حميد العنبر - سردٌ على سرد.. بين الاعتباري والفني في قصة (من المشرحة) لـ”بهاء المري"

أجاد من سمّى وادّعى أنها نصوص سرد؛ نعم سرد باهر هذا الذي أمامي .. أول ما أثار فيَّ هلع هاجسي من ذات تواصيف نقلها الكاتب.. وهي مشاهدة وعيان حقيقيتان. لاشكوك بهما..قد نشك في حدث دخل الخيال والإضافة والتنميق عند كاتب ما لقصة أو مقطع رواية.. إنما سردية المشرحة استنساخ لصورة إذا ما أقول خلق شهودية وعقل ركّز كاتبها بهاء المري أيما تركيز عليها .. واحتاط بعالم ما.. تحاكيك الجثة ..الجثة على خشبة التشريح ليس ميّتةً .. إنما تجدها هي الناطقة بالإيحاء تبث فيك المعلوم تلو المعلوم . تنقلك إلى أن تكون غير نفسك.. هذا أول النشاط الفكري.. نقلتك الجثة تلك إلى غير كيانك.. من يستطيع تغييري بهذي المباشرة السريعة..لولا أن طاقةً يختزنها الرمز الجمالي أو هذا المسجّى المحسوب على عالم القبح باعتبار الفلكلور ينفيه عن أن نحسبه من الحِسن فبالتأكيد أحسبه على أوراق دفتر القبح.. ولو كانت غادة حسناء شابة فاتنة لامست يدي بمصافحة ورغبة.. نعم أحسبها على أوراق دفتر الحِسن.

نص المشرحة أثار فينا عالم من التنظير المفاجيء وهذا بحد. ذاته هو الصدق الفني.. إذ تصعد المشاعر مشتعلةً تصعد تراجيديةً تصعد التذمرية ..قد تفجّرُ فيك طاقةً تحسبُ المخاوفَ أول ما تحسبها من السيد الآجل

نكير ومنكر المَلَكين.. وتدخلك مثلوجيا طرية… أو تجعلك ترى خالقك وبسرعة تجدك أوّابا زاهدا .. مستسلما لكن دون دخول بحزب أو حركة .. وهنا سبقت طاقة فيض ودفع أحاسيس من المسجّى إلى ذات وجثمان الشاهد كل شاهد احتسب على الدائرة الآنية واحتاطتة الألوان الصفراء وبقع الدم والمشارط وقوة قلب المساعد والطبيب الشرعي..

هذان المخلوقان العجيبان تعوّدا على رياضة عالية الانقلاب نيرفانا من عالم الشيزوفرينيا أو الانفصام الإيجابي جدا…

يأتي الطبيب عاقلا معطرا ينزل من سيارته الفارهة وربطة عنقه الحمراء وقد تكون هناك في ذاكرته بقايا لمسحة من مزحة ليلية حمراء لزوجته أو حبيبته. تدغدغ باله .. حين وقف ينظر لفعل وظيفته وأمامه مشهدٌ لمسجّاةٍ جميلةٍ قتلها أخوها بطعنة سكين.. هذا الطبيب انقلب سريعا من الترف والرقة إلى نيرفانا القسوة والجَلَد ومسك هو الآخر ساطوره.. ليظهر حياة أخرى.. إما يثبت أو ينفي من خلالها.. إما يرفع هذي الغادة أو يصبح ضدها بما اقترفت..عكس القيم والعادة….

ومن أول المشوار إلى آخره لعل العقل الشاهد يعيش الجدل والمماكرة.. وهذا كله رابط توحي به الجثة متصل مع الحس والشعور والحواس والفطنة والذكاء..لكم عظيمة هذي الطاقة … كم يُشرّع ويخطب ويعلم الخطباء من على المنصات والمنابر والمسارح لكنهم لايستطيعون إيصال مفهوم كما أوصلته صورة ميتة على خشبة..

لماذا هذا هل فيزياء وجود أم كهرومغناطس..أم فن تلقيني .. لا هذا ولا ذاك إنما هي.. مكاشفة سوداء ذات اعتبار مجنون تشب بلسان لهب أزرق..حين تنجلي الحجب لك .. وتبدأ المشاهدة للعين المجردة.. من جثة في غرفة على خشبة رطبة..تجعلك تصم انفك أو تتعفر بشي.. ينجمع العالم بمفرداته بتفاصيله تراجيديا.. نعم إنها.التراجيديا حكمت علينا وهذا دور إيحائي من ميت مسجى.. أو قل عاطفة الرأفة والرقة والشفافية وتلكم بنات الحب.. وتجسيراته الممدودة وهنا مكاشفة بيضاء..يحكم بها القلب تبدأ من المشاهد الى تحويط المسجى وتكحيله بمسحة الجميل .. وحين يلتحم معك يثار جدل رجعي كذلك فيك عائد لك. مضاف لتفسيرية الوظيفي..

المهم أنه ليس عالما من القبح.. إنما كل هذا النثار والمُثار له هذا عِجاب وعَجب.. ولهذا اهتم الإنسان بهذي العلوم الخارقة العلوم أشبه بالإعجازية…

السيد بهاء المري.. قدم لنا ديباجة من الخطاب النثري التخاطري بعيدا عن سرد القصصي.. بل امتع من القص.. قدم منهجا كان خفيّاً من عوالم السراديب..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قصة: (من المشرحة)

بهاء المري

إنكَّ لتَفزع إنْ رأيتَ جُرحًا عميقًا أو إصابة بالغة، فهل لكَ أن تتخيَّل أجسادَ الناس وهي طريحة منضدة التشريح، أسيرة المشارط والمطارق والمناشير؟ وهل يُمكنك احتمال رؤية التقطيع والتفتيت والتكسير والتمزيق؟

كنتُ بداية عهدي بالعمل، أذهبُ بخيالي إلى أبعد مَدى في تصوُّر أجساد الناس وهي تقبَع تحت المشارط في غرفة التشريح وكنتُ حين أستمع إلى كبير الأطباء الشرعيين لدى تدريبنا بالمركز القومي للدراسات القضائية في منتصف الثمانينيات، أرسمُ من خلال أحاديثه صُورًا لما يَتم تقطيعه أو تكسيره أو تمزيقه من هذه الأجساد، وصورًا أخرى لتلك الجُّثث لدى مناظرتها بمناسبة التحقيقات، كي أشْحذ النفس على معايشة هذا الواقع المفزع الغريب.

ولكن في المشرحة، وأمام تلك الأجساد التي لم تعُد سوى أدوات يُقاس بها الدليل، فقد كان الأمر جَدّ خطير، بل يفوق كل تخيُّل.

التففنا حول الجسد المُسَجَّى على المنضدة، يدخل الطبيب الشرعي، يجري مُساعده فيسبقه، يرفَع من على الأرض حقيبة نصف بالية إلى جوار الجسد، يُخرج منها أدواته، مِقصَّات، مناشير، مَطارق، َمشارط، زجاجات فارغة، إلخ.

ثم يرتدي مُساعد الطبيب الشرعي قُفَّازه، ويضرب المِبضَع في البطن فيبقُرها، فتخرُج الأمعاء من مَكمنها.

وهنا، اتَّسَعتْ العيون، وارتعَدت الفرائص، وارتجفَتْ القلوب، وسقط مغشيًا عليه مَن سَقط، وجَرى من استطاع أن يتماسك ولاذ خارج هذه الحجرة المفزعة، وتسمَّر باقي الحضور كلّ في مكانه وكأنَّ الطير فوق الرؤوس، وكسَتْ الوجوه غبَرَة وخيَّم على المكان صمتٌ رهيب، وكرهنا الدنيا في لحظات.

لم يعبأ الطبيب الشرعي بغير عمله، أوْمأ للمساعد مُشيرًا إلى البطن، فأمسك المساعد بالمقص وقصَّ من الأمعاء جُزءًا عبَّأه في زجاجة، وما أن فرغ منها، حتى استكمل أعماله دون إيماءات جديدة، فكأن الإيماءة الأولى بمثابة إشارة البدء بالعمل، ثم أتى بمنشار قديم صدِئ من مَناشير الخشب، وراح يَحزُّ بين التقاء الضلوع فانشقَّ الصدرُ وظهَر القلب، فتفحَّصهُ الطبيب بمبضعه، ثم تناول جزءًا من الرئتين فتَّتهُ وتحفَّظ عليه في زجاجة، ثم صعد إلى أعلى فشقَّ الحلق، وفحص منه العَظْم اللَّاميّ، ثم ذبح الرأس من الخَلف فانقشعَت إلى الأمام الفروة، وبالمنشار حزَّ العظام طَبقة ثم طَبقة، حتى أتى إلى أخرى، فقابَله المخ فأعمل فيه نظراته وكان الطبيب الشرعي يُتابعه في كل خطوة من هذه الخطوات ويوجِّهه ثم يُدوِّن ملاحظاته.

وأخيرًا نَفضَ المساعد يديه وانتحى جانًبا، وكان قد كوَّم ما تبقَّى من الأعضاء إلى جوار صاحبها، ثم جمَعها وكأنها فضلات مائدة وفى داخل البطن ألقاها، ثم شدَّ عليها الخيط، ولم يكن كخيط الجراحة، وإنما كخيط الخيْش والأجولة، وكان المخيط كمِخيَط هذه الأشياء.

وهكذا رأيتُ أجسادَ البَشر وهي تُمتهن بما جنَت أيدي البَشر، أهذا هو الإنسان؟ أهذا هو الأسد الجَسور حين يَملك الزمام؟ أهذا هو المغرور حين يُؤتَى النِّعم؟ أهذا هو الماكر الحاقد الحاسد حين يَشذُّ عن الأخلاق؟!

إن الصورة لمُفزعة، والعبرة أكبر من أن ُتستوعَب، والعِظة أعظم مما تصرخ به، ويكون الناظِر أسير الصَّمت والفزَع، فيُسْلم كل حواسّه لما يَرى، راغبًا أم غير راغب، مُتَّعظًا أم مَبهوتًا وكُره الدنيا ولو للحظاتٍ يسود.

وليس مرَدُّ هذا الاستسلام جفاف القلوب أو موت الأحاسيس، وإنما هو شيء آخر قد تَحار في تفسيره، ربما يكون نوعًا من التَّبلُّد يَصِمُ المشاعر، حين يَتمثَّل المرء حقيقة نفسه في مثل هذا الجسد الذي باتَ يتأفَّف منه كل من كان لا يحتمل على صاحبه شوكة يُشاكها، وربما يكون نوعًا من الفَزع أو فقدان الإحساس بالمكان والزمان، في جوّ تسودُه مثل هذه الرَّهبة والعِظة، فينتاب المرء استشعار لحظي بتفاهة الدنيا وضَعف البَشر، ومن ثم ينظر ولا يشعر، وفي النهاية لابد أن يَتفكَّر.

وأمام مثل هذه الأحوال وغيرها، نشعرُ بضآلتنا، وبصِغَر أحجامنا، بل وبصِغَر عقولنا، ونكره الشرور والآثام، ثم تأخذنا الحياة، فنعود لننسَى ونتكبَّر، ونطغَى ونَتجبَّر، ونضِل ونظلِم، ويكون الخطأ وتكون الخطيئة، إنها الدنيا وهكذا الإنسان!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى