قيس مجيد المولى - بين طه حُسيَن والمُتنبي

طه حسين يشكك بقدرات المتنبي الشعرية في شبابه ويصف شعره في تلك المرحلة بأنه شعر يتصف بالتكلف المصنوع.

أنكر أثر الكوفة في بناء المرحلة التأسيسية لشعر المتنبي

يكيل طه حسين جملة من الإتهامات للمتنبي من خلال ما كتبه من تاريخ الأدب العربي للعصر العباسي الثاني، وفي مجلده الثالث، وأن لم تكن تلك بالاتهامات بالمعنى الجازم فلا بد أنها نوع من أنواع الشكوك التي يعتقد طه حسين بأنها شكوك موثوقة بنيت على دراسة دقيقة وتتبع للأثر.

يبدأ طه حسين تلك الإتهامات أو الشكوك بأن المتنبي يجهل أباه وأمه، وكذا بالتشكيك بعروبته القحطانية، ويرجع هذا التشكيك إلى أن المتنبي لم يكن يفاخر في قصائده بأسرته أو نسبه العربي، ويشير كذلك إلى أن المؤرخين قد اتفقوا على أن شيئا كثيرا من الغموض قد أحاط بأسرة هذا الرجل.

ويذكر طه حسين بعض الحقائق عن تعمد المتنبي الغربة عن الكوفة وتجنبه الحياة في العراق، تلك الحياة التي اتصفت بصفتين أساسيتين متناقضتين وهما: فساد السياسة ورقي العقل، ثم ينتقل طه حسين في تشكيكاته الكثيرة إلى شعر المتنبي فيصف شعره في صباه بأنه كان مقلدا في الفن الشعري للشعراء القدامى ومن تبعهم من المعاصرين الذين سبقوه كما أنه كان قريبا من الحركة القرمطية (القرامطة) هولاء بوصف طه حسين الذين كانوا شغوفين بالحروب والغارات وسفك الدماء. كما أن طه حسين لم يغفل خصلة أخرى من خصال المتنبي، وبأنه كان طويل اللسان مستعدا تارة للسخرية ثم للهجاء، ولكن ما ذكره طه حسين عن المتنبي في مجال شعره في صباه نعتقد بأن ذلك يدحضه هذان البيتان اللذان كتبهما المتنبي في صباه والفكرة فيهما أن المتنبي أحب صديقا له وقبل أن تبدأ صداقتهما، لكن الدهر سرعان ما فرقهما وعاد القدر وفرقهما مرة أخرى حين التقيا:

بأبي مَن وَددتُه فافترقنا ** وقضى اللهُ بعد ذاك إجتماعا
فاقترقنا حَولاً فلما إلتقينا ** كانَ تسليمُهُ عليّ وداعا

وكذا ذهب طه حسين في التشكيك بقدرات المتنبي الشعرية في شبابه ووصف شعره بتلك المرحلة بأنه شعر يتصف بالتكلف المصنوع. في حين أيضا نرى ومن خلال الأبيات التي اختارها طه حسين بنفسه لشعر المتنبي في شبابه ونعتقد بأن شعره في شبابه وقياسا على هذه الأبيات، وما قرأنا له عن تلك المرحلة يتصف شعره بالقوة والإيحاء والعبقرية الشعرية، الأبيات التي اختارها طه حسين وشكك بجودتها:

أنام ملءَ جفوني عن شواردها ** ويسهر الخلقُ جراها ويحتكمُ
أبلَى الهَوَى أسفاً يومَ النّوى بَدني ** وفرقَ الهجرُ بينَ الجفنِ والوسنِ
روحٌ تَردّدَ في مثل الخلال إذا ** أطارَت الرّيحُ عنهُ الثوبَ لم يَبِن
كفى بِجسمي نحولاً أنّني رَجلٌ ** لولا مُخاطبتي إياكَ لم تَرَني

بعد ذلك نجد أن طه حسين يوافق الرواة من أن المتنبي قد تقوّمَ لسانه وفصحت لغته بعد رحيله من الكوفة إلى البادية، ولكن المثير للإنتباه في هذا الأمر أن الكوفة كانت مركزا من مراكز العلم والمعرفة والأدب يتجمع فيها الفقهاء والشعراء، وتقام هناك مجالس الشعر والجدل، أي أن طه حسين قد أنكر أثر الكوفة في بناء المرحلة التأسيسية لشعر المتنبي والتي اتسمت كما ذكرنا ببواكير العبقرية لهذا الفتى، ولم يكتف طه حسين بتهشيم شعر المتنبي والذي كتب في بلوغه، بل أشار إلى أن كل ما كتبه المتنبي من مدائح سواء ذلك الذي أنشده في الجزيرة أو الشام أو الذي أنشده في مصر لا يعدو عن سلسلة من المدائح لملوك وأمراء وأشخاص متنفذين طلبا للإرتزاق والوصول إلى السلطة دون الأخذ بالقيمة الجمالية لأحد وأهم أبواب الشعر العربي منذ العهد الجاهلي وهو باب المديح.

نعتقد أن ما ينسف رأي طه حسين من أن شعر المتنبي في المديح كان من أجل المال والتقرب لأصحاب الجاه والسلطة أن التاريخ قد حفظ له أنه أحد الثوار الذين ثاروا على السلطة، تلك السلطة التي سرعان ما أباحت دمه حيث سجن في أواخر سنة 324 هـ، وأمعن في تعذيبه لتغيير أرائه والسير خلف خطى السلاطين، الشيء الذي لم يعرج عليه عميد الأدب العربي بشأن المتنبي ومدائحه مزاجيته حتى في مديحه وهجائه لذلك رغم أن المتنبي قد وصف نفسه:

أنام ملءَ جفوني عن شواردها ** ويسهر الخلقُ جراها ويحتكمُ

لكنه كان قلقا من أي شيء وفي أي شيء، وتلك مزية من مزايا الإبداع الشعري.



قيس.jpeg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى