محمد اليعقابي - 1 - الشخصانية الواقعية لمحمد عزيز الحبابي (1922-1993)

  • ما هي الشخصانية؟
  • إشكالية الحبابي
  • من الكائن إلى الإنسان (الكائن، الشخصية، الشخص، التشخصن، الإنسان)
  • التعالي
  • الأخلاق
  • الحرية
  • الكوجيتو
  • المنهجية ومفهوم الواقعية
  • الشخصانية الإسلامية (الشهادة والكوجيتو، الحبابي والسلفية الإصلاحية)
  • الحبابي وابن خلدون
  • الفلسفة السياسية والاجتماعية
  • فلسفة التاريخ و "الغدية"
  • هل الحبابي شخصاني؟
  • مأزق الرشدية المبتذلة
  • الشخصانية في العالم العربي (بين الحبابي وروني حبشي)
  • لماذا فشلت الشخصانية في العالم العربي؟
يعد الحبابي رائد التأليف الفلسفي المعاصر في المغرب، وهو أحد ممثلي المذهب الشخصاني في العالم العربي مع روني حبشي.
أما اسم "الشخصانية الواقعية" الذي أطلقه على فلسفته، فهو يدل على الاتجاه الذي ينتمي إليه واعتراضه عليه، فالتصحيح الواقعي للشخصانية يهدف إلى فتح أفقها الذي كان مطوقا باخروية eschatologie مسيحية عند إمانويل مونيي وجون لاكروا.[1]
وهذا الاختيار للشخصانية يبدو فريدا في عصر كانت فيه النزعة السائدة لدى كثير من المفكرين العرب تتميز بالميل إلى اقتباس الفلسفات المادية أو الوضعية، لأنه كان يبدو أنه لا حاجة لاستيراد الفلسفات الروحانية لأن الشرق في غنى عنها.
وقد وجهت هذا البحث الأسئلة التالية:
- ما هي إشكالية الحبابي؟
- ما هي المفاهيم الجديدة التي أتى بها ومدى مطابقتها لمبادئ الشخصانية؟
- ما هو مفهومه للواقعية؟
- أي علاقة تربط فلسفته بالفلسفة العربية الإسلامية؟
- ما سبب هامشية الشخصانية في الفكر العربي المعاصر؟

ما هي الشخصانية؟


الشخصانية، وكما يدل على ذلك اسمها، مشتقة من "شخص". وإذا أردنا البحث عن مصدر هذا الاشتقاق، فإن إمانويل مونييه يعطينا، في بداية كتابه "الشخصانية"، مفاتيح للصعود إلى البوادر الأولى للمذهب الشخصاني. فأول جملة في المقدمة تقول: " كلمة "شخصانية" لم يتم تداولها إلا حديثا. وقد استعملت في سنة 1903 من قبلرونوفيي Renouvier لتسمية فلسفته، ليطالها الاهمال (...) ثم ظهرت من جديد في فرنسا حوالي 1930 لتعين، في مناخ مغاير، الأبحاث الأولى لمجلة "الروح" Esprit ولبعض الجماعات المجاورة (نظام جديد Ordre nouveau، الخ.) حول الأزمة السياسية والروحية التي انفجرت آنذاك في أوروبا"[2]. لكن رونوفيي لم يشتق هذه الكلمة فحسب، بل هو يضعنا في الطريق الذي سلكته كلمة "شخص" عبر التاريخ قبل أن تشتق منها فلسفة قائمة بذاتها. فرونوفييه بصفته ممثلا للنقدية الجديدة، المسماة أيضا الكانطية الجديدة، يربط الاتصال مع إمانويل كانط.
ويعطينا الحبابي لمحة تاريخية لتطور مصطلح "شخص" وللعتبات الأساسية في طريقه الطويل، ابتداء من personna اللاتينية التي استعملت في ميدان المسرح؛ واتصالها بالفلسفة اليونانية في القولة الشهيرة لسقراط: "اعرف نفسك بنفسك"، "فكان هذا الاتصال الثورة الشخصانية الأولى". وعند الرومان تكون مفهوم الشخصية القانونية. وفي المسيحية صارت بمعنى "جوهر فردي ذو طبيعة تمتاز بالعقل". وهي عند ليبنز "مملكة الأفكار". وعند كانط ("كنت" كما يكتبه الحبابي) ترتبط ب "فكرتي الواجب والاستقلال الذاتي (اللتين تجعلان الفاعل غاية في عالم الغايات، عالم القوانين الأخلاقية). لكن هذا النوع من "الشخصانية" عند (كنت) يبقى شخصانية شكلية، جافة، لأنه (في نظر (كنت) ليست لي كرامة شخصية إلا بالقدر الذي أكون جزءا من مجموعة من الناس، ما دام الكل يخضع لآمر قطعي واحد". ومع الثورة الفرنسية ارتبطت بمبادئ حقوق الإنسان. ويدعي الحبابي أن الإسلام "قد تقدم ... أن أعلن عن هذا المبدأ، فالقرآن يقر أن للشخص كرامة يجب صيانتها وحرمة يحرم التنقيص منها: كل الناس متساوون، فيما بينهم، وأمام الله". ثم يأتي دور هيجل الذي يربط الشخص بالدولة. وهو ما يعارضه كيركيجارد "لأن الشخص ليس بفكر مطلق، ولا بجزء لا يتجزأ من الدولة التي يجب أن يضحى به لفائدتها، بل إن الشخص وجود يشعر بنفسه في التأمل المنعزل، وجها لوجه مع الله..."... "إن كيركيجارد لا يستعمل كلمة "شخص" بكيفية صريحة للدلالة على ذلك الشيء الذي يريد أن يعطيه الرتبة الأولى. إنه ذكر، مرة واحدة، في كتابه "رسالة عن السخرية" لفظة "شخص" ولكنه، بعد مدة قصيرة، استعاض عنها بكلمة "وجود". فمع كيركيجارد إذن أصبحت كلمة "شخص" مرادفة لكلمة "وجود" إلى حد أنه يصعب علينا، أن ننعت، بتدقيق، بعض الاتجاهات الفلسفية المقتبسة من تأملات كيركيجارد: لا ندري أهي "شخصانية"، أم "وجودية"...[3] وفيما يخص رونونفيي يقول الحبابي: "يرجع الفضل، إلى رونوفيي في رد الفعل، ضد المكان الثانوي الذي خصص للشخص من طرف هيجل والوضعيين وأصحاب علم الاجتماع، إذ شخصانية رونوفيي تريد أن تجعل من الشخص المقولة العليا، ومركز تصور العالم: "كل معرفة هي حدث من الشعور الذي يفترض ذاتا، نعني الشعور نفسه وموضوعا متصورا، وكل تصور هو، في الحقيقة، علاقة أو عدة علاقات منضوية تحت قانون". ومن ضمن المقولات التسع التي أعطاها رونوفيي توجد الشخصية. و"الشخصية نقطة التقاء المقولات، لأن المقولات قوانين تلف كل ما يعرفه الفرد، أو ما يستطيع أن يعرفه." "فالشخصية أو الشعور علاقة، وهذه العلاقة شرط وجود كل العلاقات الأخرى، التي تنضوي تحتها".[4]
وفيما يتعلق بالشخصانية كفلسفة، فهي ترفض أن تعتبر نفسها مجرد تيار فلسفي ضمن التيارات الأخرى؛ ويعبر جون لاكروا عن هذا الموقف قائلا:" الشخصانية ليست فلسفة ضمن الفلسفات الأخرى، بل إنها القصد الجذري intention radicale للإنسانية".[5] قد يعبر هذا القول على ادعاء كل مذهب امتلاك الحقيقة، لكنه على لسان لاكروا يهدف إلى تحديد الغاية من كل تأمل فلسفي، ألا وهي خدمة الشخص البشري مهما اختلفت المشارب النظرية والعقدية. ويؤكد الحبابي نفسه هذا الوصف قائلا: "ليست الشخصانية منظومة فلسفية، ولكنها مجموع انضواءات ومواقف يتخذها المرء أمام عالم اليوم"[6].
وكان على الشخصانية أن ترد على الذين نعتوها بكونها مجرد إيديولوجية، نظرا لوزن الأحداث في نشأتها. إلا أنه من اليسير دفع هذه الحجة، لأن الإفلاس الشامل لكل الأنظمة المتنافسة فيما بين الحربين (ليبرالية، شيوعية، فاشية، ديموقراطية) ألقى بظلاله على المراجع الفكرية المؤسسة لها، فلم لم يبق هناك مقياس للحقيقة غير كرامة الانسان. ففي رأي مونييه تشمل الشخصانية "كل مذهب وكل حضارة تحض على أولوية الشخص البشري على الضرورات المادية والأجهزة الجماعية التي تدعم نموه". ولهذا ضمت الشخصانية تحت رايتها كل الذين "كانوا يبحثون عن طريقهم خارج الفاشية والشيوعية والعالم البورجوازي المنحط".[7]
كان التيار الشخصاني، وما زال، يعبر عن مواقفه من خلال مجلة Esprit (الروح) (يسميها الحبابي "الفكر") التي تأسست سنة 1932. ويقول ميشيل وينوك أن هذه المجلة صدرت "عند ملتقى ثلاث أزمات، تكاد تكون متزامنة، وهي: أزمة مجتمع صدمته الحرب والأزمة الاقتصادية، وأزمة حركة عمالية مزقتها البلشفية، وأزمة تيار كاثوليكي لم يجد له بعد موقعا في المشهد السياسي la cité، وأخيرا أزمة الديموقراطية الليبرالية المتمثلة في ميوعتها الأخلاقية وعدم استقرارها".[8] ومن المفارقات أن مونييه، كالفاشيين، لا يرى في الإرادة الشعبية إلا أسطورة "تغذيها الديموقراطية الليبرالية، فالأغلبية الانتخابية لا تكفي لكون الأغلبيات لا تعرف أية غاية حقيقية".[9]
وهذه الأولية التي تعطيها الشخصانية للعمل السياسي لها دلالتها. فقد كانت التيارات الروحانية تكتفي بموقف تأملي (بمعنى انها تكتفي بتأويل الكون عوض تغييره: حسب القولة الشهيرة لماركس)، ولهذا كانت تتهم بكونها رافدا من روافد إيديولوجيا الأنظمة المحافظة؛ إلا أن أزمة الإيديولوجيات التي سادت بين الحربين ساهمت في عودة الدين إلى الواجهة، وتخلص الروحي من الصورة التي جعلت منه إيديولوجيا مجتمع في طور الانقراض، وتحول إلى بنية تحتية.[10] (بمعنى أن الدين والحياة الروحية، بصفة عامة، من الأسس التي ينبني عليها المجتمع وليست مجرد انعكاس للمحيط المادي وللعلاقات الاقتصادية، كما تدعي الماركسية وبعض المذاهب الوضعية). وهكذا تمكنت الشخصانية من إعادة الله إلى عالم الفلسفة من بابها الأوسع. وهذا العود يعبر عنه جون لاكروا قائلا: "الله موجود لأنه يستحق الوجود، ولأن العالم بدونه لا دلالة له، ولأنني (كإنسان) لا أكفي لكي أمنحها إياه. فالإيمان رفض للعبث".[11] « Dieu existe parce qi’Il le mérite, patce que sans Lui le monde n’a pas de sens et que je ne suffis pas à lui en donner. Croire c’est donc refuser l’absurde »
وقد استفادت الشخصانية من ظروف فكرية ملائمة جعلت مونييه، حسب وينوك، "لا يبدد قواه في الدفاع. فعيب الإيمان لا يكمن في تناقضه مع العلم بل في تواطئه مع العالم البورجوازي.[12] لقد كان مونييه واعيا بان إعادة الاعتبار للمسيحية تكمن في فصل الكنيسة والمسيحية عن عالم مسيحي يحتضر[13]، وتخليص الروحي من الروحانية،[14] (أي النزعات الدينية التي لا تهتم إلا بإشكاليات أخروية بعيدة عن انشغالات الناس) ومن الفوضى السائدة،[15] وفصل الثورة عن المادية.[16] (أي أنه ليس من الضروري ان تكون ماديا لتكون ثوريا حقا) لقد كان هدف مونييه مواجهة التحدي النتشوي (من نيتشه)، لهذا كان يرى أنه يجب أن تعاش المسيحية بشكل بطولي وأن تتحول إلى ديانة الأقوياء والشعب. [17]
مما سبق يتبين لنا أن الشخصانية أعادت بناء الميدان الفكري، فاصلة بين عناصر جمعت بينها الإيديولوجيا (المادية والتقدم والثورة، من جهة؛ والدين والمحافظة السياسية والاجتماعية، من جهة ثانية)، وجامعة لمواقف تبدو لأول وهلة متناقضة (الروحية والالتزام بالقضايا الدنيوية). والهدف هو الجمع بين التطلعات الروحية والتقدم المادي والحرية. لكنها ليست مجرد تركيب. فعلى المستوى الفلسفي تعد الشخصانية نفسها وارثة لفلسفة الفاعل، لكنها تريد إنزالها إلى العالم المادي والاجتماعي، فالشخصانية لم تواجه المثالية إلا لكي تضمن مكاسبها الدائمة.[18] إن الشخصانية لا تنفي المحددات الواقعية للفكر، لكنها ترى أن التفكير يتعالى على هذه المحددات. كما أن المنهج الانعكاسي réflexif (أو التاملي) يجب أن يواجه تحدي النقد النتشوي والماركسي.[19]
جوهر الشخصانية هو تأكيدها على وجود شخص حر وخلاق، ما يضع في قلب كل فلسفة مبدأ يمنعها من الانغلاق في نسق شامل ونهائي. فالشخصانية تعارض كل نسق فكري يعمل على منوال موزع آلي للحلول والتوجيهات، ويصير بذلك حاجزا في طريق البحث، وملجأ للخائف وللذي ترهبه المحن والمخاطرة. كما أنه لا ينبغي لفكر جديد أن يتسرع في ربط حزمة المشكلات التي يطرحها. ولهذا يرى مونييه أنه لا توجد شخصانية بل شخصانيات وينبغي احترام مقارباتها المختلفة. [20]
إن الحرية والتعالي صفات للفكر وللشخص أيضا. وكما أن هناك تعالي للفكر إزاء محدداته، فالشخص كذلك لا يجوز أن يرد إلى صفاته الموضوعية. إن الشخص كائن روحاني من حيث ماهيته ومن حيث انتمائه الحر إلى سلم من القيم، يستوعبها ويعيشها من خلال التزام مسؤول وتحول متواصل. وهكذا يوحد الشخص كل نشاطه في الحرية، وينمي زيادة على ذلك بواسطة افعاله الخلاقة أصالة قيمته.[21]
إن الشخص نقيض الفرد، لأن الفردانية تشتت الشخص في المادة، إنها ذاك الفيض الذي يغمرني من الأشياء والقوى والمؤثرات المتعددة والمبعثرة، والذي يجعلني أكذب على نفسي.[22] والفردانية تمثل المرض البورجوازي: "ففوضى حضارتنا وضيقها الروحي يبدوان في النموذج الإنساني الذي خلقته، ألا وهو البورجوازي، بصفته الوجه الأساس والنموذج المشترك الذي يريد الكل أن يقلده، كما كان الأمر سابقا مع البطل والقديس. لكنه على عكس البطل والقديس، بصفتهما وجهان مثاليان من الكمال والتجاوز، فإن البورجوازي نموذح إنساني مسطح، فقير ومنحط في مبدئه نفسه. البطل والقديس نداء يمتد نحو الأعلى في ضوء الكائن، بينما البورجوازي سقوط بئيس نحو الأسفل في ظلمة الكسب والمادة. وضعف طبيعته تجعل منه علة un mal جذرية، علة تنفرد بها الحضارة العصرية. وإذا كانت العلة البورجوازية تنحدر تاريخيا من الطبقة البورجوازية (...)، إلا أنها أصابت اليوم المجتمع بكامله". "والعلة البورجوازية علة جذرية، لأنها تنبع من ماهية البورجوازي ومن مثاله الأسمى، أي الفردانية بصفتها "ميتافيزيقا العزلة الشاملة" métaphysique de la solitude intégrale والانفصال، و" انحطاطا للفرد قبل أن تكون عزلته"[23].
إن الشخصانية، على عكس الماركسية، لا تعطي محتوى قبلي للمجتمع الشخصاني، لأن نظام الشخص مكون من حركة مزدوجة، تبدو متناقضة ظاهريا لكنها في الواقع جدلية، وهذه الحركة تهدف إلى تأكيد مطلقات des absolusشخصية تقاوم كل محاولة للرد réduction، وإلى بناء وحدة كونية لعالم الأشخاص. وهذه الوحدة ليست وحدة تماثل، لأن الشخص، بالتعريف، هو ما لا يمكن تكراره مرتين.[24]
هذه هي المبادئ التي تجعل من فلسفة ما فلسفة شخصانية. إلا أن الشخصانية تفتقر لمفاهيم خاصة بها، فهي تستمد مفاهيم من تيارات فلسفية مختلفة وتخضعها لأفق شخصاني. ومن الأمثلة على ذلك كتاب: بحث في الطبع Traité du caractère لمونيي، والذي يستعيد فيه خلاصات البحوث في علم النفس والتحليل النفسي المتداولة في عصره (بياجي، فرويد، آدلر وغيرهم) ويعيد قراءتها في أفق شخصاني. وهكذا يخضع الطبع لمقاربة مزدوجة: موضوعية واستبصارية prospective، "فالإحاطة بطبع ما تعني معرفة وحب وعوده وامكانياته، وليس سجنه في إطار جامد"[25]. ولهذا يضع مونيي كل ما يتعلق بالطبع تحت سلطة الحياة الأخلاقية، أي أنه يخضع البحث الموضوعي لمتطلبات الأخلاق[26].
وقد أدى هذا الاعتماد على الفلسفات الأخرى إلى أن مكونات أساسية للشخصانية عرفت مصير مصادرها الأصلية، إذ انعكس أفول الماركسية والوجودية عليها أيضا.
وتكمن المفارقة في كون بعدها الأيديولوجي، الذي أوخذت عليه، هو الذي حافظ على دلالته وحيويته. ولهذا من الممكن أن تمد الأيديولوجيا اليد للفلسفات التي صنعت الشخصانية وتعطي نفسا جديدا للماركسية والوجودية. وهذا ما يفسر استمرار وحيوية مجلة Esprit.
أما فيما يتعلق بالمثقفين المسلمين الذين يريدون التوفيق بين تشبثهم بثقافتهم الأصلية ورغبتهم في الانفتاح على الثقافة والقيم الحديثة، فإن الشخصانية تقدم لهم مفاتيح لتحقيق ذلك. فبفضل الشخصانية لم تعد طريق الحداثة تمر بالضرورة عن القطيعة مع الدين. وكما عبر عن ذلك هرنانديز: لقد كانت الشخصانية تمنح للطلبة المسلمين الشباب إمكانية "التوفيق بين عقيدتهم الإسلامية ووطنيتهم المشروعة وثقتهم في الحرية والتقدم والعقل"[27].

إشكالية الحبابي


لقد ذكرنا سابقا أن الحبابي أراد تجاوز الأفق الأخروي المسيحي للشخصانية عند مونييه ولاكروا، وذلك بفضل مقاربة واقعية، بل إنه يرى "أن الشخصانية، إما أن تتركز في صميم الواقع، وإما أن تصبح لا شيء"[28].
فالواقعية هي المفتاح لفهم إشكالية الحبابي. فهي ليست النعت الذي أراد أن يميز به شخصانيته عن التيار الغالب في هذه الفلسفة فحسب، بل هي المبدأ الذي أراد بواسطته إعادة قراءة الفلسفات التي استعان بمفاهيمها لتأسيس فلسفته. وهذه الواقعية يوظفها أيضا من أجل إيجاد الأجوبة لإشكاليته الوجودية التي عبر عنها قائلا: " لقد تم تصور الشخصانية الواقعية انطلاقا من ثقافة مزدوجة، إسلامية وغربية؛ وأنها نبعت من انشغال مزدوج: الرغبة في تنمية وإحياء الروح الواقعية والتركيبية في عالم الإسلام؛ وإثارة اندفاع نحو الأنا، حيث يتجاوز الأنا ذاته دون أن يفقد شخصيته. وبما أني كنت منجذبا من قبل مجتمعين مختلفين، على مستويات متعددة، فقد رزأت تحت "شعور بالفراغ"، وهو شعور دفعني إلى مقابله المتمثل في التواصل مع الغير. وبهذا الانفتاح على الغير أعدت اكتشاف ذاتي، كما اكتشفت التعاطف والحب... أي كل ما يربطني بأمثالي، ومن خلال هذا النزوع نحو الآخر انكشف لي أنني كائن ينتمي إلى عشيرة".[29]
في هذه الفقرة المستشهد بها يشخص لحبابي نقصا يتمثل في غياب الواقعية في الثقافة الإسلامية، ويحدد لنفسه هدفا فكريا وهو التركيب بين الثقافتين الإسلامية والغربية. لكنه يراعي ألا يكون الانفتاح على الغير مطية للاستلاب ولفقدان الهوية، حتى ترتاح نفسه لهذا التوفيق بين الثقافتين.
لهذا تتكرر تحت قلم الحبابي عبارات: تجاوز، تركيب، جدلية. ففلسفة الحبابي فلسفة "لا هذا ولا ذاك"، وكلما وجد تناقضا أو ثنائية إلا وحاول تجاوزها. وكأنه أراد توحيد الفلسفة على أساس واقعي وبفضل رسم موسطات médianes بين مختلف الفلسفات.
فبين فلسفة الكائن وفلسفة الشخص يقترح "تحليل الانسان كمركب من الكائن والشخص، مع إبراز لمستويات تناغم هذا التركيب ومجالاته، وذلك بواسطة فلسفة للحقيقة الواقعية للإنسان"[30]. وهذه الواقعية ليست موجهة للثقافة الإسلامية فقط، بل للثقافة الغربية أيضا.
كما اختار الحبابي الفلسفة الشخصانية لأنها دمجت مكاسب الماركسية والوجودية بهدف تجاوزهما معا[31]. لكن تعلق الشخصانية بالدين، كما هو شأن بعض التيارات الوجودية، جعل الحبابي يتساءل إن لم يكن هناك سبيل لإرضاء المؤمنين وغير المؤمنين[32]، قائلا أنه "إذا كان كل إيمان عاجز في مواجهة إيمان مختلف، فإن مهمة الشخصانية الواقعية تكمن في البحث عن جدلية لا تفرض "لا هذا ولا ذاك" بل تحاول التوفيق (دون السقوط في التلفيق éclectisme) بين هذا وذاك وإعلائهما transcender؛ وهذه الجدلية ناشئة من الوعي بأن الأطراف تتلاقى، بل عليها أن تتلاقى. فالشخصانية الواقعية لكي تكون مذهبا إنسيا حقيقيا عليها أن تضع الله بين قوسين، أي ألا تجعل منه متهما أو عائقا، كما لا تجعل منه محركا مطلقا. فإذا وضعت الألوهية théisme أو نقيضها كمسلمة فإنها تعرقل البحث حول الإنسان. فالوحدة (وحدة الأضداد) هي الحل الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه لكي يتشخصن الشخص ويأنسن كل ما يحتك به. وكل كثافة الإنساني مرهونة بذلك"[33].
لكن المفارقة تكمن في كون الحبابي بعد تنظيره لصيغة يمكن نعتها بالعَلمانية، تخاطب المؤمن وغير المؤمن وتتجاوز الأخروية المسيحية، يقدم صيغة إسلامية للشخصانية. ولا نجد في كتاباته تنظيرا لهذا الإخلال بالواقعية التي يدعيها، إلا إذ اعتبرنا الشخصانية الإسلامية شخصانية واقعية. أو لربما أنه أراد أن يعطي للقارئ المسلم نسخة مقابلة للنسخة المسيحية، نظرا لكون بعض عناصر الأخروية المسيحية (كالخطيئة الأصلية والسقوط والتجسد والتثليث) غريبة عن التصور الإسلامي لعلاقة الله بالإنسان. وهكذا تتعايش لديه شخصانيتان كل واحدة منهما تخضع لمنطق خاص.
وفي مقاربته للفلسفة البرغسونية (التي تناولها على مستوى مفهوم الحرية في كتابه: حرية أم تحرر؟) حاول إيجاد تركيب للثنائية البرغسونية بواسطة البحث عن أسس واقعية لوجهي الثنائية، حيث انتهى بتوحيد الأنانين (العميق والسطحي) في "أنا شامل"[34]. وفي موضوع الحرية حاول تجاوز الاختيار الحر والحتمية الدوغماتيةبفضل "حتمية لينة قابلة للفهم ومحررة"[35]. فأفرغ الحرية من كل التأويلات المتافيزيقة ليردها إلى مجرد "تحرر" وإلى "حصيلة إيجابية للحريات" (مجموع الحريات الجزئية)[36]. والملاحظ أن كل تحليل الحبابي لمسألة الحرية مصطبغ بتوجه معاد للبرغسونية بصفتها فلسفة ثنائية وذاتية أساسا.
وقد تركزت قراءتنا للحبابي على تتبع كيفية تعامل هذه الإشكالية مع مختلف المواضيع التي تناولها في كتبه الفلسفية الأساسية. وتقويم الحلول التي اقترحها للتوفيق أو تجاوز الاختلاف بين مختلف الفلسفات التي تطرق لها. بما ان الهدف الذي حدده الحبابي لنفسه هو إعادة قراءة الشخصانية والبرغسونية على أسس واقعية، فإن أي تقويم لفلسفته عليه ان يراعي مدى توفيقه في بلوغ هذا الهدف. وهل كان من الممكن رد المفاهييم الميتافيزيقة والمثالية إلى مفاهيم واقعية دون خسارة ودون تشويه أو مسخ. وفي الأخير سنحاول تحديد مفهوم الواقعية كما طبقه في مقاربته.

من الكائن إلى الإنسان (الكائن، الشخصية، الشخص، التشخصن، الإنسان)


تحيل شخصانية الحبابي إلى أربعة مفاهيم أساسية، وهي: الكائن والشخصية والشخص والإنسان. وهي مفاهيم يعطيها الحبابي معاني مختلفة عما هو متعارف عليه.

الكائن


يقول الحبابي في بداية الفصل الذي خصصه لمفهوم الكائن: "إن الكائن الإنساني معطى خام، يظهر ويصير، كلما ازداد اتجاهه نحو التشخصن، ونحو الاندماج في مجتمع الأشخاص. فهو باق "كائنا" خاما ما لم يظهر للآخرين، وبذلك نتوصل إلى معنى الارتباط بين الكائنات، لأن الظهور لا يكون إلا بالنسبة للآخرين"[37].
إن هذا التعريف للكائن البشري ك"معطى خام"، يطرح مشكلتين فلسفيتين، الأولى تتمثل في كون الحبابي ضيق من ما صدق extension الكائن ليحصره في الكائن الإنساني، مسوغا هذا التضييق قائلا: "سنقتصر في بحثنا هذا، على تفهم الكائن البشري، أي الموجود الشخصي، متجنبين إثارة المعضلة المستعصية التي كانت عند القدماء موضوع الاهتمام الدائم للتفكير، حيث كانوا يتخذون كنقطة للبداية: "ما هو الكائن؟"[38].
والمشكلة الثانية تكمن في "التوضيح" الذي يماثل المعطى الخام بقطعة القماش بين يدي الخياط ومقابلها عند الإنسان، إذ يقول: "فللطفل منذ ولادته، استعداد فطري نوعي للنضج. وبعبارة اخرى، إن له قوى ذاتية تؤهله لقبول الحوادث، والانفعال بها"[39]؟ وفي موضع آخر يقول: "لقد قلنا إننا نقصد بالكائن المعطى الخام. إنه الشيء الذي يأتي إلى العالم، فيجده الآخرون هناك. ولكنه حتى في حدود تكوينه البيولوجي، يحتوي على كائنات ممكنة لا نهائية، يستطيع أن يحقق منها هذا وذاك"[40].
وما لا نفهمه هو لماذا يستعمل الحبابي مصطلحا فلسفيا يتجنب استعماله الواقعيون (نظرا لغموضه) وهو الكائن، مع العلم أن ما يسميه بالكائن/ المعطى الخام يحيل إلى علم النفس، وبالضبط إلى المحددات المؤسسة للشخصية[41] les déterminants constitutionnels، والتي تشمل المعطيات الفطرية والوراثية والعضوية، ومن ضمنها الطبع الذي خصه مونييه بتحليل طويل في Traité du caractère ؟

الشخصية


"الشخص وشخصياته" هذا عنوان فصل من الكائن إلى الشخص. وما يثير الانتباه في هذا العنوان هو ان الحبابي يذهب إلى أن للشخص عدة شخصيات. ويقول موضحا " ليست الشخصية إلا فترة من التشخصن، تزمن في الحال الكائن البشري. وعلى عكس ذلك إن الشخص، قبل كل شيء، هو كل الشخصية الحالية بما فيها من ماض، ونزوعات للمستقبل: إنه مجموعة شخصيات، لكن كل شخصية حالية شيء مستغرب أي مشكلة. ذلك ان كل شخصية، من حيث إنها فترة من فترات الشخص، ليست مسلكا تمر به الحركة المشخصنة، وليست الحد الأخير. إن كل لحظة من حياتنا توازي النزوع الذي نعمل على تحقيقه، أي الطاقة الحيوية لوجودنا. بيد أن اللحظة، هي أيضا، مشكلة كما تفطنت لذلك الفلسفة المدرسية: فاللحظة موجودة، وغير موجودة، في آن واحد، فهي، من هذه الوجهة تماثل النقطة في الهندسة: توجد النقطة، ما دمنا نتحدث عنها، وما دمنا نرسمها على الورقة وعلى السبورة، ولا وجود لها، إذ أنها لا تخضع لأي وضع من الأوضاع. اللحظة تنطبق تماما على الشخصية: نقول "هذه اللحظة" كأننا نتكلم عن موجود، ولكننا ما ننته من الكلام عنها، حتى تكون انعدمت"[42]. وفي فقرة تالية يقول: "يجدر بالفلسفة الحديثة، لتتغلب على ما تجد من صعوبات لفهم ارتباط الشخص بالشخصيات، أن نعتبر الشخص كحركة، أي مركز ثقل دينامي يتسع بقدر ما يتقدم، تحت تأثير الأمواج المتعاقبة من الشخصيات التي تتجاذب بداخله، فتضاعف كثافته". الشخص مركز اتصال الكائن بالشخصية الحاضرة، وملتقى مجموع الشخصيات الماضية. فحول هذا المركز ينشأ الأنا-الكل، ويتمخض عن نزوعاته"[43]. إن هاذين الاستشهادين يعطياننا تعريفا للشخصية ينفرد به الحبابي، وهو يقر بهذا الانفراد قائلا: "لقد اُعطيت عدة تعريفات ل "الشخصية"، كلها تغاير التعريف الذي أخذته في الشخصانية الواقعية"[44].
إلا أن المشكلة التي يطرحها هذا الانفراد لا تكمن في اقتراح تعريف يلائم الإشكالية العامة لفلسفة ما، فالمفاهيم والتعريفات في تاريخ الفلسفة غير ثابتة؛ بل في كون الحبابي خرج عن الاجماع نظرا لكون التعريفات المختلفة للشخصية تتفق على كونها تتميز بالثبات. وإن كان ثبات الشخصية هو محل توتر وتجاذب، كما يبين التعريف التالي - المستمد من مونوغرافيا حول الشخصية - والذي يحدد الشخصية بمجموعة من الخصائص:" 1) الشخصية تتميز بكونها فريدة، خاصة بفرد معين حتى ولو كان يتقاسم بعض السمات مع الآخرين. 2) وهي ليست حصيلة une somme، أي مجموعة من الوظائف، فحسب، بل هي تنسيق وإدماج، وحتى ولو لم يتحقق هذا الاندماج فهناك نزوع نحوه يعد من خصائص الشخصية كمركز منسق. 3) الشخصية زمانية لأنها لفرد يعيش تاريخيا. 4) وأخيرا، ليست إثارة stimulus ولا جواب، فهي متغير بيني variable intermédiaire، وتفرض نفسها كأسلوب من خلال السلوك وبواسطته"[45].
والحاصل هو أن الحبابي جعل من الشخصية مفهوما فارغا، إذ حذف منها قاعدتها الفطرية والوراثية والعضوية ليضعها في الكائن، والباقي ليس إلا مجرد نقطة أو لحظة تتغير باستمرا. وهذه النقطة أو اللحظة هي الأحوال الاجتماعية والنفسية التي يمر بها الفرد والمعرضة لمصادفات الحياة، والتي وإن كانت تؤثر عليه كثيرا إلا أنها لا تغير شخصيته بشكل جذري حتى يمكن الحديث عن "شخصيات". ولو كانت الشخصية مفهوما فلسفيا خالصا، لكانت لديه حرية أوسع في تأويله، لكنه مصطلح ينتمي إلى مجال علم النفس، الذي مثله مثل باقي العلوم يتوق إلى وضع مصطلحات مجمع عليها.

الشخص


لقد سبق أن أعطينا في بداية هذا البحث اللمحة التي قدمها الحبابي لتطور كلمة شخص، وللمبادئ التي علقت بها. ونلاحظ، بادئ ذي بدء، أن الحبابي ينعت "الشخصانية" (التي يضع بين معقوفين) الكانطية بأنها شكلية جافة، غافلا عن السند النظري التي تقدمه الكانطية للمقاربة الشخصانية. ويتجلى هذا في الأخلاق الكانطية التي تجعل من الإنسان إرادة مشرعة كلية، كما تجعل منه غاية الأخلاق. وهي بذلك تؤسس حريته وكرامته. بل أن الكانطية يمكن أن تلهم مقاربة واقعية للشخص، لأن الحد الفاصل بين الطبيعة وما بعد الطبيعة، وبين المؤقت والأبدي، وبين العالم الحسي والعالم العقلي، وبين البعد الظاهري والبعد المتعالي، موجود داخل الإنسان نفسه. فالميتافيزيقا لا تبدأ فوق رأس الإنسان، بل بداخله فوق قلبه.[46]
وقد نبه الحبابي بعد تلك اللمحة إلى ضرورة تحديد معاني المصطلحات التي يستعملها الشخصانيون في ابحاثهم، متسائلا: "ألا يمكن اتقاء الالتباس الذي يصادم كلمة "شخص"؟ أو لا يمكن التغلب على الصعوبات التي يثيرها هذا الالتباس، إذا اعتبرنا "إنسان" الحد الأسمى الذي يجب أن يصبو له كل امرئ، ولم نر في "الشخصيات"، قبل كل شيء، إلا ما يحقق الشخص ويجعله يتجاوز ذاته ليصل إلى اكتماله الأوفر؟"[47]
هذا التنبيه للحبابي يعني أن التعريفات السابقة التي قدمها لكلمة "شخص" لا تفي بالغرض في نظره. ويدل على ذلك عنوان الفصل الذي عرض فيه التعريفات، وهو "في سبيل اكتشاف "شخص" بدون قناع"[48]، وكأن كل التعريفات التي قدمها مجرد أقنعة للشخص. لهذا يقترح زيادة مستوى آخر يتجاوز فيه المرء ذاته "ليصل إلى اكتماله الأوفر، " ألا وهو "الإنسان". وقبل ان نناقش هذا المستوى في فقرة تالية علينا أن نعود لعرضه التاريخي لكلمة "شخص" لنجد أن في هذا العرض كل ما يلزم لمنح "الشخص" كل الخصائص الإيجابية التي تجعل منه أساس المقاربة الشخصانية. ففيه ال"أعرف نفسك بنفسك" السقراطي، الذي يؤسس لاستقلالية الانسان ككائن مفكر يستطيع خلق معرفة وقيم مستقلة عن كل قوى مفارقة (حقيقية أو مزعومة). وفيه الشخصية القانونية الرومانية. وفيه الجوهر العاقل المسيحي، والمساواة أمام الله الإسلامي. وفيه المفهوم الكانطي الذي يجعل من الشخص مصدرا وغاية للأخلاق. وفيه الوجودية الكيركجاردية التي تؤسس لاستقلال الانسان عن كل الأنظمة الفلسفية التي تجعل منه ذرة ضمن بنيات وقوى وصيرورات لا حيلة له أمامها.
واتتقد الحبابي أيضا المقاربات التي لا تتناول الشخص "ككل واقعي"، وعيبها أنها تحصر كل التشخصن في جانب واحد من جوانب الفعاليات الإنسانية. وأحيانا لا ندري اين تبتدئ الموضوعية في الأنا وأين تنتهي الذاتية. ومن بين تلك المقاربات "رفاقه الشخصانيين" (كما يقول) الذين ذهبوا إلى أن معنى "أن نكون شخصيين، هو أن يحصل لكل منا وعي بالذات". وهذا لا يكفي لتعريف الشخص لأنه يجب ان نعرف قبل شيء معنى "ذات". أهي ذات الكائن أم الشخص أم الإنسان، أو وحدة تشملهم أو غير ذلك؟ والالتباس نفسه موجود عند هيدغر حول مفهوم seiendes، أي الموجود الخام، "الذي هو إنسان وشيء وآلة"، لكنه ليس الزمن والعالم. أما الوجوديون فيحصرون تعريف الإنسان في ذاتية مجردة (فهو "اندفاق للحرية" عند سارتر). أما الماركسيون فهم سيؤو الظن بالحياة الباطنية. وهناك أيضا تيار شخصاني "تدبق في الذاتية، إلى حد أنه ضحى بكل الوساطات (الديمومة الجماعية، العلاقات المجتمعية، التقنيات...)، ومن بين هؤلاء لوسين وبيردياييف ودونيس دو ريجمون.[49]
هذا النقد لا يطرح أي مشكلة نظرية، ومن حق الحبابي تناول الشخص "ككل واقعي" ونقد المذاهب التي تشطره إلى بعد موضوعي وبعد ذاتي، أو التي لا ترى إلا أحد الأبعاد. ونرى أنه في المذاهب التي عرضها المادة الكافية لاعطاء المحتوى الشامل للشخص. المشكلة تكمن في كونه احتج بالتباس مفهوم الشخص ليلقي به عرضا، ومعه ماض وحاضر غنيين من التحاليل والتأملات. وهو بذلك جعل من الشخص مجرد منطقة عبور للتشخصن وليس منتهاه، كما أفرغ من قبل "الشخصية" من كل العناصر التي هي الركيزة الواقعية للشخص.
ولنا عودة لمفهوم الشخص في الفقرة التالية المخصصة للتشخصن، لأنه مفهوم محوري في هذه الصيرورة.

التشخصن


التشخصن هو المفهوم الأساس الذي بنى عليه الحبابي فلسفته. وبواسطته حاول إعلاء الثنائيات على أساس واقعي. ويعطي الحبابي تعريفا مركبا وتطوريا لهذا المفهوم قائلا: "إن الكائن الغير محدد « le on » يتشخصن تدريجيا ويهدف نحو حياة قائمة على توحيد كل المكونات في كيان مستقل وشخصي: إنه انبثاق للأنا وسط النحن(بين الآخرين) وهذا وذاك (العوامل الموضوعية). إن هذه المسيرة الصاعدة التي تتسلق من درجة وعي إلى أخرى تفسر كيف أن كل ذات (sujet) هي في الوقت نفسه نحن وأنا. فالوعي جهد مزدوج يهدف إلى تحقيق ذاتنا والوفاء لها. إننا نتحقق من خلال التشخصن، وهذا التشخصن لا دلالة له إلا ضمن محيط إنساني. والوفاء للذات يقتضي إمكانية هوية شخصية، أي وحدة مركبة، وهي ما يسمى ب الأنا"[50].
فالتشخصن من هذا المنظور سيرورة نفسية واجتماعية، تنطلق منذ الطفولة، تحصر التشخصن في البعدين النفسي والآجتماعي، وهو بذلك تجاهل الدور الكوني الذي يعطيها إياه إمانويل مونييه تحت تأثير تايلار دي شاردان. إذ من الممكن، بالنسبة لهما، تلمس بوادر حركة التشخصن طوال تاريخ الكون، حتى وإن لم يظهر إلا مع الانسان.[51]
وإذا كان الحبابي يتفق مع مونييه في اعتبار الشخص بأنه "نشاط معيش من الاستخلاق والاتصال والارتباط" (أي أن الشخص يخلق ذاته من خلال ما يعيشه يوميا من تجارب، وبواسطة اتصاله مع الآخرين ومشاركته لهم) la personne « est une activité vécue d’autocréation, de communication et d’adhésion »، لكنه يرفض المسحة النخبوية التي يمنحها إياه مونييه، تحت تأثير "نداء البطل" البرغسوني. إلا أنه لم ينتبه إلى كون مونييه يؤكد بأن حركة التشخصن وإن كانت من فعل شخصيات استثنائية أيقظت الإنسانية من "سباتها النباتي" sommeil végétatif، لكنه يؤكد في الوقت نفسه على أن "النداء الشخصي" ينبع من الحياة الأكثر تواضعا"[52].
وبموازاة مع رفضه لهذا المنظور الصوفي-التطوري، يرفض الحبابي التمييز بين الوجود والماهية، وهو أساس الفلسفة السارترية، لأنه ما دام أن سيرورة التشخصن تنطلق منذ الولادة فإنها تلغي اسبقية الوجود على الماهية [53]. إلا أن العلاقة بين الوجود في ذاته والوجود لذاته عند سارتر لا يجوز اختزالها في مسألة تعاقب. ففي أساس هذه العلاقة يوجد العدم الذي " يسائل الوجود بالوجود، أي الوعي (الشعور) الذي هو الوجود لذاته" le néant qui est la « mise en question de l’être par l’être, c’est-à-dire justement la conscience ou pour-soi.[54] أما فيما يتعلق بالوعي (الشعور)، فإن سارتر في تحليله لكوجيتو ديكارت ينبه إلى كون كل شعور هو شعور بنقص أو "فقدان للوجود" manque d’être، وهذا النقص هو المسافة التي تفصل الوجود المتصور عن الوجود الحاصل (الموجود فعلا)" [55].
والأمر كذلك فيما يتعلق بالماهية. فالماهية عند الحبابي ليست إلا حصيلة لتأثير المجتمع. أما عند سارتر فإن "التأسيس (أي الدلالات الأساسية أو المُؤسسة) مصدرها الوجود لذاته. فالوجود لذاته لا يؤسس ذاته فحسب، بصفته وجودا في ذاته معدوم، بل معه يتجلى الأساس لأول مرة".

« Le fondement en général vient au monde par le pour-soi. Non seulement le pour-soi, comme en-soi néantisé, se fonde lui-même mais avec lui apparaît le fondement pour la première fois »[56]


أو بعبارة بسيطة الشعور (أو الوعي) هو الذي يعطي للكون دلالته، وليس العكس. لكن هذا الشعور غير مكتمل ولهذا فإنه في بحث دائم عن الكمال. وعدم الاكتمال هذا هو العدم. وهذا التمييز بين الوجود لذاته والوجود في ذاته يمكن سارتر من فتح مجال للحرية. فبما أنه من المستطاع أن أخلق وجودي – بواسطة الالتزام – فإني أتجاوز الكائن في ذاته الاجتماعي الذي يكتفي بالقيام بالدور المحدد له، والذي يتماهى مع هويته الاجتماعية المفروضة عليه.
ولهذا عندما يقول الحبابي أن "الحركة المشخصنة تتموقع في مقتطع المسارات الكبرى للفكر الفلسفي": مثالية، مادية ووجودية، وبأن التشخصن "حركة موحدة وشاملة تتمثل في سلسلة من الأفعال، يتخذ كل واحد منها موقعه ضمن الكل، كما هو الشأن في الديمومة البرغسونية التي تحتضن كل اللحظات"[57]؛ لا يسعنا إلا أن نسأل: أي مثالية، وأي مادية، وأي وجودية؟
الواقع هو أن الحبابي لا يجد صعوبة في التركيب لأنه يفرغ المفاهيم من إشكالياتها. فهو في تعريفه للتشخصن (السالف الذكر) يحول الكائن (الوجود) l’être إلى مجرد كائن غير محدد le on، والفاعل (أو الذات، حسب السياق) le sujet إلى تركيب من ال"نحن" و ال "أنا"، في حين أن الفاعل لم يوضع كمفهوم إلا لتجاوز الأنا والنحن. مع العلم أن الضمير الفرنسي on غامض، فهو ضمير غائب مجهول قابل لأن يعوض كل الضمائر الأخرى، وإن كان في الغالب يعوض نحن nous.
ويزداد هذا الخلط عندما يتوسع في تحديد ماهية التشخصن، فهو يرى أن التشخصن "اتصال وتوحيد" jonction et unification بين الكائن والشخصية والشخص والانسان، وهي مستويات لا تتجاور فحسب بل بعضها امتداد لبعض، وتلف بعضها البعض. فالشخصية امتداد للكائن، وتركيبهما يعطي الشخص ، والانسان هو الهدف المقصود [58].
فبين هذه المستويات الأربعة لا يوجد في نظر الحبابي إلا فرق في الدرجة، متجاهلا انتماءها إلى مستويات مختلفة. فالكائن يحيل إلى الأنطولوجيا ولا يجوز رده إلى مجرد معطى خام، أي "ما يأتي إلى الدنيا وما يجده الآخرون هنا" [59]. (ويكفي الرجوع إلى تعريف الفلسفة عند الفلاسفة العرب الذي يقول أن" الفلسفة بحث في الوجود بما هو موجود" وهو أيضا تعريف الأنطولوجيا، لندرك أن الوجود ليس مجرد مادة خام)، أما الشخصية فتحيل إلى البعد النفسي، والشخص إلى البعد الأخلاقي والقانوني والمتعالي (والحرية المحايثة لهذه المفاهيم لأنها شرط وجودها)، والإنسان إلى تصنيف الأجناس الحيوانية (الإنسان حيوان عاقل). وهذا الخلط بين الأبعاد هو الذي يفسر تناقض الحبابي في تعريف الشخص.
بينما الشخص عند مونييه: "تجربة ثرية تضرب بجذورها في العالم (حرفيا: تغوص في العالم) وتعبر عن ذاتها بالإبداع المتواصل لأوضاع وقواعد ومؤسسات. إلا أن إمكانيات (أو طاقة ressource) الشخص ليست محددة، فلا شيء مما يعبر عنها يستغرقها، ولا شيء مما يحددها يُخضعها (أي أن العوامل التي تحددها لا تسلبها استقلاليتها)" [60]، فالبعد المتعالي للشخص من جوهر الشخص في هذا المنظور.
لكن الحبابي يرفض أن يكون الشخص غير محدد، ويجيب بأن الشخص يتحدد بقدر ما يتحقق، وبأنه "ليس تجسدا ولا اتصالا، كما أنه ليس حرية ولا تعالي: إنه أساسا الواسطة التي تمكن الأنا من التحرر والتعالي والاتصال مع الآخرين وتجسيد القيم[61]. فالشخص في هذا المنظور واسطة التعالي، وهو في منزلة بين الشخصية والانسان. والشخص لا يمكنه "أن يرقى إلى المنزلة السامية" التي تُمنح له لأنه مشوب بعوامل فردية بشكل واع أو غير واع [62]. فالشخص في هذا المنظور يقوم بدور ما تحت الشعور préconscient في النظرية الفرويدية، وهو دور يفرضه منطق النسق أكثر مما هو وصف دقيق للواقع.
إن منطق هذه المقاربة يجعل من الشخص مفهوما هجينا لأنه يسطو على أدوار المستويات التي أراد له الحبابي أن يربط بينها، الأمر الذي لا يزيده إلا غموضا. خاصة وأنه يصف العلاقة بين الشخص والشخصية قائلا: "أن الشخص هو مركز جاذبية يتقدم متوسعا بفعل تأثير الأمواج المتعاقبة من الشخصيات التي تنصهر فيه وتضخمه" [63]. وهو بذلك يُفقر مفهوم الشخصية، خاصة وأنه باستعماله للجمع يجعل منها لباسا متعددا قابلا للتغيير. في حين أن الشخصية، حسب التعريف المتعارف عليه في علم النفس، مرتبطة باستعدادات فطرية تتفاعل مع المحيط الذي يلعب دورا في إبرازها أو طمسها. وهكذا يحدد الطبع الملامح الثابتة للشخصية التي تعرف أساسا بعامل الاستمرارية والاستقرار constance [64]. فالشخص يمكنه التحكم النسبي في شخصيته لكنه لا يمكن أن تكون لديه عدة شخصيات، ولأنه في هذه الحال يسقط في مجال المرض النفسي!
لكن الحبابي الذي يدعي إمكانية تحديد الشخص يتوقف في الطريق ليستخلص أن الشخص غير قابل للتحديد، قائلا: " لا يمكن القول بأن الشخص شخصية مطهرة أو بدون قناع، لأن الشخص بصفته صيرورة يفيض عن كل تعريف بفضل غنى امكانياته؛ فهو يميل إلى تحقيق الانسان كما يميل كل نسق إلى الوضع الذي يحقق توازنه؛ إنه الممكن الذي يميل إلى اللامتناهي. وتحديد الشخص بعلاقته بالشخصية يعني الحد من ديناميته وإمكانياته وتجميده في مقدماته" [65].
فالشخص إذن يمهد الطريق للإنسان. لكن كيف يتسنى لكيان يشوبه انعدام الأصالة وهو مطية لخداع النفس [66] أن يخلق ما هو أصيل؟
وفي حين أن مونييه يعتبر الشخص والنمط الشخصي للوجود "أسمى أشكال الوجود" وأنهما "اكتمال للكون"[67]، فإن الميزة الوحيدة التي يمنحها له الحبابي تكمن في ديناميته وامكانياته؛ أما الاعتبار الأسمى فيخص به الانسان.
هل الشخص قابل للتحديد أم لا؟ سؤال أجاب عليه الحبابي بشكل متناقض. وهذا التناقض مصدره التنافر الحاصل بين مقاربته الوضعية للشخص (بما أن الشخص "يتحدد بقدر ما يتحقق" ، مع غلبة للعوامل الخارجية هذا التحديد) والرؤية الشخصانية – كما عبر عنها مونييه – التي تجعل من الشخص مصدر التعالي في الكون.
أن هذا العجز في تحديد دور الشخص هو الذي اضطر الحبابي إلى زيادة مستوى أسمى متمثلا في الانسان.
إننا نلاحظ من خلال هذا العرض أن الغرض الذي توخاه الحبابي من وراء إلحاحه على توضيح المفاهيم قد حاد عن هدفه وجعل من الفلسفة التي أراد تشييدها بنيانا متصدعا لأن كل لبناته هشة. ومفهوم التشخصن لا يسلم من هذه الهشاشة العامة، والدليل على ذلك هذا المثل الذي يعطيه: "إن الفيلسوف الفارابي والشاعر المتنبي تعاصرا، وتواجدا في حلب، وخالطا نفس الأوساط، ولكن رغم ذلك كله، تشخصن كل منهما تشخصنا جعله مخالفا للآخر، كل الاختلاف. ذلك أن الأشخاص، وإن كانت المؤثرات عليهم هي هي، فانفعالاتهم الفردية بها ومعها تجعلهم مغايرين. وإلى جانب الفارابي والمتنبي، عاش أفراد كثيرون في حلب، وفي نفس الزمن، وخالطوا نفس الأوساط، ومع ذلك لم يبلغوا من التشخصن مستوى يجعل التاريخ يحتفظ لنا بذكراهم. حقا، إن البيئة تمهد الطرق وتهيئ الأسباب لتفتح الشخصية، ولكن هذه العملية، وإن كانت شرطا أساسيا، فإنها ليست بالشرط الكافي، فلا بد من الاعتماد على تأثيرات البيئة، مع اعتبار الشروط الخاصة بكل فرد. فعندما تتوفر الشروط الكافية لتأثير البيئة وتكوين مجموعة من قيم عامة للوجود (مثلا حلب أيام سيف الدولة، بالنسبة للفرابي والمتنبي) يتفتح حقل الامكانيات أمام الجميع، ثم إنه إذا انعدمت المعارضات، بين تأثيرات البيئة وإمكانيات الفرد، استطاع الشخص أن يحقق ذاته، وهذا هو التشخصن"[68].
إن هذا المثال يجعلنا نتساءل هل الحبابي أراد فعلا تأسيس فلسفة تقاسم باقي الفلسفات الشخصانية حدا أدنى من المبادئ والمفاهيم المشتركة. فهل يحوز، من وجهة نظر شخصانية، اعتبار المتنبي نموذجا لما يجب ان يحمل الإنسان الشخصاني من قيم، وهو القائل: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم؟[69] مع أننا لا ننتقص من عبقريته الشعرية. وهل يجوز لفلسفة تدعي الشخصانية أن تحصرها في بعض المشاهير وفي عصر معين، في حين ان مفهوم الشخص كان دائما يهدف إلى الرفع من شأن الكائن البشري والذود عن كرامته مهما كان وزنه الاجتماعي وعصره. وهل يجوز لشخصانية إسلامية (بما أن الحبابي أراد تأسيس شخصانية إسلامية) أن تميز بين البشر على أساس مناف للمساواة امام الله؟

الإنسان


الإنسان عند الحبابي هو "وحدة الكائن والشخص" [70]، ( "تأليف من الكائن والشخص" [71]) وهو مفهوم يجيب على مطلبين: توضيح المفاهيم وتحديد موقع التعالي. ولهذا يقترح "تخصيص الشخص personna ومشتقاتها للأنا المقنع، وتخصيص اسم إنسان لكل ما هو فوق القناع وللهدف المقصود. فمصطلح "إنسان" يعبر عن مفهوم ثري يتميز بخلوه من آثار الغش والخداع. والانسان هو إذن الهدف وليس المعطى، إنه التألق الشامل للأنا والانجاز التام لكل الإمكانيات التي يحملها. أن يصير المرء إنسانا هو أن يحقق كل ما يريد وكل ما يستطيع" [72].
لكن القارئ لا يجد في كتاب الحبابي تعليلا لهذا التمييز بين الشخص والإنسان. فالشخص هو أداة التعالي وهو الحاضنة التي تحمل المشروع، والتي تبث فيه الإرادة والقوة، والإنسان بصفته مشروعا مرتبط بالشخص، فكيف يمكن أن يكون أسمى منه ومن طبيعة مختلفة؟
ومن جهة ثانية، وبما أن الأمر يتعلق بتوضيح المفاهيم، إن مصطلح "إنسان" يحيل في الفلسفة الحديثة إلى الإنسية وإلى المركزية الإنسانية anthropocentrique التي نشأت كنقيض للمركزية الألوهية théocentrisme، ولهذا يحمل مفهوم الإنسان/الشخص كل ثقل وكثافة الواقع البشري. وهذا الواقع وهذه الكثافة ليسا إفرازا للغش والخداع بل هو نسغ الحياة الذي جعلت منه الوجودية (وهي من روافد الشخصانية) مركز تفكيرها.
لقد أراد الحبابي أن يجعل من الانسان مفهوما خالصا، إذ يقول: " إن مصطلح "إنسان" أقل عرضة للفردانية من الأنا الشخصي؛ وبصفته غاية للقصدية وحدا نهائيا لحركة التعالي، فإنه غير معرض للنقد الذي يطال مصطلح "شخص". وهو يتميز بكونه لا يرزح تحت الحمولات التي اعترضت الشخص persona خلال مساره الطويل" [73]. وبهذا يفصل الحبابي بين المتعالي والنفساني الملتحمان في الشخصانية. ومنطق هذا التحليل يحيل، من حيث لا يشعر الحبابي، إلى المثالية والثنائية؛ نظرا لكون الانسان بصفته كائنا غير متجسد يوجه الحركة المشخصنة: "فهو الذي يفهم الضرورة ويعانيها ويتغلب عليها ليتحرر. وهذه المهمة المضنية تتضمن برنامجا من الفتوحات المتدرجة والمتمثلة في: التحكم في الذات الذي بفضله يتغلب الوجه المشخصن على الوجه الحيواني؛ معرفة الطبيعة التي بفضلها يتعالى الأنا على الأشياء والضرورة؛ وأخيرا المنطق والأخلاق والإبداع الفني، وهم الواسطة للاتصال والتوائم مع الغير"[74] .
ولو ترجمنا "الشخص" و"الانسان" حسب تصور الحبابي إلى لغة كانطية لأمكن القول أن "الشخص" هو الأنا الموضوعي، و"الانسان" هو الأنا المتعالي. فكانط يميز بين الذات (sujet) المتعالية العقلانية، والذات الفردية في جانبها الحسي التجريبي. فالذات المتعالية دات عقلانية خالصة تنتمي إلى العالم العقلي الذي ينتمي بدوره لعالم الغايات، والذي يفرض شرعيته العقلانية للطبيعة بواسطة المقولات ومبادؤ العقل، كما يفرضها على أفعال الإنسان بواسطة الآمر القطعي . والثنائية الإنسانية تعبر عن نفسها من خلال هذا المعنى الزدوج لكلمة ذات [75]. لولا أن الغموض يكتنف تعريف الحبابي لما يسميه ب "قناع" masque"الشخص"، فهل يعني تعدد المعاني التي قدمت لهذا المصطلح طوال تاريخ الفلسفة (والذي يعطي نبذة تاريخية عنه [76]) الأمر الذي لا يمكن من إعطاء تعريف دقيق له (أي أن المشكلة اصطلاحية أساسا)، أو أن الأمر يتعلق بالوجه الواقعي empirique للشخص المرتبط بتاريخه الشخصي؟ الأمر الذي يمثل تناقضا من قبل مفكر يعتبر نفسه واقعيا، لأن الشخص لا يمكن أن يكون قناعا حتى ولو أننا لا نعرف عنه إلا الظاهر منه، إلا أن هذا الظاهر لا يختزل كل حقيقته.
لقد أراد الحبابي توضيح المفاهيم عبر إكثار للمستويات الشكلية (كائن، شخصيات (لكونه يعتبر أن للشخص الواحد شخصيات)، شخص، إنسان) مرتبا إياها حسب تراتبية تنطلق من "المعطى الخام" لتصل إلى الإنسان المثالي. والوضوح الذي رامه تم على حساب الواقع النفسي والوجودي لأنه رد الإنسان بكل أبعاده إلى إطار شكلي، رغم أنه رام مقاربة الشخص ككل واقعي. إنها عقلانية وضعية متأثرة بأوغست كونت الذي أراد إعطاء تعريف جديد للمقولة السقراطية: "اعرف نفسك بنفسك". وهذا التعريف الجديد يفك الارتباط بين الوعي بالذات ومعرفة الذات conscience- de- soi-connaissance-de-soi، ويحث على "البحث عن الروح esprit في تاريخ العلوم فقط لأنه من المستحيل إدراكها مباشرة. ولكي تكون الفلسفة وضعية عليها رفض كل مقاربة نفسية: أي إلغاء الوعي بالذات بإنقاذ المعرفة بالذات. فالوعي conscience غير مؤهل للمعرفة ".[77]
وبرفضه للمقاربة النفسية والوجودية فإن الحبابي يستنسخ الوضعية في صورتها الدوغماتية. والتي تجوزت حتى من قبل أكثر المذاهب عداء للفلسفة التأملية، لأن الظواهر الإنسانية لا يمكن الإحاطة بها بمجرد وصف لمعطياتها القابلة للتكميم أو البحث التريخي، بل تحتاج أيضا إلى مقاربة فهمية كيفية.
ومن ناحية أخرى فإن "إنسان" الحبابي هو ضرب من الانسان الأعلى surhomme لأنه " ما وراء (الكائن والشخص) وانطلاقا من التحامهما الحميم، فأنا الانسان أي القيمة التي يحققها أولئك الذين تخلصوا من "الأقنعة". أما أولئك الذين ينغمسون في خداع الذات فإنهم يجهلون إلى الأبد هذه القيمة. وأبدا لن يكون لديهم الاندفاع المخلص لتجاوز الشخصية التي يلعبون ليبلغوا إلى مستوى الإنسان الذي عليهم تحقيقه. وبين هذين المستويين هناك منازل وسطى توصل تدريجيا إلى الانسان".[78] هذا التصور للإنسان يذكر بنداء البطل البرغسوني، لولا أن الحبابي يرفض أن يسقط التشخصن في النخبوية، كما عبر على ذلك في تعليقه على الحركة المشخصنة عندمونييه[79].
لكن هناك فرق بين نداء البطل البرغسوني، الذي وإن كان يبين الطريق للغير فإنه لا يسلبهم شيئا من كرامتهم، و"إنسان" الحبابي الذي يحتكر الكرامة له وحده. وهذا "الانسان" نموذج نادر إذ أن الحبابي يقول:" ندعو "إنسان" أولئك الذين خلد التاريخ مثالهم وذكراهم. وهم أولئك الذين ينشؤون في وسط وثقافة ما، لكنهم السباقين بفضل موهبتهم الخاصة إلى إدراك إفلاس النسق الثقافي، ويسبرون الوجود الخفي لتيارات تبعث الحياة من جديد. وهم بزهدهم في مصالحهم الشخصية وبمثالهم وتضحياتهم يخلقون فكرا جديدا وفنا وقانونا وأخلاقا سيصيرون حقيقة العصر" [80].
والآن بعد أن وصلنا مع الحبابي إلى نهاية صيرورة التشخصن، لا نجد مناصا من طرح بعض الأسئلة. الأسئلة الأولى تطرح مسالة الغاية من التشخصن: فهل صيرورة التشخصن محكومة بغائية ترمي إلى خلق بعض الكائنات الاستثنائية؟ وهذا السؤال يحيل إلى سؤال آخر: كيف يمكن قيام مجتمع شخصاني (الذي هو هدف الشخصانية) إذا كان التشخصن محصورا في بعض "الواصلين"؟
أما الأسئلة الثانية فتتعلق بالبعد الذاتي ل "الإنسان" وتطرح إشكالية العلاقة بين "الإنسان" وشخصه وشخصيته.
- فهل "الإنسان" لا يبقى شخصا؟ ورغم عبثية هذا السؤال إلا أننا مضطرون لطرحه. إذ كيف يمكن لكائن مثالي أن يتعايش مع شخص، أو في شخص، يشوبه الزيف والخداع؟
- ما هو السند (أو القاعدة) النفسية ل"الإنسان"؟ أو بعبارة أخرى، ما هو دور شخصية "الإنسان"؟ أم أن الشخصية حُيدت عندما يبلغ الكائن مرتبة "الإنسان"، فيعيش دون شخصية؟
مع العلم أن هذا الإنسان الذي تخلص من كل شوائب النفس والجسد يحيل إلى المقاربة الصوفية في صورها الأشد تنكرا للجسد وشهواته، أكثر مما يحيل إلى المقاربة الفلسفية خاصة إذا ادعت الواقعية. وهذه مفارقة أخرى في فلسفة الحبابي التي ترفض التصوف.
وعلى المستوى الفلسفي العام فإن مفهوم "الإنسان"، كما تصوره الحبابي، يطرح من المشكلات النظرية أكثر مما يحل. وهو يدخل الثنائية والمثالية في فلسفته وهو ما يعارض مسلماته ولا يتفق مع تصوره للمتعالي وللحرية وللأخلاق، كما سنرى ذلك في الفقرات التالية. وبذلك سقط فيما أراد تجاوزه عندما أكد: "إن مفهوم التشخصنيقي الباحث، في "الكائن البشري" من السقوط في مشكل الثنائية: "وجود-ماهية". فبمجرد ما يبرز الكائن في هذا العالم، يشرع فورا في االتشخصن، إلى حد أنه لا يجوز لنا أن نقول عنه بأن له وجودا منعزلا عن ماهية. فليس له وجود محض "قبل" أن يصير "بعد"، هذا أو ذاك. فال "قبل" وال"بعد" لا يوجدان بصفة مطلقة في زمن مطلق، بل وجودهما مقيد بوجود كائن بشري، قد جعل نفسه كذا أو كذا، وإلا لما أمكننا أن نتكلم عنهما. إن مجموع مراحل عملية التشخصن، يقع وينتظم في الزمن، بينما ظهور الزمن ليس إلا نتيجة للحركة المشخصنة. نعم، هناك الكائن، لكنه لا "يكون شيئا" خارج الحركة: إنه آونة الشروع في التشخصن"[81].
والحاصل هو أن "إنسان" الحبابي، المتجرد من شخصيته وشخصه؛ مفهوم فارغ كمحتوى، وضيق كامتداد (مجموع الأفراد الذين ينطبق عليهم).

التعالي


التعالي صيرورة تصاحب التشخصن، وهو أحد الطريقين، مع الألفة (أو الحميمية intimité)، اللذين يمكنان الشخصية من الخروج من دوامة الزمن والأفق. إلا أن الحبابي يذهب إلى أن التعالي والألفة ليسا مقولتان غائصتان en profondeur، بل هما بعدان ممتدان dimensions en extensives. فهما لا يحملان عن الإنسان ثقل الزمن والأفق، بل يسندانهما ويكملانهما. وهذا التصور يخرجنا من الحيرة (أو المأزق)، التي تضعنا فيها التصورات الكلاسيكية، بصدد العلاقة بين الكائن البشري ومحيطه: فإما يعامل هذا الكائن كمحصلة للمؤثرات الفيزيائية والفيزيولوجية والاجتماعية التي تنسفه من الخارج جاعلة منه شيئا ضمن الأشياء الأخرى؛ أو أن نتعرف فيه على حرية غير كونية acosmique ووعيا مؤسسا للكون. إن التعالي والألفة توتران يجعلان الأنا يتصل مع الغير ويلمس الكون والأشياء دون أن يذوب فيهما، "يشيئ" كل شيء، ويمارس عليه ما يصبو إليه دون أن يستقر في أي واحد من هذه الأشياء. إنه يتأمل ذاته من خلال هذا العالم المُشيء ويحوله، ويشعر بأنه يعيش بين الأشياء لكنه يتجاوزها بواسطة التأمل، وبصنعه لوجوده مع الآخرين. فالعالم يعيش، والكائن البشري يوجد بتحمله لأوضاع جديدة تقدمها حياة أفقه[82].
والزمن، عند الحبابي، مكثف في "مزيج" «mixte» سماه ال "في سبيل كذا" (أو بصدد كذا) « l’en train de » يضم الأبعاد الثلاثة للزمن: الماضي والحاضر والمستقبل. وهنا تكمن شخصيتنا "بين أفقين متحركين ومنغمسة في "في سبيل كذا" يرزح تحت ثقل تجارب الماضي وجذب نداء المستقبل"[83]. والأفق هو "الحقل الذي يتشخصن فيه الأنا مع الآخرين وبواسطتهم"[84]. ويمكن ترجمة أفق بثقافة لكونها تنهض بكل الوظائف التي ضمنها فيه الحبابي.
نستنتج من هذا المقتطف أن التعالي والألفة بعدان أفقيان، ف"واقعية" الحبابي تتميز بالحذر من الاستبطان السيكولوجي والميتافيزيقا التأملية. وهو يريد تأسيس "تعالي-محايث" « transcendance-immanence »[85]. والتعالي عند الحبابي كحركة متصاعدة يتحقق من خلال التشخصن. وفي علاقته بالكون يتميز بالتواؤم (التكيف) والتجاوز معا[86]. وهذه الحركة من فعل الأنا ذاته، وهي بذلك تتميز بالتعالي والمحايثة. لهذا فإن "التعالي يعني تحقيق المرء لذاته، أي أنه بذلك يتجاوز كينونته الخام ليصير كائنا متشخصنا يهدف إلى تحقيق الإنسان الذي يحمله في ذاته كمشروع سام عليه تحقيقه"[87].
لكن الحبابي لا يذكر السبب أو الضرورة التي تدفع الأنا إلى تحديد تلك الغاية له. ولهذا يبدو الإنسان وكأنه غاية فطرية للأنا. وفي هذه الحالة فإن الإنسان يصير في متناول الجميع وليس حكرا على نخبة قليلة. أما المبدأ المحرك لهذا التعالي فغير محدد.
وبما أن الحبابي يجعل من الأنا مصدرا للتعالي، كان من المنطقي أن يصنفه ضمن "الأبعاد العميقة" وليس ضمن "الأبعاد الممتدة"[88]. وإن كنا في الواقع لا نجد عند الحبابي أبعادا عميقة، رغم التسمية التي أطلقها على بعض الفصول من كتابه. فحتى المفاهيم التي حللها على أنها أبعادا عميقة، مثل الألفة (الحميمية) l’intimitéوالحب والفن والرحمة، تطرق لها كأنشطة اجتماعية أساسا[89].
ويخصص الحبابي جل هذ الفصل للرد على نظريات التعالي، الدينية منها والفلسفية. ومنهم شيلر الذي يعتبر الشخص ك"مجموعة من الأفعال مستقلة عن الزمن والمكان". ويرد الحبابي أن هذا الكائن يشبه الكائنات الرياضية[90]. أما موريس بلونديل، فهو أيضا يعرف الشخص بالفعل، إلا أن مجال الفعل منحصر في الممارسة الدينية[91] . أما غابرييل مارسيل، فهو يرى أن الله وحده يعالي، ويشكك في إمكانية عَلمنة فكرة التعالي[92]. أما كيركغارد، فإنه يرد الوجود الإنساني إلى اختيار: مع الله أو ضده[93]. ويصف الحبابي موقف هيدغر بالتوحدية solipsisme، لأن الواقع البشري هو، بصفته فهما compréhension وتعاليا هي التي تؤسس الكون[94].ويسائل الحبابي هوسرل قائلا: إذا كان كل فكر مصوب نحو موضوع يصاحبه حضور وبداهة هذا الموضوع في الفكر، فكيف يمكن للفكر التعالي على الحاضر؟ وكيف يمكن للأنا تجاوز وعي الذات نحو الغير والكون؟[95]. أما جاسبرس فإنه يرى أن الوجود متجذر في التعالي، لكن من يريد أن يحقق الكائن الشامل لا يمكنه ذلك إلا في الواقع التجريبي وليس في التعالي[96]. وأخيرا يتطرق الحبابي للشخصانيين الفرنسيين، ليحكم على موقف مونيي بأنه مفارق paradoxal، لكون التعالي لا يصعد بل يهبط. وهذا التعالي هو من قبيل اللامحدد واللامعبر عنه (ما لا يمكن التعبير عنه بواسطة اللغة)[97]. أما لاكروا فإنه يرى أن الشخصانية الحقة ""شخصانية تفهم أن القيمة المطلقة للشخص تأتيه من قدرته على التجاوز بفضل مساعدة داخلية"". "وأن هذه المساعدة هبة إلهية"[98].
بعد هذا العرض، لا يسعنا إلا أن نبين التفاوت الكبير بين جهد القراءة الذي بذله الحبابي في من الكائن إلى الشخص، وضحالة النتائج التي استخلصها، لكونه ناقش بعض الأفكار مبتورة عن إشكاليتها. وبما أن هدفه كان تأسيس متعالي غير خارق للعادة transcendance sans sur-naturel، كان بإمكانه التركيز على مفهوم الاستلاب. فهو موجود في فلسفة مادية لا يمكن أن ننعتها بأنها خارقة للعادة، ألا وهي الماركسية، أو ملحدة كالوجودية السارترية. فهذا المفهوم لا يهدف إلى خلق إنسان خارق للعادة، بل "يكتفي" بالعمل (نظريا وسياسيا) على تحرير الإنسان من الاستلابات التي يرزح تحتها (أكانت اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو عقدية).

الأخلاق


الأخلاق عند الحبابي نفعية ووضعية. فهو يركز على كون اللاهوت والميتافيزيقا لم يقدما إطلاقا قيما كونية، وهما بذلك غير مؤهلين ليكونا قاعدة للأخلاق. فالأخلاق يجب أن تؤسس على "الروح (أو العقل) esprit الوضعية التي تبحث عن الواقع وتوجهه نحو النافع. وفي هذا المجال نجد، رغم كل الخلافات، مركزا يجمع عليه الجميع، وقيمة مشتركة، ألا وهي المنفعة". أما اللاهوت والميتافيزيقا فلا يمنحان أي أمل في تفاهم كل البشر، فالعقل والعلم هما وحدهما القادران على تأسيس قيم كونية"[99].
وزيادة على الوضعية والنفعية يضيف الحبابي معيارا ثالثا لتزكية كل قيمة، ألا وهو الهيمنة. لكون القيم الأكثر حيوية هي التي تسيطر. وهو بذلك يدعو إلى تأسيس نظرية قيمة axiologie تجمع بين الواقع والعقل، لأن "التأثير في الواقع يقتضي الوصف الدقيق للتجربة الحقيقية للقيم السائدة في كل لحظة من التاريخ"[100].
كما يضيف الحبابي مقاربة اجتماعية قائلا بأنه يجب البحث عن "الفعالية في القيم التي تفرزها الحياة اليومية، في قلب التجارب المعيشة للأنا، في نسبيته ومحدوديته ومصيره"[101].
وأخيرا ينتهي الأمر بالحبابي إلى المادية التاريخية لكونه يرى أن التقدم المتوازي لعلوم الإنسان وللتقنية "على أساس شخصانية واقعية" سيمكن من تجاوز الخلافات بين مختلف الثقافات. ومن جهتها ستتمكن العلوم الاقتصادية من "عقلنة العلاقات بين الأشخاص والأشياء...وبين الجهد والحاجة والإنتاج والاستهلاك. ويقرر الحبابي أن "الوحدة في هذا الميدان محتملة كما هو الشأن بين الفزياء والجيولوجيا، وهي علوم بلغت حدا كافيا من الوضعية"[102].
إن هذه المقاربة للأخلاق التي تقتبس من عدة مشارب فلسفية تطرح كثيرا من المشكلات:
- فهي تأسس الأخلاق على العقل الوضعي، كما أنها تستمد الاشكالية الوضعانية في صورتها الأكثر فجاجة والتي ترد الخلافات الفكرية والثقافية إلى نقص في العقلانية. كما أنها تلبس تفاؤلها الساذج الذي يعتقد أن الاحتكام للعقل سيمحي التناقضات البشرية.
- وهي تخلط بين الوضعية والواقعية. فالواقعية نسبية وأوسع نظرة من الوضعية التي تطمح إلى الوصول إلى قوانين عامة غالبا ما يفلت منها الذاتي والشاذ. ولهذا من التناقض ادعاء تأسيس الأخلاق على العقل الوضعي والبحث عنها في "صلب التجارب المعيشة للأنا، في نسبيته ومحدوديته ومصيره"[103].
- وهي تعطي الأسبقية للأخلاق السائدة وتجعل من التاريخ محكا لصلاحية الأخلاق كما هو الشأن في فلسفة التاريخ الهيجلية، في حين أنه ينتقدها بشكل غير مباشر في كتابه "من المنفتح إلى المنغلق" والذي يرجع فيه الاختلاف بين الشعوب إلى عوامل طبيعية.
- وهي تدعو إلى النفعية دون البت في مقابلها الفلسفي المتمثل في الذرائعية. مع العلم أن الذرائعية لا تتماشى مع الوضعية.
- وأخيرا فهي لا تأخذ من الماركسية إلا وهمها العلماوي المتعلق بقدرة علوم الاقتصاد على عقلنة العلاقات البشرية. وإن تراجع بعض الشيء عن هذه النظرة بتركيزه على المشكلات الناتجة عن المجتمع الصناعي[104].
فكيف نفهم الأخلاق عند الحبابي رغم الاعتراضات السابقة؟وإننا لا نملك إلا البحث عن الجواب في الظروف التاريخية التي عاش فيها والتي خلقت لديه وعيا حادا بثقل التاريخ والمجتمع والاقتصاد. وواقعية هذه الأخلاق تلعب دورا مزدوجا: فهي من جهة نداء لقراءة واقعية ونقد-ذاتية للأحداث، ومن جهة أخرى تحذير من المبالغة في الإرادية. فهذه الأخلاق مبنية على جدلية الممكن. إنها أبعد ما تكون عن الفرد السارتري الذي يعطي لنفسه مسؤولية لا متناهية. كما أننا لانجد في رواياته مثيلا للشخصيات السارترية التي تجد نفسها في حالات قصوى من الحيرة الوجودية والأخلاقية. والتنميط الأخلاقي لشخصيات روايات الحبابي يفصح عن مانوية وامتثالية conformismeأخلاقية. فمن ناحية نجد البطل الإيجابي ومن جهة أخرى نماذج مضادة سلبية (زوجان مثاليين ضحية التباس؛ طالب مغربي في فرنسا في مواجهة مؤامرة؛ تحول سجين بريء؛ سقوط عميل سابق...)[105].
ــــــــــــــــــــــــــ
راجع الجزء الثاني من هذه الدراسة هنا:
محمد اليعقابي - 2 - الشخصانية الواقعية لمحمد عزيز الحبابي (1922-1993)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إحالات



[1] M. A. Lahbabi, De l’être à la personne, SNED, Alger 1974, pp. 344-345
هذا الكتاب عنده مقابل في العربية يحمل العنوان ذاته (من الكائن إلى الشخص) لكنه مجرد ملخص للنسخة الفرنسية موجه للقارئ العربي
[2] Emmanuel Mounier, Le personnalisme, PUF 13è éd. 1978, p. 3
[3] من الكائن إلى الشخص، دار المعارف، القاهرة 1963، ص 93-98
[4]) Charles Renouvier, Le personnalisme, p. IV.( المرجع نفسه، ص 111
[5] J. Lacroix, Le personnalisme comme anti-idéologie, PUF, Paris 1972, p.7
[6] من الكائن إلى الشخص، ص 122
[7] E. Mounier, Manifeste au service du personnalisme, Fernand Aubier, Paris 1936, p.7
[8] M. Winock, Histoire politique de la revue « Esprit » 1930/1950, Seuil 1975, p.9
[9] Ibid, p. 46
[10]Ibid, p.43
[11] J. Lacroix, Marxisme, existentialisme, personnalisme, PUF, Paris 1971, p. 110
[12] Winock, Histoire politique… op. cit. p. 30
[13] Ibid, p. 38
[14] Ibid, p. 70
[15] Ibid, p. 71
[16] Ibid, p. 73
[17] Ibid, p. 31
[18] Lacroix, Marxisme… op. cit. p. 76
[19] Ibid. p. 77
[20] E. Mounier, Le personnalisme, PUF 13è éd. 1978, p. 4
[21] Mounier, Manifeste… op. cit . p. 63
[22] Ibid, p. 65
[23] Jean Conilh, Emmanuel Mounier, sa vie, son œuvre, PUF, Paris 1966, pp. 30-31
[24] Le personnalisme, op. cit. p. 42
[25] E. Mounier, Traité du caractère, Seuil, Paris 1947, p. 60
[26] Ibid, p.746
[27] Miguel. Cruz. Hernandez, Historia del pensamiento en el mundo islamico (T 2), Alienza Editorial, S.A. Madrid 1981, p.243
[28] محمد عزيز الحبابي، الشخصانية الواقعية، دار المعارف، القاهرة 1963، ص 101
[29] M. A. Lahbabi, Liberté ou libération ? SNED, Alger 1974, p 243
[30] De l’être à la personne, p 52
[31] Ibid p. 86
[32] Ibid p. 87
[33] Ibid p. 347
[34] Liberté ou libération, p. 33
[35] De l’être à la personne, p.293
[36] Liberté ou libération, p.183
[37] المرجع نفسه، ص 11
[38] المرجع نفسه، ص 17
[39] المرجع نفسه، ص 12
[40] المرجع نفسه، ص 15
[41] Jean-Claude Filloux, La personnalité, PUF 9è éd. 1976, pp. 17-24
[42] من الكائن إلى الشخص، ص 87
[43] المرجع نفسه، ص 88
[44] المرجع نفسه، ص 88
[45] La personnalité, p. 10
[46] Joseph Vialatoux, La morale de Kant, PUF, Paris 1968, pp. 27-28
[47] المرجع نفسه، ص 98
[48] من الكائن إلى الشخص، ص 93
[49] المرجع نفسه، ص 101-105
[50] De l’être à la personne, p 33
[51] Le personnalisme, p 20
[52] Ibid à. 7
[53] De l’être à la personne, p. 50
[54] J. P. Sartre, L’être et le néant, Gallimard, Paris 1968, p. 117
[55] Ibid, p.118
[56] Ibid, p. 120
[57] De l’être à la personne, p. 117
[58] Ibid, p 114.
[59] Ibid, p. 10
[60] Le personnalisme, P. 6
[61] De l’être à la personne, p. 102
[62] Ibid, p. 103
[63] Ibid, p. 70-71
[64] Dictionnaire de psychologie Bordas, sous la direction de Norbert Sillamy, p. 887
[65] De l’être à la personne, P. 58
[66] Ibid, p. 17-18
[67] Le personnalisme, p. 6
[68] من الكائن إلى الشخص، ص 134
[69] يذكر الحبابي هذا البيت كمثال سلبي ل "فلسفة أنصار الغائية" التي يحررنا التشخصن منها، دون ذكر القائل، ودون الانتباه إلى كونه يذكر المتنبي من بين الشخصيات المتشخصنة وبيته الشعري كنقيض للتشخصن. من الكائن إلى الشخص، ص 79
[70] De l’être à la personne, p.52
[71] من الكائن إلى الشخص، ص 64
[72] De l’être à la personne, p. 18-19
[73] Ibid, p. 80-81
[74] Ibid, p. 106
[75] La morale de Kant, p. 27
[76] Ibid, p. 75-82
[77] Ibid, p. 35
[78] Ibid, p. 56
[79] Ibid, p. 100-101
[80] Ibid, p. 53
[81] من الكائن إلى الشخص، ص 61
[82] De l’être à la personne, p. 163 هذه ترجمة مع بعض التصرف للفقرة الأولى من فصل "التعالي"
[83] Ibid, p. 162
[84] Ibid, p. 155
[85] Ibid, p. 175
[86] Ibid, p. 165
[87] Ibibd. P. 175
[88] Ibid, p. 163
[89] Ibid. p. 205
[90] Ibid, pp. 163-164
[91] Ibid, p. 164
[92] Ibid, p. 167
[93] Ibid. p. 167
[94] Ibid, p. 168
[95] Ibid, p. 169
[96] Ibid, p. 170
[97] Ibid, p. 170
[98]
[99] Ibid, p. 242
[100] Ibid, p. 259
[101] Ibid, p. 262-263
[102] Ibid, p.241
[103] Ibid, p. 262-263
[104] M. A. Lahbabi, Du clos à l’ouvert, SNED, Alger 1971, p. 96-97
[105] محمد عزيز الحبابي، العض على الحديد، الدار التونسية للنشر، تونس 1969

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى