كريستيان بوبان - وكأنَّنا تركْناه وشأنه.. قصة قصيرة - ترجمة: عاطف محمد عبد المجيد

حَالةُ الأزمةِ هي حالةُ العالمِ الطبيعية: حربٌ تلو أخري.. اكتشافٌ في ذيله اكتشافٌ آخر.. مجموعُ مبيعاتٍ مقابل نسبةِ انتحاراتٍ.. مجاعةٌ مقابل روائحَ كمالية. كلُّ هذه الأشياء تمتزجُ معًا في عالمنا هذا.. تتعايش سوياً.. كلها فيما عدا الحُبّ. الحبُّ الذي لا يتواءمُ مع شئ.. ولا نصيبَ له فى أي شئ. بل هو ذا يتناقصُ مثلما تتناقص أرغفةُ الخُبْزِ فى أزمنةِ الحربِ.. كما تتناقصُ الأنفاسُ فى حَلْقِ مَنْ زارْته لحظةُ الاحتضارِ.. كتناقصِ الوقتِ فى ألعابِ الطفولةْ. لا بدَّ لنا مِنْ وقتٍ إضافيٍّ كي نُمارسَ فيه طقوسَ الحبِّ.. فالوقتُ المُتاحُ لا يكفي لتلْبيةِ احتياجاتنا الداخليةِ للحبِّ.. لتلبيةِ مطالبِ صوْتنا الداخليّ.. دَمِنا الطفوليِّ البرئ.. فى صوْتٍ سماويٍّ. لا يُمسّ مُذنَّبُ الحبِّ سوي مَرّةٍ واحدةٍ للأبد.فعليناـ إذنْ ـ أنْ نسْهرَ ليْلاً حتَّي نراه. لا بدَّ مِنْ أنْ ننْتظرَ وقتاً طويلاً.. طويلاً.. طويلاً. تلكَ هي حالةُ الحبِّ الطبيعية.. وتلك هي حالته المُتْرفة. عجيبةٌ طبيعتُهُ: الانتظارُ.. الانتظارُ.. الانتظارُ بعيداً جداً عن التهورِ والصَخبِ، وعَنْ أيّةِ أزْمةٍ. الانتظارُ فى هدوءٍ وفي أَنَاةٍ. الحبُّ ـ الشِّعْرُ هو إحْساسه الرقيقُ..صورتهُ المُتواضعةُ كثيراً.. وجههُ لحظةَ الاستيقاظ ـ هو لُبُّ الانتظار.. وعذوبتهُ. أملٌ رقيقٌ وعميقٌ وكذلك مٌضئٌ. لقد اُبْتكرتْ شخصيةُ ”برسيـﭬال” فى القرن الثاني عشر علي يدِ ”كريستيان دي تروا“. القرن الثاني عشر كالقرن العشرين.. فالأيامُ جميعها تتساوي. وكل القرون تُواجه الاحتياجَ نفسه للأكلِ.. للعملِ من أجلِ الأكل.. للصراع من أجل العمل.. الكل يفقد دمه ووقته عن طريق الجُرْحِ نفسه.. في الاندفاعات المُلتبسة نفسها.

لقد نهضَ برسيـﭬال فى نهاية القرن الثاني عشر..امْتطي ظَهْر جَواده..ولمْ تكنْ أمُّه تريد له أنْ يصبحَ فارساً..فالأمهاتُ يعرفْنَ الكثير من الأشياء عن هذا العالم غير أنهنَّ لا يَقُلْنَ كل شئ. ورغم ذلك فالأطفال يعصون أمهاتهم..بينما برسيـﭬال والضوءُ يُحيط به من كل مكان..مُتدثراً بالذكاء الأمومي..يذهب من قصْرٍ إلي قصْرٍ في رحلةِ بحْثٍ عن شئٍ غير مُحدد.علي الأرجح عن شئ ضئيل.لم يكن يُدركُ أي شئ من الكتاب الذي أنهي قراءته.إنه مُتْعَبٌ..وإنه لشئ مُتْعِبٌ حقاً أنْ تبحثَ عن شئ تَجْهلُ كُنْههُ..كما أنه من المُتعِبِ أيضاً أن تكون في خدمة مَلكٍ فقَدَ سُلْتطه..عرشه..مَلِكتَهُ الجميلة..والفتيات اللاتي كنَّ يتزاحمن عليه.التعب هو أحد الأشياء التي تفيد كثيراً في التفكير.هو كالغِيرة.. كالكذب..أو كالخوف.كتلك الأشياء المُلوثة التى نطرحها بعيداً عن عيوننا..كتلك الأشياء التي تجعلنا نسقطُ أرضاً.أول وجهٍ مُتعَبٍ يقابلكَ في هذه الحياة هو وجه الأم..وجهها الذي أنهكتْه العُزْلةُ.أما الأطفال في سنوات عمرهم الأولي فيجذبون إليهم الحُلْم..الضحك..وخاصة التعب..بل التعب قبل كل شئ.مرةً واحدةً يُمْسي التعب ـ في الحياة ـ بابيْنِ مَهِيبيْنِ:الحبُّ والنوم. الحب الذى يستعمله التعب كالماء فوق الصخر..أما النوم فيُكدّسهُ كالماءِ فوقَ الماءِ.التعب هو قساوة النوم في الحب..حريق النوم فوق مساحات فسيحة من الحب.التعب مثل أمٌّ ليست طيبة..كأمٍّ لمْ تعدْ تصحو ليلاً لكي تُؤنس أطفالها بصوتها..أو لكي تغمرهم بذراعيها.إذن بأي وسيلة نتعرف علي المُتْعَبين؟ أولئك الذين يقومون بفعل أشياء دونما توقف.ويرفضون ـ بشكل مستحيل ـ العودة إلي ذواتهم.. إلى الراحة.. إلي الهدوء..وإلي الحب. إنهم يؤدون بعض الأعمال ..يُشيّدون المنازل مثلاً..أو يَمْتهنون مهْنةً ما حتَّى يتخلَّصوا من التعب نتيجةً لقيامهم بالعديد من الأشياء..لكنهم يستسلمون له.وقتهم يَنْقُصُهُ الوقتُ..فما يفعلونه كثيراً كثيراً..هو نفسه ما يفعلونه قليلاً قليلاً.حياتهم تَنْقصها الحياة..وكأنَّ حاجزاً زُجاجياً كائنٌ بينهم وبين أنفسهم..يُحاذونه بلا انقطاع.ثمة مَنْ يُشاهد التعب على قسَماتِ وجوههم..في أيديهم ..بين ثنايا كلماتهم.التعبُ يَسْكنهمْ كما يسكنهمُ الحنينُ إلي الماضي..كرغبةٍ مستحيلةٍ.

وكشَابٍ انفصلَ عن أمه..يذهبون مثل برسيـﭬال من سَهْلٍ إلي نهْر..ومن نهر إلي جبلٍ..ومن جبلٍ إلي سهلٍ.عن ماذا يبحث برسيـﭬال؟ هو نفسه لا يعرف عن ماذا..لمْ يعرف أبداً.إنه بالكاد يحصلُ علي وقتٍ لينام في القصور الخاويةِ علي عروشها.لقد اعتاد أنْ ينْتقلَ من مغامرةٍ إلي أخري.وذات يوم وجد أوزة زرقاء اللون تجتاز السماء الرمادية..أصابها سَهْمُ صيادٍ أسفل جناحها..فسقطتْ ثلاثُ قطرات دمٍ علي الثلج..نزل برسيـﭬال من علي جواده..اقترب ثم انحني ليشاهد تلك البقع الثلاثة من الدم الأحمر فوق الثلج الأبيض..وظلَّ ساعاتٍ وساعاتٍ يتأمل في هيئتهن.. وأثرهن..واللعب فيما بينهن.. فقالت له البقع شيئاً ما..ذكَّرته بوجه فتاة..أحْيتْ بداخله كم هو يحبُّ أن يرى ذلك الوجه..وكم كان مقدار تجاهله للحبِّ ضخماً!

لقد تركه التعبُ..ولم يعد يعرف كيف يعود إليه..خاصةً وأنه لم يكن هو ذاته داخل نفسه.ما نحبه ليس له اسم.يقترب منا..يضع يده فوق كتفنا قبل أن نعثر علي كلمة نُوقفه بها.ما نحبه مثل أمٍّ..تتسبب في وجودنا وتُحْيينا ألف مرةٍ ومرة.ثلاث بقع من الدم..ثلاث كلمات حمراء فوق حياة بيضاء.كان المَلكُ يود أن يتحدثَ إلي برسيـﭬال فأرسل إليه بعض الفرسان ليبحثوا عنه.. لكنه لا يجيب..إنه هناك مُنحَنٍ ـ دائماً ـ علي الثلج الأحمر..غير مُبالٍ بأولئك الذين يُطالبون باصطحابه إلي مكان آخر..بعيداً جداً عن العالم المتعَب.الشِّعر يبدأ هناك في القرن الثاني عشر ..فوق خمسين سنتيمتر من الثلج..أربع عبارات..ثلاث بقع من الدم. الشِّعر..نهاية كل تعب.. وردة الحب في ثلوج اللغة..زهرة الروح فوق أطراف الشفاه.حدث هذا في ذلك الزمن.. كالشعراء الجائلين يَلوكون اسم امرأةٍ بين أسنانهم ويُطلقون لأغانيهم العنان.بينما الأرض محجوز عليها في كوكب الغناء هذا.في ذلك الوقت وُلِدَ شكلٌ جديدٌ للإنسان..ساكناً وغائباً.ساكناً فوق الثلج الأبيض.. مُنحنياً فوق الغياب الأحمر..لم يعدْ يرغبُ في شئ من هذاالعالم..وكأننا تركناه وشأنه يتأمل حُبَّه لساعاتٍ..لأيامٍ..ولقرون. وكأنَّنا تركناهُ وشَأنهُ إلي الأبدِ..إلي الأبدْ…

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

** كريستيان بوبان (Christian Bobin)..كاتب وروائي وشاعر فرنسي كبير ولد في الرابع والعشرين من شهر أبريل من العام (1951) في مدينة كريزو(Creusot).

من أهم كتبه: (الحقير جداً..1992) – (رسم ذاتي للمشعاع..1997) – (بعث..2001).هذا وقد حصل كريستيان بوبان على عدة جوائز أهمها: لو دو ماجو والجائزة الكاثولوكية الكبرى للأدب.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى