وداد معروف - خالتي فريدة.. قصة قصيرة

خالتي فريدة امرأة في الخمسين من عمرها، وصفها كاسمها، فهي بين نساء الحي فريدة، أكثر ما يميز خالتنا فريدة هو نصفها الأسفل المفرط في السمنة فردفاها وفخذاها شديدا الامتلاء، نصفها الأعلى كأنه لامرأة رشيقة جدا، لها خصر يدهشك حين تراه، وجهها دسم مستريح، ملامحها دقيقة، عيونها صغيرة سكنت فيهما الطيبة والوداعة، يخرج من شفتيها الرقيقتين أجمل صوت وأنعمه، كان لا يحلو لنا اللعب في الإجازة الصيفية إلا أمام منزلها، فقد كان يقع في عطفة هادئة متفرعة من شارعنا الكبير، نقسمها بيننا وبين الأولاد، لهم أول العطفة من ناحية الشارع ولنا آخرها من ناحيتها المسدودة، لعبتهم أيضا غير لعبتنا، كانت لعبتهم المفضلة (الأحقاق) كما كنا نطلق عليها فيجمعون أغطية زجاجات الكوكاكولا بالمئات ويختارون منها واحدا يملؤونه بالرصاص السائل حتي يجمد فإن لم يجدوا ملأوه بالزفت الأسود أو الطين وهذان خفيفان لا يقويان على خلع الأغطية من الأرض التي غرسوها فيها، ولأن الصرف الصحي لم يكن قد دخل قريتنا بعد وكانت النساء يغسلن على أيديهن ويتخلصن من الماء بإلقائه في الشارع مما يجعل الأرض رطبة تناسب هذه اللعبة، ويقف من عليه الدور على بعد مترين من الأغطية المغروسة في الأرض من جانبها ويمسك (بالطساس) الرصاص أو الطين ويقذف به بتركيز شديد فما كفأه منها فهو له، وكلما كان ماهرا في التصويب وجمع مئات الأغطية عمل تاجرا لها، فيأتيه الأولاد الأصغر أو الأقل مهارة فيشترون منه العشرين بقرش وكان أشهر تجار هذه الأغطية في شارعنا، هو محمد سعيد ابن خالتي بدرية، كنا نرى أثر هذه النعمة عليه في نهاية الإجازة الصيفية فيدفع المصروفات المدرسية كاملة ويشتري ملابس العام الجديد وحقيبته ولا يتردد في شراء الكتب الخارجية مثلنا وقد كان لهذه الأغطية مهمة أخرى، فكان بعض الأولاد ينظمونها في أستك بعد تثقيبها ويصنعون منها عجلة يدفعها الواحد منهم بعصا في يده، وكان صانعها هو جلال زكي ابن خالتي فريدة وهو أيضا متخصص ملء الأغطية بالرصاص، وكان كمحمد سعيد في ثرائه وإنفاقه، أما لعبنا نحن البنات الصغيرات فكان أبسط من ذلك بكثير، كنا نرسم على الأرض بالطباشير مربعا كبيرا نقسمه إلى ستة مربعات ثم نأتي بعلبة ورنيش فارغة نملأها بالزفت الأسود أو الطين ونحكم غلقها جيدا ونحجل بها في هذه المربعات الست حتى نخرج منها جميعا دون أن تلمس قدمنا أيا من الخطوط، تعودنا أن نرى الخالة فريدة جالسة على سلم بيتها تتابع لعبنا لا نعرف تحديدا متى أصبحت حكما دائما في لعبتنا، فعندما نختلف على من لمست بقدمها الخط وتحلف نبيلة أنها ما لمسته وأصر أنا أنها لمسته وتهدد نادية بالانسحاب من اللعبة، هنا تتدخل الخالة فريدة بلهجة آمرة ......
نبيلة ... اخرجي من اللعب رأيت قدمك وهي على الخط
فتنصاع نبيلة دون كلام وتترك الدور لي أو لنادية ويعود للعب انضباطه، إذا أصابنا العطش دخلنا إلى زير خالتي فريدة، وإذا احتجنا إلى دورة المياه استعملنا دورة خالتي فريدة فقد شجعتنا سماحتها على ذلك، كانت لا تدخل بيتها إلا للصلاة أو الطعام أو لنيل بعض القيلولة فقد كفتها ابنتها سميرة مهمة تدبير شئون المنزل، تزوجت أخواتها الثلاث في مدن بعيدة وتأخرت هي في الزواج
أحيانا كانت تنادينا خالتي فريدة : بنات تعالوا ألعب معكم (الإيلان) وهذه اللعبة كانت بالأيدي بخلاف الحجلة التي كانت بالقدم وهي عبارة عن خمس قطع من الخزف صغيرة ومستديرة كأنها القرش نلعب بها على الأرض وعلى ظهر أيدينا وكانت الخالة فريدة محترفة في كليهما لكنها كانت تتعمد أن تخسر اللعب من أجلنا إذا رأت على وجوهنا انكسار الهزيمة، لم يكن ما يشدنا للعب هو الشغف بهذه اللعبة فقط ولكن الأشد سحرا هو صوتها مترف النغمة والذي يحرك في الروح أشجانا، كانت تترنم به وهي تلعب معنا، ظلت معي هذه الأغنيات بصوتها يتردد داخلي دائما ( هان الود ، يا قريب وبعيد ، امتى هتعرف امتى؟ ) ومن هنا تكونت ذائقتي الراقية للسماع، كثيرا ما كنا نوقف اللعب كي نسمعها ونظل في هذه المتعة والسعادة حتى نسمع نحنحة عم زكي في أول العطفة، فتجري كل واحدة منا إلى حذائها فتحمله في يدها ولا تتوقف عن الهرولة إلا في بيتها فتقابلني أمي وأنا ألهث قائلة:
عمكم زكي كبسكم ؟!
كانت أعمارنا حينها لا تزيد عن الثمان سنوات فقد كنت أنا ونادية ونبيلة من نفس الشارع وفي نفس المدرسة ونفس الفصل، لم نكن نحن فقط من تعلقت عقولنا وقلوبنا بالخالة فريدة ولكن أمهاتنا أيضا، فقد كانت لهن وما زالت كما هي لنا، كانت أما لنساء شارعنا تحمل قلب فنانة وعقل حكيم ورصانته في السلوك فبرغم تماهيها مع الأطفال وحبها لهم كانت قليلة الكلام جدا وإن تكلمت فعندها ما يُنصت إليه، كان هناك دائما سؤال يحيرني، كيف لهذه الفنانة الوديعة الراقية أن يكون زوجها عم زكي هذا العابس دائما والساخط أبدا؟
لم يكن الصوت الجميل هو موهبة خالتي فريدة فقط ولكنها كانت أيضا مبدعة في فنون الكروشيه والتريكو رأيت علي عم زكي أجمل الكوفيات من صنع يديها وعلى جلال ابنها أفخم الكانزات لما بدأت في صنع شال لابنتها سميرة جمعتنا أنا ونادية ونبيلة وعلمتنا كيف نصنع الغرزة الأولى حتى امتلكنا هذا الفن بعد ذلك وليس هذا فقط آخر مواهبها، فقد كانت لها موهبة أخرى تسلب الألباب وتطلق العنان للخيال، كانت قدرتها الفائقة على الحكي والسرد، فهي حكَّاءةٌ بارعة، قالت لنا يوما:
يا بنات إذا أذن المغرب وخرج عمكم زكي لمقهاه تعالين أحكي لكن حواديت!
ضج قلبي بالفرحة وقلت لها:
صحيح يا خالتي ستحكين لنا حكايات
وقالت نادية وهي تضحك:
الله يا خالتي فريدة ستحكي لنا كما حكيتِ لأمهاتنا من قبل ؟
ابتسمت الخالة فريدة ابتسامتها الوادعة وقالت:
سقى الله تلك الأيام التي كانت تجمعنا فقد كنَّ يجتمعن عندي فنملأها بالحكايات وندفئها بالحب، وهنا انطلقت نبيلة كالصاروخ:
وأين كان عم زكي فلو رآهم لطردهم،
سُرقت البسمة من على فمها وقالت:
كان يعمل في العراق حينها،
خرجنا من عندها وقد تشابكت أيدينا وأخذنا الشارع جريا حتي منازلنا المتلاصقة ونحن نصيح بصوت واحد:
خالتي فريدة هتحكي لنا حكايات .. خالتي فريدة هتحكي لنا حكايات، كان أجمل ما في ابنتها سميرة تفهمها لسعادة أمها بهذا العطاء، فكانت تبش في وجوهنا إذا قدمنا وتجلس معنا تستمع لصوتها الآسر في الغناء وأسلوبها الذي يشبه كثيرا شهرزاد في ألف ليلة وليلة ولم تكن سميرة تبخل علينا بما عندها من حلوى أو فاكهة وإن لم تجد فربما صنعت لنا شايا أو حلبة، ظللنا مع خالتي فريدة هكذا لسنوات حتى كنا في المرحلة الإعدادية وفي ليلة من الليالي ونحن نتحلق حولها إذ دخل علينا عم زكي ونحن في حالة استماع عجيبة فلم نشعر إلا بكرباجه يلسعنا على أرجلنا فهرولنا إلى الشارع ولم تعد تلك الليالي مرة أخرى لكن الخالة فريدة ظلت تسكننا، وعندما كبرت أجابت أمي على سؤالي الحائر أن عم زكي أجبر خالتي فريدة على بيع أرضها التي ورثتها عن أبيها وبددها على السيارات تبديلا وتغييرا وعلي الحشيش الذي يتعاطاه كل يوم مع زملائه السائقين، ولأنها أصيلة ومن بيت كريم حافظت على بيتها وتجملت بهذا الصبر الطويل الذي قابلت به سوء عشرته وخصامه لها الذي كان يطول لسنة أو ستة أشهر لا يكلمها فيها أبدا
لكن تولد لدي سؤال آخر كيف استطاعت خالتي فريدة المحافظة على هدوئها النفسي وعدم التفريط في لحظاتها السعيدة التي كانت تقضيها معنا ومع من قبلنا ومن جاؤوا بعدنا ... يا لها من فريدة
انسالت عليَّ هذه الذكريات وأنا أجلس أنا ونبيلة ونادية أمام الخالة فريدة، حاولنا أن نذكرها بنا فلم تذكرنا، ابتسمت لنا ابتسامة هتماء، لم تعد تعرف إلا سميرة ابنتها التي عادت لها بعد أن ترملت، انطفأت العيون المشرقة وانكمش الجسد الغض حتي كأنه جسد طفلة في العاشرة، أين العيون المشعة بالحنان؟ لم يبق منها إلا حملقة مذهولة، تبا للسنين التي تسلبنا أجمل ما فينا وتشعل النار في حياتنا فتخلفها رمادا، كان شوقنا لزيارة خالتنا فريدة عارما بعدما فرقتنا الأماكن والسنون، لكننا لم نجد الخالة فريدة



* نقلا عن نادي القصة السعودي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى