إبراهيم قيس جركس - شرح كتاب فريدريك نيتشه [هكذا تكلّم زرادشت]17 عَن القراءة والكتابة

[17]
عَن القراءة والكتابة

يتحدّت مترجم الكتاب الأستاذ على مصباح في هامش تعليقه عن العلاقة بين ما يُكتَب وما يُعاش ((ليس سَهلاً بالمَرّة فهمُ دَمٍ غريبٍ))، وحول استحالة الفَهم دون تَمَثّل للمكتوب من خلال التجربة الحياتية المماثلة يمكننا مراجعة كتاب "هذا هو الإنسان" في مواقع عديدة، منها على وجه الخصوص فصل: ما الذي يجعلني أكتُبُ كُتُباً جيدة: ((ليس بإمكان أحدٍ بالنهاية أن يسمع من الأشياء، بما في ذلك الكتب، أكثر ممّا يعرف مسبَقاً. فما لَم يكُن للمرء من معرفة به عن تجربة مُعاشَة، لايمكن له أن يسمعه))، ((...وعندما عبّر لي الدكتور هاينريش فون شتاين ذات يومٍ عن تذمّره الصادق من أنّه لَم يفهم كلمةً واحدة من زرادشتي، أجَبتُهُ بأنّه لابأس في ذلك: أن يكون الواحد قد فهم ستّ جُمَلٍ من زرادشت، بمعنى أن يكون قد عاشها، فإنّ ذلك سيرفعه إلى مقام فوق منزلة الفانين ليس بإمكان "إنسانٍ حديث" أن يرتقي إليه. كيف يمكنني إذن، مع هذا الحس بالمسافة أن أطمع في أن أُقرَأَ من قِبَل هؤلاء "الحديثين" الذين أعرفهم!))
تبدو الكتابة إذاً كما لو أنّها عامل فصلٍ لا وصلٍ بين الكاتب والقارئ، عامل عُزلَةٍ ووحدة. هذه الوحدة يعبّر عنها نيتشه في نفس الكتاب: ((كل مَن يعتقد أنّه فَهِمَ شيئاً من كتاباتي فقد فَهِمَ منّي ما فهِمَ طبقاً لصورته الخاصة، وفي أغلب الأحيان شيئاً مناقضاً لي تماماً مثل اعتباري "مثالياً". أمّا مَن لَم يفهم مني أي شيء فقد انكر حتى إمكانية أن ادخُلَ في الحسبان... إنّ زرادشت بكلّيّته نشيد مَدَئحي للعُزلة، أو للنقاوة، إذا ما تمّ فهمي جيداً)). ((وحدهم المُصطَفون هم الذين يَحظون بمثل هذه الأشياء...))، ((حقاً أقول لكم إنه لن يكون غذاءً يُقاسمنا إيّاه النجسون! جمراً سيحسَبون ذلك الذي يتناولونه، وستحترق به أشداقهم)). ((لكن ما الذي يقوله زرادشت لنفسه وهو يؤوب للمرة الأولى إلى وحدته من جديد؟ تماماً عكس ما يمكن أن يقول أي "حكيم" أو "قدّيس" أو "مُخَلّص" أو أيٍ من المُنحَطّين الآخرين في مثل هذا الظرف... إنه لا يتكلّم بطريقة مختلفة فحسب، بل إنه مختلف أيضاً... وحيداً أمضي الآن ياتلامذتي! وأنتم أيضاً ستمضون الآن وحيدين! هكذا أردتُ لكم!)).

هذا القسم هو القسم الأكثر تبايُناً حتى الآن، كما أنّه يتضمّن أكبر قدر ممكن من الأمثال، وجميعها مرتّبة بشكلٍ فضفاضٍ تحت عنوانه. وبذلك فهو يجسّد أشهر قولٍ مأثورٍ عنده، وهو "عن الأمثال". علاوة على ذلك، وكما يتّضح على وجه السرعة، فإنّ الأمر لايتعلّق بالقراءة والكتابة بقدر ما يتعلّق بأشكال معيّنة من النشاط أو الإنتاج الثقافي، والتي قد تكون غاية أو هدف في حدّ ذاتها. إلا أنّه، وبعد الجمل القليلة الأولى، تصبح الإشكالية أكثر عموميةً: ما الذي يجب على الإنسان أن يصبح عليه إذا كان هذا النمط من القراءة أو الكتابة ممكناّ؟ هدف زرادشت التربوي هو خلق مثل هؤلاء البشر من خلال هؤلاء القرّاء أولاً.

((من بين كل ماهو مكتوبٌ لا أحبّ غير ذلك الذي يكتبه امرؤ بدمه)): الدم، طبعاً، كحبر، يضع المرئ ضمن فعل الكتابة. لكنّ الأهم من ذلك هو أنّ الم صورة الجسد الحي ودوافعه المهيمنة (العقل) بقدر ما تجعل من مجتمعات أو أقوام معيّنة أمراً ممكناً، أو غير ممكن، مجتمعات يمكنها التواصل فيما بينها حول كل ما هو مهمّ وجوهري في الحياة.

وبناءً عليه، لايحتاج الكاتب فقط _بل والقارئ أيضاً_ إلى القراءة بالدم. ((أن يُحفَظَ عن ظَهر قَلب)) يعني استيعاب ما هو أبعد من مجرّد كلمات ومعانيها. نظراً إلى أنّ الوعي ليس "مَركزاً" للذات، الأمر الذي يجعل من المعرفة والأفكار الجديدة أمراً مهماً _أي إيصالها إلى النقطة التي تؤثّر فيها على تطوّر المرء وتقدّمه_ يعني استيعابها وتشرّبها ودمجها كنوع من "الغريزة" المُكتَسَبَة (العلم المرح، قسم 11)

أنواع أخرى من القرّاء _"الخاملون"_ يُفسدون كلاً من القراءة وعملية التفكير على حدٍ سواء. مرةً أخرى، صفعة انتقادية خاطفة على خَدّ الأفكار الديمقراطية ذات القاسم المشترك الأدنى عن التعليم، أو الصحافة، أو المكتبات العامّة المفتوحة أمام الجميع، والتي تجعل من القراءة والكتابة شيئاً يشبه تجمّع الناس مع بعضهم وتحلّقهم حول بعضهم البعض طلباً للدفء كالبشر الأخيرين.

إنّ ذكر "الأمثال" هو بالطبع إشارة إلى أسلوب الكتابة الذي طوّره نيتشه، والذي تمّ تجسيده في هذا القسم خصوصاً. هذه الكتابة "الأمثولية" المتبانة صعبة وغير مفهومة بشكلٍ مُتَعَمّد، لكنها ليست على مستوى "جملة بجملة". كتابات نيتشه هنا محفورة بشكل واضح تماماً، حيث أنّ كلّ حكمة يمكن أخذها بمفردها بمعزلٍ عن الأمثال أو الحكم التي تسبقها.

كل قمّة/حكمة، إذا تمّ أخذها لوحدها واجتزائها من بين الأخريات، يصبح التحكّم فيها أسها _أو قد تبدو أنّها كذلك، لأنّ صور نيتشه متسلسلة ومتعاقبة كتيار، ومُثبتة في الكتاب بأكمله، وهنا تكمن المشكلة. الأمثال تتقدّم أو ترقص من قمّة إلى قمّة، لكن قمّة واحدة يمكن أن تكون مفهومة فقط بصفتها خطوة ضمن ر قصة متكاملة. هذا الأمر لوحده يخلق تحدّياً إشكالياً للقرّاء. فالهدف من تواصل نيتشه/زرادشت عندئذٍ ليس وصف شيء ما أو أمرٍ ما، بل المساعدة في تحقيق تغيير عند القارئ، فالكتابة هي فعل تجاه تجاوز الإنسان لذاته نحو الإنسان الأعلى. وبناءً على ذلك، فإنّ التحدّي الذي يواجه القارئ ليس مجرّد تحدٍ تفسيري. يجب أن تكون الحجّة أنّه لايمكن فهم زرادشت واستيعابه إلا من خلال الاقتران مع تغيّر في ترتيب دوافع المرء على مستوى الجسد. علاوة على ذلك، قد يتمّ تسريع التغيّر السابق أو دعمه أو تعزيزه أو دفعه من خلال الحكمة أو الفهم المُكتَسَب حديثاً. ومع ذلك يجب أن يكون القرّاء قادرين بالفعل على عملية التحوّل الذاتي، يجب أن يكونوا بالفعل تلاميذ إلى حَدٍ ما حتى قبل لقائهم بزرادشت.

إنّ صورة "القمّة" تقود زرادشت إلى التوسّع في موضوع التسامي والعُلُو. يشير التسامي أو الترفّع هنا جزئياً إلى الابتعاد عن الأعراف والتقاليد والمفاهيم البشرية، وقد قابَلنا فعلاً العديد من النسّاك. أو يمكن أن تتضمّن فكرة المَشَقّة أو الخطر (صورة الصحراء)، والتجاوز والنموّ، ثمّ البصيرة الروحية طبعاً (عشر سنوات قضاها زرادشت في الجبال). العُلُوّ أو الترفّع هنا يعني أيضاَ القدرة على الضحك، والاستخفاف بالأشياء: ((ليس بالحَنق، بل بالضحك يَقتُل المرء)). يشير فعل الضحك إلى نوع من الانفكاك أو فَكّ الارتباط عن الاستجابات العاطفية "الطبيعية" أو الصراع من أجل شيء ما أو ضدّ شيء ما. نحن نضحك على الأشياء التي لاتهمّنا ولاتستحقّ انفعالنا أو غضبنا بشأنها _ما تمّم تجاوزه والتغلّب عليه في شخصيتنا. وهذا مذكورٌ بالتفصيل في كتاب "العلم المرح"، قسم 107، عن دور الفن، والغباء، والضحك.

إنّ الضحك والسخرية والاستهزاء هي أيضاً استراتيجية معيّنة في الكتابة، استخدمها زرادشت في الجزء الأول من الكتاب. ومع ذلك فإنّ فعل الضحك و"الترفّع أو الارتقاء" في نفس الوقت أمر نادر الحدوث، في هكذا ضحك يجب أن يكون هناك تفاهم متبادل وقبول سعيد. وعلى النقيض من ذلك، يضحك العديد من الحمقى على أشياء لايفهمونها ببساطة، كضحك الجمهور في الديباجة من كلام زرادشت الذي لم يعوا كلامه وأساؤوا فهمه... وكم هي كثيرة حالات سوء الفهم في زماننا هذا.

وبالمثل، يصبح الكثير من الحكماء وقورين ومتّزنين للغاية، غير قادرين على النظر إلى الأسفل والضحك على ما سيكتشفونه ("روح الثقل": وسيعود نيتشه إلى مفهوم روح الثقل في فصول لاحقة. فصل "روح الثقل"/ الكتاب الثالث. أنظر أيضاً كتاب "العلم المرح"، الكتاب الخامس، فقرة 380، "المسافر يتحدّث": ((إنّ السؤال المطروح هو هل نستطيع حقاً أن نبلغ الذرى التي نريد بلوغها. إنّ هذا الأمر يبدو مرتبطاً بجملة من الشروط، ويظلّ المهم والأساسي هو أن نعرف إلى أيّ حَدٍ نحن خفيفون أم ثقيلون، إشكال "ثِقلنا الخصوص". على المرء أن يكون خفيفاً جداً كي يستطيع الدفع بإرادة المعرفة لديه إلى هذه الذرى وفي الآن نفسه إلى ماوراء حدود الزمن الذي يعيش فيه... على المرء أن يتخلّص من الكثير من القيود التي تجثم بثقلها علينا نحن أوروبيو اليوم، تُكَبّلُنا وتشدّنا إلى التحت، تجعلنا ثقيلين.

خلال الكتاب سنلاحظ أثناء تقدّم زرادشت علاقة شَدّ-ورَخي بين الجدية والكَرب من جهة، من خلال بصيرته، ومن جهةٍ ثانية، التغلّب عليها بالضحك والرقص.

أخيراً لدينا تجسيد نسائي آخر، هذه المرّة يتمثّل في "الحكمة"، التي تحبّنا فقط لأنّنا شجعان ومُتّزنين وساخرين وعنيفين ومحاربين ((شجعان، سادرين، ساخرين، عنيفين، هكذا تريدنا الحكمة: إنّها أنثى، ولاتحبّ دوماً غير المحارب من الرجال))، وقد سبق أن شبّه نيتشه الحقيقة بالمرأة في تصديره لكتاب "ماوراء الخير والشر": ((هَبْ أنّ الحقيقة امرأة)). كما أنّنا سنرى تجسيداً للحكمة مرةً أخرى، لاسيما فيما يتعلّق بصورة استعارية مشحونة جنسياً/فعل جنسي مع "الحياة" (الكتاب الثاني، قسم 10). والفكرة الأساسية في هذه التجسيدات هي أنّ العلاقة بين الفضائل والأبعاد الأخرى للشخصية يمكن أن تكون شبيهة بالعلاقة بين الجنسين: مشاجرات، مصالحات، خمول، رغبة جنسية، وحَمْل، كلّها صور موجود في الكتاب. وربما يكون آخرها هو الأهم: حيث يتناول السؤال طبيعة العلاقة بين الدوافع وكيف يمكن أن تكون _وهو الموقف الذي يميّز الحياة بكاملها _منتجة لأشكال جديدة من الحياة.

إبراهيم قيس جركس 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى