عبد الرحمن بدوي - علم النفس عند الكندي

يرى الكندي أن النفس بسيطة، شريفة، تامة. وجوهرها من الجوهر الإلهي، كما يأتي الضوء من الشمس. والنفس متميزة من البدن، وهي جوهر روحي، إلهي، لأن طبيعتها تنافي كل ما يطرأ على البدن، مثل الشهوات والغضب.
وهذه النفس حين تفارق البدن، تعرف كل ما في العالم، ولن يخفى عليها شيء. والدليل على ذلك ما ذكره أفلاطون من أمر كثير من الحكماء الأطهار الأقدمين الذين تخلصوا من عوارض الدنيا وكرسوا نفوسهم للبحث في الحقائق، فأدركوا المستور، وعرضوا أسرار النفوس. فإن كان الأمر هكذا والنفس لا تزال مرتبطة بالبدن، فكم بالأحرى تستطيع إذا غادرت البدن وعاشت في عالم الحق حيث نور الله؟ ويضيف أفلاطون أن من جعل همه في هذه الدنيا الاستمتاع بأطايب الطعام واللذات الجنسية، فإنه لن يستطيع بنفسه الناطقة أن يصل إلى معرفة هذه الأشياء النبيلة ولن يستطيع بنفسه الناطقة أن يصل إلى معرفة هذه الأشياء النبيلة ولن يستطيع التشبّه بالله. وأفلاطون _هكذا يقول الكندي _ يشبه القوة الشهوانية في الإنسان بالخنزير، والقوة الغضبية بالكلب، والقوة الناطقة (العاقلة) بالملك، ويرى أن من استولت عليه القوة الشهوانية فهو كالخنزير، ومن استولت عليه القوة الغضبية فهو كالكلب، ومن استولت عليه قوة النفس النطقية، ويتجرد للتفكير والبحث عن حقائق الأشياء واكتناه الأسرار _هو رجل فاضل قريب من التشبه بالله. ذلك أن صفات الله هي: الحكمة، والقدرة، والعدل، والخير، والجمال، والحق. وبهذا يشارك في صفات الله.
ويورد الكندي أقوالاً لمن سماه أفسقوس، يقول فيها ان النفس إذا زهدت في الشهوات واستنكفت عن الأدناس، واهتمت بالبحث ومعرفة حقائق الأشياء _فإنها تصير مصقولة..، وتتحد بها صورة نور الله، فينعكس فيها نور الله، وتبدو فيها صور جميع الأشياء كما تتجلى صور المحسوسات في المرآة الصقيلة.
وهذه النفس لا تنام أبداً، لكنها لا تستعمل الحواس إبان النوم. ولو كانت النفس تنام، لما عرف الإنسان ما يراه في الحلم، ولا غيره مما يراه في اليقظة. وإذا بلغت النفس تمام الصفاء، شاهدت في النوم أحلاماً رائعة.
ونحن في هذه الدنيا كما لو كنا على معبر يمرّ عليه المسافرون. ولن نبقى فيها طويلاً. إن مقامنا الحق هو في العالم العلوي الشريف الذي ستنتقل إليه النفوس بعد الموت، حيث تكون بقرب الخالق، ونوره، وهنالك تنعم بنوره ورحمته.
محل النفس بعد الموت
وفي مسألة محل النفس بعد الموت يعتمد الكندي على ما قاله أفلاطون من أن مقام النفس بعد الموت هو وراء الفلك، في العالم الإلهي، حيث نور الخالق.
لكن لا تذهب، كل نفس تترك بدنها فوراً إلى هذا المقام، لأن بعض النفوس تغادر أبدانها وهي ملطخة بالأدناس. ولهذا فإن بعضها يذهب إلى فلك القمر حيث يقضي هناك فترة من الزمن، فإذا ما تطهرت وتهذبت، ترقّت إلى فلك عطارد حيث تمضي فترة من الزمن، فإذا ما تطهرت ترقت إلى الفلك الأعلى، وصارت نقية من كل أناس الحواس. وهنالك تصعد إلى عالم العقل، وتتجاوز الفلك الأقصى (السماء الأولى) وتقيم في أشرف محل. وهنالك تعرف كل الأشياء، صغيرها وكبيرها، ويكل الله إليها جزءاً من تدبير العالم. وقدرة هذه النفس تصير مشابهة لبعض المشابهة لقدرة الله.
العقل
للإسكندر الأفروديسي رسالة صغيرة "في العقل" ترجمت إلى العربية وكان لها تأثير هائل في الفلاسفة المسلمين وفيها يقسم العقل إلى ثلاثة أنواع:
1_ العقل الهيولاني،
2_ العقل المستفاد،
3_ العقل الفعّال.
والأول سمي بذلك لشبهه بالهيولي (المادة)، وهو العقل بالقوة عند أرسطو، وهو خال من كل تحديد. وليست له صورة، لكن يمكنه أن يتخذ أية صورة. ويبقى طالما كان الإنسان حياً، ويفنى بفنائه.
أما العقل بالملكة أو العقل المستفاد فلم يذكره أرسطو، وفيه توجد المبادىء التي هي المقولات الأولى.
وأعلى هذه العقول الثلاثة العقل الفعّال: إنه مثل النور الذي يضيء لنا المعقولات، وبواسطته ينتقل العقل الهيولاني من القوة إلى الفعل.
أما الكندي فيقسم العقل إلى أربعة أنواع:
1_ عقل بالفعل دائماً _وهو العقل الفعّال،
2_ عقل بالقوة،
3_ عقل ينتقل _في النفس _ من القوة إلى الفعل _وهو العقل بالملكة.
4_ عقل بياني (أو بائن).
ويمكن إدراك الفارق بين هذين النوعين الأخيرين بأن نقول أن العقل الثالث هو الذي اكتسب الملكة، والعقل الرابع هو الذي يمارس ما اكتسب: الثالث مثل الطبيب الذي تعلم الطب لكنه لا يمارسه بالفعل، والرابع مثل الطبيب الذي يمارس مهنة الطب بالفعل، والتفرقة _كما هو واضح _ ضئيلة.

--------------------------------
المصدر: موسوعة الحضارة العربية /ج1/ الفلسفة والفلاسفة عند العرب



عبد الرحمن بدوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى