هؤلاء "الماركسيين" ( ولا اعرف من هم واين موقعهم حتى يمكن مناقشتهم ) قائم فقط حول طابع الصين "الامبريالي". وتضيف في جميع الاحوال فالصين تهدف إلى احتلال مكانة الولايات المتحدة في الهيمنة على العالم الرأسمالي، أي استبدال هيمنة بهيمنة جديدة.
الامبريالية كما اكتوت بنارها الشعوب، هي توأم الاستعمار والهيمنة والتبعية و نشر التخلف والفقر والعنصرية والاوبئة والحروب العدوانية وتجارة السلاح، والحصار المضروب على الشعوب والبلدان خارج نطاق القانون الدولي لتركيعها بسلاح الجوع. ومن اجل نهب خيرات الشعوب وثرواتها وتدمير نظم البيئة. وفي مجرى صيرورة تطور المنظومة الرأسمالية العالمي ، برزت وتوطدت المراكز الامبريالية التاريخية الثلاثة ( الولايات المتحدة وكندا، أوربا الغربية، اليابان ) . وانفجرت الحروب الاستعمارية المعروفة فيما بين هذه المراكز الامبريالية. وبعد الحرب الكونية الثانية، فإن الولايات المتحدة أصبحت مهيمنة و تجر خلفها أوروبا الغربية واليابان وكندا واستراليا وكوريا الجنوبية واسرائيل في حلف عسكري، لشن العدوان على أية قوة معادية في الاطراف تنزع إلى التحرر من الهيمنة وفك الارتباط. وحرمانها من إمكانية تحرير نفسها من وضعية الأطراف الواقعة تحت السيطرة. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وكثلة دول عدم الانحياز، توسع هذا التحالف العسكري ليشمل بلدانا في اوربا الشرقية واسيا الصغرى والوسطى. وترافقت هذه الوضعية الجديدة مع صعود وهيمنة مئات من الشركات العملاقة MULTINATIONALS، وعشرات المؤسسات المالية الدولية التي كونت اتحادات احتكارية فيما بينها. و أصبحت تختزل نظم الإنتاج الوطنية إلى وضعية مقاولي الباطن. وتقرر في اهم الخيارات لإدارة العالم بواسطة ما يسمى "بالسوق" أي المصالح المباشرة والقصيرة المدى لهذه الاحتكارات. وتسقط من حساباتها تماما أي بعد اجتماعي للتنمية والديمقراطية و التوازن البيئي. هدفها الوحيد هو الحفاظ على معدلات الربح بطرق مافيوزية. وللحفاظ على وضعية امتيازاتها لنهب ثروات الشعوب، تقيم الآن "الحروب الجديدة". فأين الصين من هذا التاريخ للإمبريالية وحاضرها؟ علما بان الفهم الواسع للمادية التاريخية، يعني تحليل الماضي والحاضر من اجل استشراف المستقبل. ام هناك تاريخ لا نعرفه ويعلم به هؤلاء "الماركسيين" عن التطور التاريخي للمنظومة الرأسمالية العالمي.
بالنسبة للصراع الصيني الامريكي الراهن، أذكر كما قلت في مقالي السابق، أن الصين بلد قارة/ Continent، أصبحت تمتلك لوحدها كل الاسباب لاستعادة دورها التاريخي قبل 500 عام ؛ كقوة عالمية – من وجهة نظر الجيو- استراتيجيا- و هي البلد التي لم يرتبط اسمها بظاهرة التوسع الاستعماري في القديم أو الحديث. فالصين عانت من الاستعمار الامبريالي البريطاني تم الياباني. ولم تقم بقتل الملايين من البشر والشعوب ونهب ثرواتها واستعبادها، كما فعلت البلدان الاستعمارية المعلومة طيلة 500 سنة الاخيرة.
الصين المعاصرة قوة اقتصادية كبرى منافسة باعتراف أعدائها، تمكنت في ظرف قياسي من النمو والتحديث بعد ان وضع الحزب القائد هذه المهمة كأولوية رئيسية ، وإلى وقت ما في المستقبل ( سأعود لمناقشة هذا الامر). واستطاعت أن تخترق باقتدار "الخمسة احتكارات الجديدة" للإمبريالية، كما يسميها سمير امين، التي يتشكل حولها الصراع والاستقطاب والهيمنة اليوم، مع المراكز الامبريالية الثلاثة المذكورة وهي: ميدان التكنولوجيا وعلومها، الهيمنة على التدفقات المالية ذات المدى العالمي، تامين الحصول على موارد الارض الطبيعية، حقل الاتصالات والاعلام، ميدان اسلحة الدمار الشامل. وهي مجتمعة المجالات التي تتحكم بإمكانية القوة والتطور في القرن 21. فهل الصين المعاصرة ، بعد ان اصبحت مستوعبة ومتحكمة في «الخمسة احتكارات الجديدة" لمصلحة تنميتها، وتتفوق في البعض منها؛ هي مصنع العالم للصناعات الملوثة؟ كما تردد في مداخلتك. أم هي قوة اقتصادية منافسة للمراكز الامبريالية الثلاثة.
حسب الباحث الامريكي "بول كنيدي" في كثابه الضخم: "نشوء وسقوط القوى العظمى" يقدم هذه المعادلة كخلاصة لبحثه : الثروة الاقتصادية سلاح لدعم القوة العسكرية، والقوة العسكرية ثروة مكتنزة تتيح الحصول على الثروة وحمايتها. فلو خصصت الدولة نسبة كبيرة من مصادرها للأغراض العسكرية فقط، بدلا من توظيفها لأغراض خلق الثروة وتنميتها، فستحكم على نفسها بالتداعي والسقوط على المدى البعيد".
فالحروب العدوانية التي قامت بها امريكا والتي لا تنتهي في ( أمريكا اللاتينية، الهند الصينية ، أفغانستان، العراق، يوغسلافيا، ليبيا، سوريا وغيرها). بالإضافة إلى الازمات الدورية للنظام الرأسمالي المعولم الذي تقوده، وتعمق الازمة مع تفشي الوباء، كان لهم جميعا تكلفتهم، و ادخل الولايات المتحدة الامبراطورية في الطرف السلبي من المعادلة التي حددها الباحث الامريكي المذكور. وفتح الباب لاحتمال بروز عالم متعدد الاقطاب والخروج من العالم الاحادي القطبية( وهي حالة فريدة في تاريخ البشرية ) الذي تولد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. اقول احتمال لابد ان تتوفر شروطه، بالتحالف الاستراتيجي بين الصين وروسيا وقوى اخرى، وتحييد ما امكن أوربا الغربية، بالإضافة إلى نضال الشعوب الموحد ضد الامبريالية الامريكية العدو الرئيسي، وهذا موضوع آخر. وللتذكير فإن الولايات المتحدة قد سبق ان قامت بتحضير التربة المناسبة سنة 1994 لتفكيك روسيا في ظل الازمة التي عاشتها. اما اليوم فإن الولايات المتحدة ترى في الصين وروسيا والهند " بلدانا كبيرة أكثر من اللازم"، وتعمل من أجل تفكيكهم، حتى لا تشكل تهديدا لقدرتها على الهيمنة.
فالصين لا تهدف إلى استبدال هيمنة امريكا على العالم بهيمنة جديدة، فهي تخوض الصراع من موقع الدفاع. و تسعى إلى إعادة توازن جديدة للنظام العالمي أي عالم متعدد القطبية؛ مما سيساعد شعوب العالم خاصة في الجنوب، من استعادة مبادرة النضال من اجل التحرر الوطني والتنمية المستقلة وتطوير اختياراتها حسب إرادتها. وسياسة الصين الخارجية كما تؤكدها الوقائع في العديد من النزاعات، هي الدفاع عن ميثاق الامم المتحدة خاصة مبدأ سيادة والمساواة بين الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

سعيد كنيش تمارة في 15/09/2020


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى