عاطف محمد عبد المجيد - قصة لم يكن يريدها أحد

عاطف محمد عبد المجيد - قصة لم يكن يريدها أحد



اخر الافلام











المزيد.....


قصة لم يكن يريدها أحد


عاطف محمد عبد المجيد

الحوار المتمدن-العدد: 3718 - 2012 / 5 / 5 - 15:51
المحور: الادب والفن



قِصَّةٌ لَمْ يَكُنْ يُريدُهاأَحدٌ

قصة:كريستيان بوبان ترجمة:عاطف محمد عبد المجيد

مخطوطة لا رونق لها.ثمة تاريخ فى صفحتها الأخيرة. خمس سنين.لقد كُتبت منْذُ خمس سنين.كانت قد وصَلتْ إليكَ عن طريق البريد.فتركتها فى ركن على المنضدة.. ولم تَعُدْ تُفكِّرُ فيها.يجئ يوم السبت..ذلك اليوم الذي غالباً ما تكون فيه فى قمة انشغالاتكَ: تؤدي دور سائق يعمل عند سيد من أجل مجموعة من الأطفال يُعَدّون على أصابع اليد. بعض منهم يريد المجئ إلى هنا..بعض منهم يريدك أن تذهب بنا إلى الحفلة.منهم من يريد هذا..منهم من يريد ذاك..ومنهم من يريد الإثنين معا.وما عليك إلاأن تنقاد لهم وأنت غارق فى النشوة..مزعجا الآباء الذين يقضون ساعات يُخطِّئونكَ فى عدم اكتراثكَ الذى يُلازمكَ أينما كنت.تمر الحياة كأنها تهرول..فيما تنقرض الأيام مبكراً جداً. لِمَ كل ذلك القلق من يوم غد؟واليوم سوف يستجيب للجميع.
عدم اكتراثكَ الذي احتل دواخلكَ لا يقهره شئ..مثل وجهِ مبتسمٍ يؤمنُ بوجود إله.أنت لا تُعلِّم الأطفال أي شئ..رغم كونكَ فى مَدْرستهم.يقال لك ـ أحياناً ـ أنك تبالغ..لا يجب أن تذرهم يفعلون ذلك..بل يتحتَّم عليكَ أن تكون أكثر رشداً.
فى صمت..تصغي لمغزى الأشياء..بعد ذلك تلتفتُ فيما حولك لوقت طويل:لا تعثر على أي أثر لشخص بالغ واحد.
أطفال يملأ تضاريس وجوههم العبوس..نعم هم كثيرون. وفي حزن يعيش الأطفال الذين يعملون..يربحون نقودا..مُضيِّعين أوقاتهم وقوَّتهم.بينما ما من أحد من البالغين..وما من أثر.
فى يوم السبت ذاك..يستغني الأطفال عن مجهوداتك..لا يناديك أحد.لذلك تظل وحدك حيثما تقطن..متفرغاً بلا عمل وفي حالة اطمئنان.لطيفة هى رفقتكَ لعُزْلتكَ مثلما هي كذلك أيضاً رفقتكَ للأطفال.تقرأ..تغفو قليلا..تسير..لا تفكر فى شئ.تدع أضواء السماء تكسو أوراق الحوائط بلونها الذهبي.وعلى سبيل التلهي تفتح المخطوطة على صفحتها الأولى..ثم تبدأ في القراءة.حينما سترفع رأسك عنها سيكون وقت الظهيرة وما بعدها قد ولى.ليس هنالك نهار كما أن هذا ليس هو الليل أيضاً.لمْ يعد ثمة غير مساحة هدوء شاسعة مثل صعود المياه البطئ فى هدوء.هناك فيضانٌ متواصل ومضئ.تتأمل فى هذا الهدوء كتأملكَ فى ازدياده.. ازدياد النضارة والرقة:تأملك لم يعد يعيل صبره..ولم يعد يضطرب.إنه ببساطة يستريح ـ قليلاً ـ ثم يمتزج بما هو كائن..دون أن يبحث عن جديد.
بماذا نُسمي هذه الرقة؟ كلمة [سعادة ] لم تعد مناسبة.وليس هناك كلمة واحدة باستطاعتها أن تأتي بمضادها.السعادة تتماشى مع التعاسة.البهجة تساير العذاب.أما ما وصلكَ من المعاني فلا يلائمه شئ.بل كل شئ.يتحتَّم عليك لكي تقول ذلك أن تقوم بنسخ المخطوطة بكاملها..كلمة..كلمة.
مُؤلفتُها امرأة من أصل أجنبي.ليست هي مَن بعثتْ إليكَ بهذا النص.لكنه صديقها..صديقها منذ هذي اللحظة.لم يطلب منك شيئاً وذلك ـ بلا تعقيد ـ ما تفكر فيه.
المخطوطة مثل الوجه تكفي دقيقة لمطالعة صفحتين أو ثلاث صفحات منها وإدراك ما فيها.
تبدأ المؤلفة قصتها بالهجر..مثلما هو الحال فى الأساطير والخرافات:تلك التي تعشقها تلك المرأة.الأمير الذى اصطفته عائلته المالكة..الملك العشيق..ذلك الذي تخلَّى عنها.لقد ذهب بها إلى أكثر الغابات عتمة .. ثم فرَّ هارباً.. بينما ظلتْ هي هناك..جالسة أسفل ظل شجرة.تنتظر. تنتظر ثم تنتظر.وذات صباح استيقظت..خرجت من الغابة ..دخلت مطبخها..أغلقت النافذة..وفتحت موقد الغاز.فتاة شابة سقطت على الأرض .. بينما سقطت روحها بالقرب منها.كانت روحها ثقيلة.أثقل من عصفور ميت.تلك الفتاة البيضاء التي سمَّمَها الغاز فارتمت مخنوقة وفي حالة إغماء شديد.أفاقت الفتاة فى المستشفى.اتكأتْ على وسائدها.التفتتْ حولها.نظرتْ إلى ذاتها:ثمة أكثر من روح .الجسد هناك حقاً فى وضع سيْرٍ.باستطاعة الأيدي أن تلتقط الأشياء. ويمكن للشفاه أن تتحدث.أما العيون فلها أن تمارس طقوس البكاء.كل ذلك هناك..فيما عدا الروح.يبدو أن صديقها حين قام بحملها فى أمتعته لم يحترس لها كما ينبغي.كيف يمكن لأحد أن يكون غافلاً إلى هذا الحد؟
تركتْ المستشفى.عادت لممارسة حياتها المألوفة.غير أنها ظلت ـ دائماًـ بلا روح.وهذا ما لا يُرى ولا يُسمع ولا يَمنع حدوث شئ.هل يمكن لأحد أن يعيش متماسكاً هكذا بلا روح؟إذن ليس ثمة داع لكتابة تلك القصة..طالما وأن هذا يحدث غالباً.ثمة مشكلة وحيدة..هي أن الأشياء لا تستجيب لكِ عندما تنادين عليها بأسمائها.يمكنكِ أن تغيبي عن حياتك.أن تخدعي العالم كله بهذا الغياب .العالم كله فيما عدا الحيوانات..الجمادات..والأشياء.العالم كله فيما عدا الضوء الأصهب الخريفي.ذلك الضوء الذي يؤثر ـ من عذوبته ـ على قشور أشجار السندر وأغصان أشجار الورد.
كيف سيتم اللحاق بمن قد توارى؟ كيف سيحدث الإندماج مع الحياة مباشرة؟ وكيف ستكون العودة إلى الحياة البسيطة؟نعم..كيف؟لقد مر الحب عليكِ مثلما مرت الحرائق الحمراءعلى غابات بروفانس.لابد لهذا العشب من سنين كي ينمو من جديد..كما أن الحب الجديد يحتاج إلى سنوات لكي يعمِّر أماكن الكارثة ـ أماكن الكارثة هي أنت بتمامها ..من الفستان القطني إلى الأفكار الممنوعة..من تذوقك للشاي إلى حنينك الربيعي.أنت ذلك كله.ما العمل إذن؟
ابدئي ـ أولاً ـ بالشئ الأكثر إلحاحاً:لن تستطيعي مواصلة خروجك هكذا..دون أن ترتدي روحاً..دون ضحكة تسكن قاع عينيكِ.لنتحدث ـ بالتحديد ـ عن عينيك اللتين لم تعودا صالحتين سوى للبكاء.وعندما لا تبكيان..تقرآن.ستقرآن ـ ذات يوم ـ صفحة مما كتبه [ريلكه ]..ثم صفحة أخرى.. وأخرى.عيناكِ هما كل عصافير الروح التى تؤوب إليكِ وقتما تفتحين أبراج الطيور.
لقد نجحتْ عملية انتحاركِ! ككل الإنتحارات التى لم تُوفَّق!
لقد فقدتِ ما هو أكثر من الحياة:الكلام..مذاق الكلام الفصيح ..حب الكلام الحقيقي.إنكِ فى مواجهة الكلام كطفل مريض يواجهه أبواه بالطعام.
أما [ريلكه ]فقد دفعكِ إلى أن تأكلي..قصيدة بعد أخرى ..صورة تلو أخرى.
مع الكلام المجرد تعود الحقيقة كاملة ومع الحقيقة تعود الروح بأكملها.الروح التي وصلتْ إليها هذه القصة ترغب ـ فيما بعد ـ فى روايتها من أجل شكر ما.
هي تكتب ـ إذن ـ رسالة مطولة إلى [ريلكة ]..رسالة تبدأ فى مطبخها الصغيرالمعتم وتنتهى فى عمق حديقة تحت ضوء أشجار الزيزفون.
قصة إعادة تربية وئيدة.قصة هجرة طويلة لعصافير ميتة. لقد اعتادت أن تكتب.مرت عدة سنوات قبل أن تكتب مجموعة من الكتب التى نالت استحسان الناشرين والقراء كذلك.كانت تختفي وراء تلك الكتب ..لكن القصة كانت هي نفسها..قصة مِن بَعْث.مِن موت ثم بعْث.إنها تكتب كما ينبغي أن يُكتب:دون أن تنشغل بالكتابة..مُكرسة جُلَّ وقتها لما لن يُقْبل أبداً نحو الصفحات البيضاء..لما تفزعه أقل كلمة ـ الحياة ـ الحياة مجردة تماماً..الحياة دونما عبارة واحدة.الحياة كطفلين صغيرين ـ البهجة والألم ـ متراصين أحدهما في مقابل الآخر في فراش واحد.تقول القواميس أن [ريلكة ]هو أعظم الشعراء الذين كتبوا باللغة الألمانية.أما هي فلا تكتب وفقاً لما في تلك القواميس.هي لا تخاطب الموتى..بل الأحياء.تخاطب مَن يمشي متمهلاً بخطىً مُترددة فى شوارع المدن الكبرى.لمْ يتمدد اسمها بعد فوق صفحات القواميس ولم يغرق قلبها بعد فى بحار المجد.هو ذا شخص يمر..كالأخرين..فى شك حياته واضطرابها.ينام نهاراً..نوماً مُشتركاً نتيجة للأعمال الإجبارية.ويسهر ليلاً ..سهراً وحيداً بالقرب من الملائكة.كاتب لا يبحث عن المواساة..لكنه يُنقّب عن نقيضها / الحقيقة.كاتب تتحدث هي عنه..وماذا يعني [شاعر كبير]؟لا يعني هذا شيئاً..قطْعاً لا شئ.العظمة الوحيدة لمَن يختبئ من أجل الكتابة تأتيه من امتثاله التام لحياة تقسوعليه.يقضي ليالي بأكملها يبحث عن كلمة بعينها.لا يفعل شيئاً سوى أن يُنمي داخله تلك العناية التي يمارسها العاشقون أحدهما مع الآخر.وتمارسها الأمهات مع أطفالهن.الفن..عبقرية الفن ليست إلا ما تبقى من الحياة العاشقة التى هي ـ بالطبع ـ الحياة الوحيدة.عظيم ..شاعر..أدب..كل تلك المفردات لا تعني بالنسبة لها أي شئ.وهي تكتب إلى [ريلكة ] مثلما تستطيع أن تجعل أخباره مُتاحة لصديق طفولة ما زال يبقى فى البلد ـ العاشق لكل الحيوات..وأحمق كل القرى .
تحدثه عن الغاز فى المطبخ الصغير..عن أضواء المواسم ..عن قيمة الأشجارالكبرى..وعمن تعتقد أنه الحبيب..عمن ابتدعته مؤمنة به.مخطوطتها التي أُنْجزتْ..بعَثتْ بها إلى الناشرين فردوا عليها قائلين:لا أحد يريد قصتك.نحن لا نعرف كيف نتناولها.وأين نصنُّفها.ثم عمن تتحدثين بالضبط؟عن نفسكَ أمْ عن [ريلكة ]؟ اختاري..إنه لمِن المزعج أن نراكِ هكذا ترقصين بقدم على قدم.وبكلمة على التى تليها.لكنها ما زالت تحاول.حاولت مرتين..ثلاث مرات .وفى كل مرة يقابلها الرد نفسه.حتى كفَّت عن فعل هذا.لقد تعافت تقريباً.تقريباً:تجد الغناء في ما بها من ألم.كأن المعاناة قربان للكتاب.لكن هذاالقربان لا يريده أحد.
مرَّت سنوات وسنوات..خمس سنوات.لمْ تعد تفكر فى كتابها.لا بل ما زالت تفكر.بطرق غريبة..بوسائل أخرى إضا فة إلى وسائلها هي.وصل إليكَ هذا النص ذات يوم سبت خريفي رائع .قراءة يوم السبت تلك تشبع كل الأيام التي تليه.كتبتَ أنتَ إلى المؤلفة التي ردت عليك.غير أن الرسائل لقيت نفس مصير المخطوطة:قراءة وحيدة تكفي لجعلها لا تنسى.نفس الصوت الهادئ يكون دائما.ودائما ما تغيب تلك الأ كذوبة.ليس لمرة واحدة لم تستعر كلاما غامضاً..كلاماً بلا بنيان وبلا أرض يستند عليها.تتفانى من أجل الأفكار وتخدم الأكاذيب.هي لاتتحدث إلا عن نفسها فى تفاصيل لحظاتها.إنها تمنحكَ رؤية العالم أكثر وضوحاً مما يقوله الصحفيون بصوت يشوبه التلهف.وبعلة تنتاب ذكائهم.هذا ما وضعتَ يدكَ عليه من خلال تلك الكتابة .وهذا ما اكتشفته فى مرافقة الأطفال:حضور حقيقي على الإطلاق ..طريقة لبقائك فى عالم يعيد العالم المألوف.ذات يوم..كتبتْ إليكَ أن كتَابها قد قُبِلَ أخيرا..وسوف يُنشر بعيداً جداً عنها.هناك فى ألمانيا.وبلغةٍ دائماً ما كانت تخشاها. وعلى أرض ليست هي الأرض التي عاشت عليها طفولتها .وفى يوم أخر..وأنتَ تُمرر يدكَ فوق غطاء من قطن كي تقوم بكيه..جاءتك صورة منها..براقة..صافية.كأنها كانت بكل أعضائها فى حركة بسيطة:تنشر..تمسح الطيات ..وتعود إلى الأكثر اتساعاً فى حركة متواصلة.لقد ظللتَ لوقت طويل دونما حركة..صامتا..يدك منبسطة فوق الغطاء ماسكا بين أصابعك وبين القطن هذه الثروة الأكثر من نفيسة:روح مشتعلة حتى درجة الشفافية..إنها قصة لم يكن يريدها أحد.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*** كريستيان بوبان.. أديب فرنسى كبير.ولد فى مدينة [Creusot] فى العام [1951] وظل بها طوال حياته وما زال بها. أصدر أكثر من خمسة عشر عملاً إبداعياً منها: مملكة الفراغ ـ سحر بسيط ـ ثناء الأشياء ـ فستان حفلة صغير .. ومنه أخذت هذه القصة .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى