جابر عصفور - سخرية المقموع

السخرية إستراتيجية خطاب مقموع يقاوم به المقموع قامعه، وينزع عنه براثنه، وذلك على نحو يخلع عن القامع أقنعته المخيفة، ويحيله إلى كائن يمكن مقاومته، والانتصار على أدوات قمعه التي تتحطم مع بسمة السخرية الماكرة التي هي نوع من المقاومة بالحيلة، إذا استخدمنا عنوان كتاب جيمس سكوت «المقاومة بالحيلة». وهو الكتاب الذي يعرض لحيل المقموعين في مقاومة قامعيهم، واستغلالهم شتى الحيل لتحقيق أهداف المقاومة بكل وسيلة ممكنة، ولذلك أطلق المؤلف عنواناً فرعياً شارحاً على كتابه، وهو: «كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم». وهو عنوان يمكن أن نضيف إليه: «وفي وجه الحاكم»، فالسخرية يمكن أن تكون مواجهة للحاكم، ولكن من خلال حيل وأنواع بلاغية ماكرة من التقية، يمكن أن تقول كل شيء، على الرغم من أنها تبدو ببراءتها الطاهرة كما لو كانت لا تقول أي شيء يغضب الحاكم،يوقع الساخر في براثن الحاكم. ولذلك، فإن حيل السخرية وأدواتها عديدة، وتكاد أن تكون لانهائية، لكنها تصب في النهاية، وتندرج في أبواب السخرية التي تؤدي دوراً بلاغياً مهماً، بوصفها أداة أساسية «بلاغة المقموعين».
وليس من المصادفة، والأمر كذلك، أن يؤدي دال «سخرية» وجذره ومشتقاته معاني الاستهزاء والاحتقار والإهانة والترويض والتلاعب، فضلاً عن التنكيت الذي هو نوع من التبكيت، إذا استخدمنا عنوان مجلة عبدالله النديم الشهيرة. وقد حامت مشتقات الجذر «سَخرَ» حول هذه الدلالات وأدّتها في آيات من مثل: ( لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم )، ( وزُيّن للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا )، وكلتا الآيتين تشير إلى معنى الاستهزاء والإهانة التي لا تفارق دلالة التحقير، وذلك في موازاة الآية: ( ثم استوى على العرش وسخّر الشمس والقمر ) التي تؤدي معنى الترويض والتوجيه إلى أداء غرض أو غاية، كما في الآية ( وسخرنا مع داود الجبال يُسبحن والطير )، ومثلها ( والسحاب المسخّر بين السماء والأرض ) . وتأتي صيغة (استفعل) الصرفية للدلالة على المبالغة في السخرية كما في الآية ( وإذا رأوا آية يستسخرون )، وليست كل هذه الدلالات بعيدة عن دلالة العملية اللغوية التي يتحول بها موضوع السخرية إلى موضوع للتندر، ومن ثم يتحول إلى «هزأة» أو «مَسْخَرة» فيما تؤدي بلاغة العامية، وهي تشمل الفنون التشكيلية والآداب، معتمدة في كل أحوالها على المراوغة التي تبطن غير ماتعلن، وتتلاعب ما بين مستويات القول وتعدد دلالاته. مبدؤها الدافعي رفض ما هو قائم ومهاجمته، فعدوانيتها المراوغة قرينة نزعة شك ومساءلة. ولذلك، فهي ابنة الوعي الشاك الذي يراوغ كل المحرمات ويناوشها ولا يترك شيئاً إلا ويقرعه بحيل السخرية ، ابتداء من ذاته، مروراً بالسلطة التي يراها قمعية، ويسعى إلى تقليم أظافرها أو نزع براثنها الوحشية، وانتهاء بالمطلقات الكبرى التي لا تنجو من مكر السخرية وسهامها المراوغة. وهذا ما يجعل السخرية ملازمة للوعي الكتابي، لا الشفاهي البدوي، فهي ابنة المدن، وقرينة الحداثة لا من حيث هي مذهب متعين،ولكن من حيث هي نزعة مدينية، قرينة شك الوعي المديني في موروثاته ومطلقاته، ورفضه التسليم العفوي بأي سلطة موروثة أو مفروضة أو بازغة في المدينة التي تعرف نعمة المسجد ونقمة السجن وسطوة أولي الأمر وبطش العسس الذين يستمدون هيبتهم من سلطان أو حاكم متسلط، ظالم، متجبر، في أغلب الأحوال.


الجاحظ ساخراً

ولا أدل على علاقة السخرية بالمدينة من أن أدبها تأسس، في تراثنا العربي، مع الجاحظ الذي كان المفكر الأول للمدينة العربية الجديدة في العصر العباسي، وناثرها الأول، أعني المدينة متعددة الأجناس والمعتقدات والمذاهب والطوائف والصناعات واللغات، المدينة المفتوحة على المعمورة المعروفة بواسطة الترجمات والرحلات، والتي تتخللها نزعات التغير ومطالب التحول فتدع العقول في حال من المساءلة لكل شيء، ولذلك، عرف نثر الجاحظ فضائل الكتابة ومساوئ القيم الشفاهية الموروثة عن البداوة. وكان ساخراً من طراز غير مسبوق، والمثال الأشهر على سخريته رسالة «التربيع والتدوير» التي كانت أشبه بمعطف جوجول الذي خرجت منه القصة القصيرة، أو العباءة التي خرجت منها السخرية ، لتمضي في كل اتجاه، ابتداء من السخرية الذاتية، وانتهاء بغيرها من مجالات السخرية التي تتدرج صاعدة رأسيا، وتتجاور متراصفة أفقياً.
وتنتقل السخرية من النثر إلى الشعر، ليس على سبيل التعاقب وإنما على سبيل التزامن في التراث العربي، ولكنها لم تعرف الرسم لأن هذا الفن التشكيلي مع النحت كانا لهما وضع خاص في التراث العربي الذي ينتسب إلى الإسلام ديناً بموقفه المعروف من الفنون التصويرية التي كان يرفض محاكياتها التي قد تعيد الناس إلى وثنية الجاهلية، ولذلك، لم يعرف التراث العربي، حتى في العصر الحديث، رساماً مثل جويا صاحب اللوحة الخاصة بالأسرة المالكة التي جعل فيها ولي العهد الصغير يشبه الوزير الذي كانت تعشقه الملكة. ولقد حفرت هذه اللوحة دلالتها الساخرة في وعي صلاح عبدالصبور الشاعر الذي أعاد إنتاجها مطلع قصيدته «مذكرات الملك عجيب بن الخصيب» التي نقرأ فيها:
لم آخذ الملك بحد السيف، بل ورثته عن جدي السابع والعشرين (إن كان الزنا لم يتخلل في جذورنا لكنني أشبهه في صورة أبدعها رسامه.. كان عشيق الملكة).
ولم يكن صلاح عبدالصبور في ميله إلى السخرية بعيداً عن تراثها العالمي، أو بعيداً عن تراثه بوجه خاص، فهو أحد أحفاد الجد الأكبر المتنبي الذي وصل بالسخرية إلى مدى غير مسبوق في الشعر، خصوصاً في مناوشة الحكام الذين غضب عليهم، ومنهم كافور الإخشيدي الذي قال فيه:
أُخِدْتُ بمدحه فرأيت لهواً
مقالي لأحيمق يا حليم
حيث يستخدم كلمة التصغير (أحيمق بدلاً من أحمق) والتناقض الذي يبدو فيه المظهر نقيض الجوهر، وذلك بعض من كل أدواته البلاغية في السخرية .


سطوة السخرية

ويعني ذلك أن للسخرية وظائف وأساليب وأدوات عديدة في الدراسات الخاصة بها، في بلاغة المقموعين. ومبدأ الانطلاق فيها أنه لاشيء مقدس، أو محرم، أو مطلق، وأساليبها تبدأ من ملاحظة التناقض بين القول والفعل، المظهر والجوهر، المعلن وغير المعلن، المنطوق والمسكوت عنه وتمتد إلى ملاحقة المفارقة التي تنبع من التجاور بين النقائض، أو الجمع بين خصال متضاربة متنافرة أو الادعاء بما هو غير موجود أو حقيقي، أو إطلاق التسمية على مايناقضها. ولا تتباعد هذه الملاحقة عن التوريات والإشارات والكنايات والتمثيلات التي تنطق المسكوت عنه على الرغم من النواهي الجازمة بعدم النطق به، وذلك بما يزيل الخوف من مصدر القمع، ويحيله إلى موضوع للاستهزاء، أو يجعل منه «مسخرة». وقد حاول منظرو بلاغة المقموعين (كما أشرت في دراستي التي تحمل هذا العنوان) إحصاء الكيفيات والأدوات التي تتيح إنطاق المسكوت عنه، وذلك بما يثير السخرية من فاعل القمع، حتى في حضرته، وذلك كما فعل المتنبي في قوله لكافور الإخشيدي، حين قال:
وأخلاقُهُ إذا شئت مدحهُ
وإن لم أشأ تملى عليّ وأكتبُ
إذا ترك الإنسان أهلاً وراءه
ويمَّمَ كافورًا فما يتغربُ
فتى يملأ الأفعال رأيًا وحكمة
ونادرة أحيان يرضى ويغضَبُ
إذا طلب جدواك كم أعطوا وحُكّموا
وإن طلبوا الفضل الذي فيك خُيِّبوا
وإن جاز أن يحووا علاك وهبتها
ولكن من الأشياء ما ليس يُوهَبُ
وأي قبيل يستحقك قدره؟!
معدُبن عدنان فداك ويعربُ
وما طربي لما رأيتك بدعةً
لقد كنت أرجو أن أراك فأطربُ
وتعذلني فيك القوافي وهمتي
كأني بمدح قبل مدحك مذنبُ
وهي أبيات يمكن استقبالها على وجهين: أولهما مديح ظاهر للشاعر الذي تملى عليه فضائل كافور القول رغماً عن أنفه، فكافور هو الأهل الذي لا يشعر الشاعر معهم بالغربة، ويملأ الدنيا فكراً حكيماً لا يخلو من النوادر التي هي دقائق المعارف، ولذلك، فإن طالبي كرمه يجدون لديه الكثير، لكن لا واحد منهم يمكن أن يأخذ شيئاً من الأخلاق الفاضلة التي لا توجد إلا فيه، فأخلاقه كعلاه من الأشياء التي لا توهب، ولذلك، لا يصل أحد إلى درجة مجده وعلوه على غيره. وما طرب الشاعر وفرحه عندما رأى كافور غريباً، فقد كان يرجو أن يفرح ويطرب حين يراه. ولذلك تحسد القوافي الشاعر على قصيدته في كافور لأن فيها ما ليس في شعره السابق، فمدحه لكافور هو الشعر وما قبله ليس بشعر.
أما الوجه الثاني للأبيات، في حالة إدراك مغزى السخرية ، فيؤدي نقائض المعنى فأخلاق كافور السيئة تفرض نفسها على الشاعر حتى لو شاء أن يتجاهل ما فيها، فالشاعر في حضرة كافور يشعر بأنه لم يستفد من رحيله إليه، كأنه لم يتغرب عن أهله، فكافور يملأ الدنيا أقوالاً وأفعالاً ونوادر مضحكة، وهو يتقلب ما بين السخط والرضى دون سبب معروف، ولذلك فطالب فضله خائب،عائد بخفي حنين، فلا أحد يملك صفات كافور الذي لا يشبهه أحد في خصال السوء، ولذلك فليس غريباً أن يضحك الشاعر حين رآه فهو بدعة غريبة في الشكل والخصال، ولذلك كان الشاعر يتوقع أن يضحك حين يرى هذا العبد المشقوق الشفتين، ولذلك أيضاً فإن القوافي تلوم الشاعر لما قاله في كافور من شعر لم يقل بمثل نفاقه في أحد من قبل.
ويعني ذلك أن الأقوال الساخرة مراوغة المعنى، كأنها سلاح بلاغة المقموع التي يشهرها في وجه القامع، متلاعباً به، ومحيلاً إياه إلى «مسخرة» يضحك منها الناس، دون أن يدري القامع الذي تتحول عدم درايته إلى علامة على جهله الذي ينتقص من قدره، ويحقّر من صورته عند المتلقين الذين يفهمون المغزى الخفي من رسالة السخرية ، خصوصا إذا كانوا يستقبلون الدلالات على موجة الإرسال الشفرية التي يرسل بها الشاعر، موجهاً إياهم إليها بواسطة قرائن مراوغة، يفهمونها دون غيرهم، ما ظلوا عارفين بمفتاح شفرات بلاغة المقموعين الذين هم منهم. ولا غرابة في ذلك، فقد كان المتنبي واحداً من الساخرين الذين أسهموا في تأصيل السخرية الشعرية والوصول بها إلى تحقيق الغايات التي أرادها، خصوصاً في علاقته بكافور الذي لم يره كفؤا لشعره، أو مستحقاً لقصائده التي لم يكن يراه جديراً بها، خصوصا بعد أن خذله، ولم يحقق له شيئاً مما كان يرجوه منه.


دنقل وقناع المتنبي

ولقد أدرك أمل دنقل قدرة المتنبي على السخرية ، وفهم طبيعة علاقته بكافور الإخشيدي، مقارنة بعلاقته بسيف الدولة، فاتخذ من شخصية المتنبي قناعاً، خصوصاً أثناء إقامته في مصر، وخيبة أمله في حاكمها الذي رأى فيه الوجه النقيض لسيف الدولة الذي وجد فيه النموذج الساطع للحاكم العربي الشجاع الذي ظل يقاومة الروم، ولا يتيح لهم تحقيق مآربهم، أو التوسع في الأرض العربية، فجعل من حلب قاعدته المنيعة، ومن جيشه درعاً للأمة العربية كلها، فكان مثالاً نادراً للحاكم الفارس والرجولة العربية الأصيلة. أما كافور فكان على النقيض من ذلك، فيما رآه المتنبي التاريخي، وأمل دنقل الذي اختفى وراء قناع المتنبي في قصيدته «من مذكرات المتنبي في مصر». والقصيدة مكتوبة في يونيو 1968، أي في الذكرى الأولى لهزيمة 1967، وكان جمال عبدالناصر لايزال حياً، لكنه بالهزيمة التي كان نظامه مسئولاً عنها، وكانت ديكتاتوريته سبباً فيها، كان يستحق أن تقوم موازاة بينه وكافور الإخشيدي، فكلاهما حرم الشاعر التاريخي والصوت الذي يختفي وراء قناعه من تحقيق أمانيه وأحلامه، وكلاهما حارب بالكلمات وليس بالأفعال. ولذلك، يبدأ الصوت يختفي وراء القناع من واقعه المحبط الحزين، وحاضره المنهزم المكسور. هكذا تبدأ القصيدة التي تعد من قصائد الهجاء السياسي التي تركت الأقنعة الأجنبية، واستبدلت بها الأقنعة القومية. أعني أن أمل ترك قناع سبارتاكوس (محرر العبيد) الذي انكسرت ثورته في مواجهة القيصر، وكان تورية تاريخية عن عبدالناصر الذي أمر بإجراء استفتاء 1960 على رئاسة الجمهورية وكانت النتيجة فوق 99% كالعادة، وهو الحافز الذي دفع أمل إلى كتابة قصيدة كلمات سبارتاكوس الأخيرة، القناع الأول الذي استخدمه لينطق الشاعر من ورائه احتجاجه على عبدالناصر الذي رأى فيه نموذجاً للحاكم المستبد. وكان الاختفاء وراء القناع القديم وسيلة من وسائل نطق المسكوت عنه من بلاغة الخطاب المقموع. ومرّت السنوات التي أدرك فيها أمل أن العودة إلى رموز التراث العربي أنجح وأكثر تأثيرا في متلقي القصيدة، وذلك لما لهذه الرموز من مخزون شعوري في الوعي الجمعي القومي. وكانت النتيجة واضحة تماما في قصيدة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» التي فرغ أمل من كتابتها بعد أيام معدودة من الهزيمة الماحقة، تحديداً في الثالث عشر من يونيو 1967، ويختفي فيها صوت الشاعر وراء عبد من عبيد عبس الذي كان لابد أن ينهزم وأقرانه العبيد، حين وقعت الواقعة، وحين تخاذل القادة، وتركوه بلا حول ولا شأن، بعد حياة من الذل والهوان والقمع والاستبداد، فكانت الهزيمة حتمية، وكان الانكسار نهاية حياة الاستبداد التي دفعت الضحية إلى أن يشكو لرمز زرقاء اليمامة التي حذرت قومها سدى من الأعداء، فكانت هزيمتهم التي شابهتها هزيمة 1967.
وفي سياق الأقنعة العربية، يأتي المتنبي الذي يكتب الشاعر المعاصر (الممتلئ بوعيه القومي)، يومياته، في مصر، مستعيراً صوت المتنبي في علاقته بكافور، ليجعل منها موازياً للعلاقة بعبدالناصر الذي ظل أمل يراه نموذجاً للحاكم المستبد. ولذلك، تبدأ قصيدة «من مذكرات المتنبي في مصر» بمناخ الاكتئاب الذي يعيشه المتنبي المحبط المنكسر في مصر، بلا رجاء أو أمل، لا يجد أمامه سوى الخمر، يغرق فيها همومه ويأسه الذي أمرض روحه وجسده:
أكره لون الخمر في القنينة
لأنني أدمنتها.. استشفاء
لكنني منذ أتيت هذه المدينة
وصرت في القصور ببغاء
عرفت فيها الداء
والأبيات تمضي عروضياً لتؤكد سرعة إيقاع بطبيعة يؤكدها الحرص على التقفية التي توازن بين القافية الساكنة النهاية المغلقة والقافية الغالبة المفتوحة النهاية، كما لو كانت توحي بنوع من الشعور الرتيب بلا نهاية الحياة الخامدة الخاملة، حيث لا شيء سوى الشعور الممض باللاجدوى، وهو الشعور الذي يؤكد تكرر التشبيه الذي يدعم بتكرار الخواء، وذلك بما يؤدي إلى المقطع:
أمثل ساعة الضحى بين يدي كافور
ليطمئن قلبه، فلايزال طيره المأسور
لا يترك السجن ولا يطير
أبصر تلك الشفة المثقوبة
ووجهه المسودّ، والرجولة المسلوبة
.. أبكي على العروبة
والمقطع يعتمد، بلاغيا، على ما يمكن أن نسميه تجريد المشبه به، قياسا على الاستعارة المجردة، حيث يتم التركيز على صفات كافور الذي كان عبداً، كما كان أسود الوجه، ولابأس في أن يراه الشاعر ذا شفة مثقوبة، فكافور منظور إليه بعدسة الهجاء التي لاتعرف سوى تضخيم العيب، أو حتى اختلاقها، فالمهم أن يظهر كافور عبداً زنيماً مخصياً، كي تتأكد فيه صفة الرجولة المسلوبة التي تؤدي معنى الهزيمة وتدفع إلى البكاء على العروبة المهزومة التي لا تنجح إلا في أن تسلب مبدعيها حريتهم، وتحبسهم لكي لا يغنوا أو ينشدوا إلا لها. هكذا، نصل إلى المقطع لثالث الذي يحكي مفارقة العلاقة بين شاعر لا يحترم إلا الأبطال أمثال سيف الدولة والسلطان الذي لا يعرف من البطولة شيئاً:
يومئ يستنشدني: أنشده عن سيفه الشجاع
وسيفه في غمده، يأكله الصدأ
وعندما يسقط جفناه الثقيلان، وينكفئ
أسير مثقل الخطى في ردهات القصر
أبصر أهل مصر..
ينتظرونه.. ليرفعوا إليه المظلمات والرقاع
والمقطع بالغ الدلالة، ولكنه يستبدل باللغة المراوغة مزدوجة الدلالة اللغة المباشرة القاسية التي ترصد التناقض بين المظهر والجوهر، فكافور يطلب من الشاعر النفاق، فينشده عن سيفه الشجاع، لكن الذي صدأ في غمده، وهو كسول سرعان ما يمل الشعر والشاعر، فيسقط رأسه نائماً، تاركاً الشاعر في إنشاده الذي يضطر إلى إيقافه، ويسير محبطاً في ردهات قصر محاط بشعب يريد أن يرفع مظلماته إلى السلطان الذي يتوهمون رعايته لهم، أو اهتمامه بقضاياهم، لكنه يغط في نومه غير آبه بهم. ويأتي المقطع اللاحق لينقلنا إلى بيت الشاعر، حيث المشهد الذي يكمل الدلالة، فنقرأ:
.. جاريتي من حلب، تسألني «متى نعود»ُ
قلت: الجنود يملأون نقط الحدود
ما بيننا وبين سيف الدولة
قالت سئمت من مصر، ومن رخاوة الركود
فقلت: قد سئمت - مثلك - القيام والقعود
بين يديّ أميرها الأبله،
لعنت كافورا
ونمت مقهورا
والحوارية تضفي على المقطع حيويته وتؤكد الطابع الدرامي للقصيدة. والصوة الكنائية الممتدة دالة على الحال الذي تنطقه الجارية، وتصفه في عباراتها الدالة التي تبدو أشبه بالسبب الذى يؤدي إلى النتيجة التي ينتهي بها المقطع، حيث التوحّد الكئيب الذي ليس فيه سوى نوم القهر، والنوم فضاء الأحلام والذكريات التي يستهلها المقطع اللاحق.
«خولة» تلك البدوية الشموس
لقيتها بالقرب من «أريحا»
سويعة ثم افترقنا دون أن نبوحا
لكنها في كل مساء في خاطري تجوس
يفتر بالشوق والعقاب ثغرها الشموس
أشم وجهها الصبوحا
أضم صدرها الجموحا
.. .. ..
سألت عنها القادمين في القوافل
فأخبروني أنها ظلت بسيفها تقاتل
في الليل تجار الرقيق عن خبائها
حين أغاروا، ثم غادروا شقيقها ذبيحا
والأب عاجزاً كسيحا
واختطفوها، بينما الجيران يرنون من المنازل
يرتعدون جسداً وروحا
لا يجرءون أن يغيثوا سيفها الطريحا
.. .. ..


التاريخ يعيد نفسه ساخراً

ومن الطبيعي أن تأتي الأحلام بذكر الأحبة، كأنها تستبدل الذي هو خير فيما هو حلم بالذي هو أدنى من الواقع. و«خولة» التاريخ هي أخت سيف الدولة، التي ذكر بعض مؤرخي المتنبي أنه كان يحبها، ويكتم حبه لها، بسبب مكانته من أخيها. لكن «خولة» المحبوبة تتحول إلى فتاة، قابلها الشاعر بالقرب من أريحا في أرض فلسطين التي أصبحت سليبة في واقع الشاعر المعاصر، لكنه ظل يكتم حبها الذي لم يبح به لها، وهي أيضاً، في لقائهما السريع، لكن ذكراها ظلت باقية علامة على كل ما هو عربي أصيل، ولكنها تختطف من تجار الرقيق الذين ظلت تقاتلهم وحدها، بعد أن قتلوا أخاها، وتركوا أباها عاجزاً، والجيران (الذين يشبهون الدول العربية التي يحكمها حكّام مثل كافور) ظلوا يرقبون خطفها في عجز ورعب، كأنها فلسطين، التي اغتُصبت، والعرب ظلوا على عجزهم وخور حكامهم الذين هم صورة أخرى من كافور. ولجوء أمل دنقل إلى رمزية المرأة المختطفة أو المغتصبة أو المبيعة حيلة رمزية متكررة في شعره، يدل بها على هوان الحال الذي يصل إلى درجة التفريط في العرض، وذلك بمنطق قيم أقصى الجنوب الذي ينتهي إليه أمل. وعندما تتحول الذكرى إلى واقع، ونفارق الحلم إلى الحقيقة، نصل إلى أقصى درجة السخرية في الحوار الذي يدور بين المتنبي وكافور:
(ساءلني كافور عن حزني
فقلت إنها تعيش الآن في بيزنطة
شريدة.. كالقطة
تصيح «كافوراه.. كافوراه»
فصاح في غلامه أن يشتري جارية روميه
تجلد كي تصيح «واروماه.. واروماه»
لكي يكون العين بالعين
والسن بالسن!)
وليس أقسى من مثل هذه السخرية وأوجعها التي تعمل بطريقة «أشد المصائب ما يضحك»، ويضيف إلى نوازع الضحك التضمين الذي يذكّر العارف بالتاريخ العربي قصة الخليفة المعتصم الذي بلغه أن امرأة عربية وقعت في الأسر، في مدينة عمورية، فصرخت: «وامعتصماه»، وعندما بلغه ذلك هبّ من جلوسه، وأمر بإعداد الجيش الذي قاده بنفسه لفتح عمورية، وانتزاعها من الروم، ذلك على الرغم من تحذير المنجمين له ألا يغير في ذلك في الوقت من العام، لكن حماسته العربية أبت عليه أن يرضى الهوان لامرأة، عربية، فسعى إلى تحريرها، وفتح عمورية الفتح الذي قال فيه أبو تمام قصيدته التي مطلعها:
السيف أصدق أنباء من الكتبِ
في حدّه الحدُّ بين الجد واللعبِ
والتضمين يرينا بعد ما بين الأضداد، ومن ثم الفارق بين المعتصم الشجاع وكافور الجبان، وهي مقارنة مضمرة يلزم عنها ذكر ما يقوله كافور (الشخصية الموجودة في القصيدة وليس الواقع بالضرورة) ما يجاوز البسمة إلى الضحكة التي هي أصدق تعبير عن الاستهزاء به، واستحقار أمره بالقياس إلى الحكام من أسلافه كالمعتصم، أو ممن حوله كسيف الدولة، ويؤدي التشبيه دوره داخل الصورة الكنائية في تدافع المقطع (سريع الإيقاع) الذي يؤدي دوره بوصفه أمثولة، وذلك مثلما تؤدي دلالاته مايعيدنا إلى علم الحلم من حيث هو بديل للواقع ونقيض له:
في الليل، في حضرة كافور، أصابني السأم
في جلستي نمت.. ولم أنم
حلمت لحظة بكا
وجندُك الشجعان يهتفون: سيف الدولة
وأنت شمس تختفي في هالة الغبار عند الجولة،
ممتطياً جوادك الأشهب، شاهراً حسامك الطويل المهلكا
تصرخ في وجه جنود الروم
بصيحة الحرب، فتسقط العيون في الحلقوم
تخوض، لا تبقى لهم إلى النجاة مسلكا
تهوي، فلا غير الدماء والبكا
ثم تعود باسما ومنهكا
حلمت لحظة بكا
حين غفوت
لكنني حين صحوت
وجدت هذا السيد الرخوا
تصدر البهوا
يقص في ندامة عن سيفه الصارم
وسيفه في غمده يأكله الصدأ!
وعندما يسقط جفناه الثقيلان، وينكفئ
يبتسم الخادم..!
والحلم في المقطع بديل الواقع ونقيضه على السواء، ولذلك ينبني المقطع كله على التضاد، العنصر البنائي الأثير في شعر أمل، فصورة سيف الدولة بلوازمها التي يتصّدر فيها المشهد شاهراً حسامه المهلك، يصرخ في وجه أعدائه بما يثير فيهم الرعب. وفي جنوده بما يثير فيهم شجاعة الاندفاع إلى الأعداء، فينتصر. ويعود مظفراً ليلاقيه شعبه العربي بالهتاف: يا منقذ العرب.


في درب القلة

وتأتي بعد هذه الصورة الإيجابية الصورة النقيض لكافور الرخو الذي يتصدّر البهو، يحكي أكاذيبه عن سيفه (الذي يأكله الصدأ) ولا يمضي في الحديث إلا ويدركه الوخم بالنوم. فينكفئ على صدره مغلقاً عينيه بما يجعل منه «مسخرة» يبتسم لها حتى الخادم. والتضاد يكتمل دوره بالتعاقب الذي يظهر حدة المفارقة بين ماض قومي مجيد، أعلامه أمثال المعتصم وسيف الدولة، وحاضر مهزوم رموزه كافور وشبيهه من ناصر النكسة الذي لم يكن بهذه الصورة الكريهة، التي كان يلحّ عليها أمل الذي ظلّ يرى فيها رمزاً للديكتاتورية، التي لايمكن أن تؤدي إلى انتصار. (وكم تعاركنا بسبب هذه الصورة لناصر في النقاش السياسي الذي كان يحتدم بيني وأمل). المهم أن تضاد التعاقب يؤكده إيقاعياً تكرار القوافي والكنايات الصغيرة، التي تصنع كناية كبيرة محتشدة بعنصرها الدرامي الذي يقود إلى المقطع الختامي الذي يزدوج، بدوره، إيقاعياً هذه المرة، فنقرأ:
.. تسألني جاريتي أن أكتري للبيت حراسا
فقد طغى اللصوص في مصر.. بلا رادع
فقلت:
هذا سيفي القاطع
ضعيه خلف الباب، متراسا
(ما حاجتي للسيف مشهورا
مادمت قد جاورت كافورا)
عيد بأية حال عدت يا عيدُ
بما مضى أم لأرضي فيك تهويدُ
نامت نواطير مصر عن عساكرها
وحاربت بدلا منها الأناشيدُ
ناديت: يا نيل هل تجري المياه دما
لكي تفيض: ويصحو الأهل إن نودوا؟
عيد بأية حال عدت يا عيدُ.
والقسم الأول استكمال للسخرية من مشهد كافور الذي نقل خوره وعجزه إلى وطنه بأكمله، ومن ثم شاع التكاسل والتواكل، ووهم أن الحاكم هو الحارس الذي يكفي حضوره، أو الحياة في ظله ليتحقق الأمان، ولذلك فلا لزوم للسيف المشهر، أو القاطع، مادام المرء يعيش في حماية كافور الحاكم الموجود في كل مكان. ويكمل القسم الثاني بالسخرية التي تستغل إحدى القصائد التي كتبها المتنبي في أحد الانتصارات التي حققها في «درب القلة» على الجيش الرومي. وهي القصيدة التي يبدؤها المتنبي بالنسيب الحزين المتضمن التوجع من فراق الحبيب الذي لا معنى للعيد بعيداً عنه. ولكن أمل دنقل يتلاعب بأبيات النسيب، في نوع من الكولاج، ويستبدل ببعض الجمل غيرها، فيتحول البيت:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها
فقد يشمن وما تفنى العناقيدُ
إلى:
نامت نواطير مصر عن عساكرها
وحاربت بدلا منها الأناشيدُ
ويضيف في الوزن والقافية ذاتهما:
ناديت: يا نيل هل تجري المياه دما
لكن تفيض ويصحو الأهل إن نودوا
ويأتي الختام بالشطر الأول من النسيب:
عيد بأية حال عدت يا عيد?!
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
إلى:
عيد بأية حال عدت يا عيدُ
بما مضى أم لأرضي فيك تهويدُ
وبالطبع، يختفي نسيب المتنبي مع هذا الإقحام والإبدال، ويتحول إلى ما يشبه أن يكون بكائية على مصر في عامها الأول بعد الهزيمة، فنرى المفارقة التي تقلب معنى العيد إلى نقيضه، ورد الجريمة إلى مرتكبيها، وهم العسكر الذين حاربت بدلاً منهم الأناشيد، والأدق: حكم العسكر الذين تسبّبوا في الهزيمة، وكانوا السبب في تهويد الأرض العربية التي لن تتحرر ثانية، إلا بعد أن يعود أمثال المعتصم وسيف الدولة من الذين صنعوا المجد العربي على صهوات الخيول، حين كانت الخيول تتنفس حرية في الزمن الذهبي النبيل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى