د. محمد سعيد شحاتة - حركة المعنى وإنتاج الدلالة.. قراءة في قصيدة (أن تكون في العاصمة) للدكتور عيد صالح

مهاد:
إن الحديث عن المدينة في الشعر العربي قديم قدم الشعر نفسه، وقد كان الشاعر القديم يرى في المدينة غربة شديدة، ويحنُّ دائما إلى مسقط رأسه، ومرتع صباه، وقد كانت السمة الغالبة على الشعر الرافض للمدينة هي الإحساس بالغربة وعدم التأقلم مع العيش في المدينة، ولكنه ليس رفضا للمدينة/المكان في حد ذاته بقدر ما هو حنين إلى الأهل والأحباب الذين صاحبوا الشاعر في طفولته، وشكَّلوا مخزونه من الذكريات، فالمدينة في هذه الحالة لم تستطع أن تجعل مكوناتها الصامتة كيانا ناطقا بالحيوية والحركة، ومختزلا ذكريات للشاعر، وهو ما عبَّر عنه الشاعر القديم بقوله:
كفى حزنــا أني ببغــداد نازل وقلبي بأكناف الحجاز رهينُ
إذا عنَّ ذكر للحجاز استفزني إلى مَنْ بأكناف الحجاز حنينُ
ولكن ليس معنى ذلك أن الشعور بالاغتراب في المدينة كان حال الشعراء جميعا، ولكننا وجدنا كثيرا من الشعراء يرون في المدينة زخما يفوق ما كان يحلم به، ومن هؤلاء أبو نواس وغيره من الشعراء القدماء في كثير من نصوصهم، على أننا ينبغي أن ننتبه إلى أن المدينة في الشعر القديم، وحتى منتصف القرن العشرين لم تكن محملة بالهمِّ الوجودي للشاعر، وانهيار أحلامه، وتفجير أحزانه واستدعاء كل معاني الفقد والضياع والحرمان والاغتراب، بمعنى أن المدينة لم تكن محمَّلة بالمعاني الفلسفية والأبعاد الوجودية، والحنين كان حنينا إلى مرتع الصبا والأهل والأحباب، ولابد هنا أن نشير إلى نموذجين من نماذج توظيف المدينة في الشعر الحديث، الأول في ديوان أحمد عبد المعطي حجازي (مدينة بلا قلب) والثاني في ديوان محمد إبراهيم أبو سنة (تأملات في المدن الحجرية) حيث أخذت المدينة شكلا آخر غير المتعارف عليه في الشعر الكلاسيكي، وليس من همِّ هذه الدراسة الوقوف أمام توظيف المدينة في الشعر العربي الحديث بقدر ما تهتم بالإشارة فقط إلى أن المدينة أخذت بعدا وجوديا وفلسفيا استطاع الشاعر من خلاله التعبير عن التغيرات الاجتماعية والفكرية في مسيرة الإنسان، وما حكم المسيرة الإنسانية من قيم فكرية وانحيازات أخلاقية، وتغيرات اجتماعية ظهرت كلها في توظيف الشاعر للمدينة ببعديْها المكاني والفلسفي.
عتبة الولوج:
إن الملاحظ أن العنوان يتكون من جملة اسمية حذف خبرها وجاء المبتدأ مصدرا مؤولا (أن تكون) مبدوءا بأن المصدرية، ومعناه (كونك في العاصمة) ليترك لنا الشاعر استنتاج الخبر الذي هو تكملة للمبتدأ من حيث المعنى، وهو/الخبر كذلك حكم على المبتدأ من حيث التكييف النحوي، وهذا يعني أن الشاعر قصد إلى تقديم نصف الجملة وترك القصيدة – ومعها المتلقي – تتولى تكملة النصف الآخر، وهنا يصبح العنوان والقصيدة كجناحيْ الطائر يحلق بهما الإبداع، فلا يمكن التخلي عن أي منهما، وبذلك لم يعد العنوان مفتاحا تأويليا فقط، بل أصبح جزءا لا يتجزأ من النص بحيث يشكل حذفه انتقاصا للمعنى وبترا للدلالة، ومع تلاقي هذين الجانبين/العنوان والنص تتشكَّل مرآة رؤية المتلقي لحركة المعنى؛ ليكتشف ماذا يعني كونه/المتلقي في العاصمة من وجهة نظر الشاعر/النص الذي يقدم خلاصة تجربته الطويلة والعميقة والمتأملة لحياة العاصمة وأهلها، ولكن يتبادر إلى الذهن سؤالٌ مؤداه: لمن يوجِّه الشاعر/النص حديثه؟ لندخل بذلك في اشتباك فكري عميق يحمله الخط السردي في القصيدة الذي يمتد صعودا وهبوطا؛ لينسج خيوط القصيدة بإتقان متموِّجا أحيانا؛ كي يخفي انشطارات الروح المبدعة وسط هذا الكم الهائل من الضجيج العالي الصوت والأجوف، ومتماهيا أحيانا مع فكر تشكَّل عبر سنوات طويلة أن الرحلة من الهامش إلى المتن هي رحلة من الوجود إلى العدم، أو من اليقين إلى التوهم، ومتكئا أحيانا ثالثة على مجموعة من العلامات الركائز التي تعيد للرؤية توازنها، وللنفس اتزانها. لقد كان الشاعر مدركا تماما أن العنوان جزء من النص، وليس فقط مجردَ هادٍ يهدي المتلقي في دروب القراءة، وتضاريس الشعاب والأودية التي تشكل جسد القصيدة كما يتلقَّاها الفهم الواعي، والقراءة المتأملة في محراب النص، ومن ثم كان لجوء الشاعر إلى هذا الاختيار الواعي للعنوان إشارة إلى ضرورة الانتباه بأن العنوان نصف الدلالة والقصيدة النصف الثاني انطلاقا من كون الجملة اسمية يشكل العنوان – المصدر المؤول – مبتدأها والنص خبرها.
وإذا كان المصدر المؤوّل – العنوان – هو التّركيب النّاتج من حرف مصدري ويليه جملة فعليّة، ويدلّ على معنى مجرّد ومقيّد بزمن الفعل فإننا هنا أمام اختيار واع للعنوان، ودالٍّ في الوقت نفسه؛ فاستخدام الفعل المضارع في العنوان دالٌّ على التجدد والاستمرار وكأن حالات النزوح إلى العاصمة متجددة ومستمرة رغم ما يعانيه معظم هؤلاء النازحين من أشكال متعددة من القهر والضياع، والتيه في الدروب الفكرية الغامضة والمتنوعة للعاصمة، وما يعانيه بعضهم من تهميش لمنتجهم الإبداعي رغم إدهاشه وجِدَّته، ولكن العاصمة لا تعترف في معظم الأحيان بذلك؛ فهي لها مقاييسها الخاصة، ثم استخدام الجار والمجرور – في العاصمة- المتعلق بالفعل الدال على الانغماس في حياة العاصمة بكل تناقضاتها وانحيازاتها الفكرية والجمالية، وضجيجها الإعلامي والفكري على العكس من حياة الهوامش المتكئة على الهدوء والتفكير المتزن والعلاقات الفكرية الواضحة والمترابطة. إن العنوان يحمل دلالة التنوع والتجدد والاستمرار. وقد ذهب بعض البلاغيين إلى أن التعبير بالمصدر المؤول أقوى من جهة الدلالة المعنوية، وفسَّروا بذلك قوله تعالى (وأن تصوموا خير لكم) وغيرها من الآيات الوارد فيها المصدر المؤول، فقالوا: "المصدر المؤول من (أن) وما دخلت عليه أقوى من جهة الدلالة المعنوية كما في قوله تعالى(وأن تصوموا خير لكم) فهو أدعى إلى استحضار معنى الصوم، فينكفُّ الصائم بذلك عما يبطل الصيام أو يخدشه، فذلك أبلغ من قولك في غير القرآن: صيامكم خير لكم"، وإذا أخذنا بذلك فإن التعبير بالمصدر المؤول في العنوان هو أبلغ في الدلالة عن المراد من التعبير بالمصدر الصريح، وهو أدعى إلى استحضار معنى الوجود في العاصمة بكل تداعياته، ما يحمله ذلك من دلالات ونتائج، فإذا أضفنا إلى ذلك ما قاله النحويون أمثال سيبويه، وأجازه ابن جني من أن المصدر المؤول يكون معرفة تتكشف الدلالة أكثر، فالإقامة في العاصمة نتائجها معروفة، وما يتحدث عنه النص لا يخفى على أحد، بل هو ظاهر للعيان في كل شيء، ومن ثم فإن العنوان هنا يحتوي على دلالات متعددة، فهو دال على التجدد والاستمرار من خلال استخدام الفعل المضارع، وهو دال على المعرفة؛ لأن المصدر المؤول معرفة بحكم استخدامه للضمير المستتر في الفعل (تكون) وهو كذلك أقوى في الدلالة المعنوية من المصدر الصريح.
حركة المعنى وإنتاج الدلالة:
إن المتأمل في القصيدة وحركة المعنى فيها، وتموجات الدلالة المتخفية وراء شبكة العلاقات اللغوية يكتشف أنه يمكن تقسيم القصيدة إلى أربعة مقاطع تمثل حركة المعنى عبر محطات أربعة، ويعبر كل مقطع عن ملمح من ملامح حركة المعنى في سيرها من المنبع/مطلع القصيدة متجهة إلى المصبِّ/خاتمة القصيدة؛ لتعبر بذلك عن حركة الفكر المتموِّجة في اللاشعور الإبداعي لحظة تشكُّل النص.
- 1 –
لا أحد يسأل من أين هبطت
فقط
أنت هنا والآن
يمثل المقطع الأول على قصره المدخل الرئيس لمعنى النص الكلي، وهو يمثل تكملة لمعنى العنوان، والتقدير (أن تكون في العاصمة لا أحد يسأل من أين هبطتَ .. فقط أنتَ هنا والآن) يشير المقطع إلى أن الأسئلة المحددة للمكان لا وجود لها؛ لأنه يعتبر أن سكان المدينة في الأصل وافدون عليها، وأن المدينة خليط من الأماكن المختلفة، ومن ثم فإن السؤال عن المكان الآتي منه من يهبط المدينة سؤالٌ عبثي، وقد تشكلت الجملة – لا أحد يسأل – من حيث البنية النحوية من جملة اسمية منفية باستخدام (لا) النافية للجنس، وهي التي عرَّفها النحاة بأنها التي يُقْصَدُ بها التنصيص على استغراق النفي للجنس كله، وهذا يقودنا إلى البنية المضمونية للجملة، إذ تشتمل على عنصرين (أحد) و (يسأل)، والنفي هنا ليس متوجِّها إلى السؤال، ولكنه متوجِّه لمن يسأل (لا أحد) أي أن السؤال في حد ذاته مشروع؛ للتعرف على المكان الذي جاء منه الشخص الهابط إلى المدينة/العاصمة من أجل تشكيل تصوُّر عام عن نشأته والعناصر المشكِّلة لشخصيته، والمؤثرة في تكوينه النفسي والفكري والإبداعي، ومن ثم انحيازاته الفكرية والجمالية؛ فكل ذلك يختزله المكان إذا نظرنا إلى مكوناته وقضاياه المؤثرة في المقيمين فيه، ولكن لا يوجد أحد يهتم بالسؤال؛ لأنه لا يوجد أحد يهتم بالتكوين الفكري والانحياز الجمالي، أو القضايا التي يمكن أن تكون مؤثرة في إبداع الشخص، أو تحتل مكانا مركزيا في تفكيره، فلا أحد يهتم بذلك، ولذلك عبَّر الشاعر بقوله (أنت هنا والآن) إن هذا التعبير يختزل في داخله البنية العميقة لفكر المدينة وانشغالاتها، وما يمكن أن يؤثر في أفرادها، ويوجِّه خياراتهم المختلفة، وقد عبَّر الشاعر بقوله (فقط) وهي كلمة مكونة من الفاء وقطّ بمعنى فحسب، وهي عادة تقترن بالعدد حَتَّى لا يُزَاد عليه فتكون بمعنى لا غير، وكأن الشاعر يريد القول بأن الاهتمام بكونك موجودا في المدينة ولا شيء غير ذلك، فكونك أصبحت في المدينة هو التحقق الفعلي، وكل شيء غير ذلك لا وجود له في ذهن الإنسان؛ لأن المدينة ستمحو كل وجود قبلها، وسوف تشكِّل وجودها الخاص بكل ملامحه وانحيازاته المتنوِّعة في ذهن أهلها المتواجدين فيها، ومن ثم فإن هذا المقطع على بساطته يبدو مختزلا داخله البنية الفكرية العميقة لعقل المدينة وأهلها.
- 2 –
دع أسمالك
وطوِّح بكل ما جئت به
كقروي ساذج
وجنوبي يشمخ بلهجته
ويستدفئ بموهبته
سيصطادونك منبهرين
ويصنعونك علي أيديهم
لتكون ابن العاصمة
الذي لا يشق له غبار حكاية
أو تتصدع له جدران قصيدة
ثم يأتي المقطع الثاني ليشكل زاوية مهمة من زوايا الرؤية التي تتمحور حولها الدلالة، ويبدأ المقطع بفعل الأمر (دع) بمعنى اترك، وهذا الفعل تحديدا له مخزون خاص في الذاكرة الإبداعية؛ إذ إنه استخدم في الحديث عندما كان الشاعر القديم ينتقل من الحديث عن الأطلال إلى المديح، أي ينتقل من غرض شعري إلى غرض شعري آخر يمثل حلقة منفصلة تماما فكريا ووجدانيا، فالحلقة الأولى تتحدث عن جانب نفسي عزيز على الشاعر/المحبوبة وأطلالها، وله مكانة في النفس؛ إذ يذكره بالحبيبة وأيام الصبا والأهل والأصدقاء والأحباب، ولكنه ينتقل إلى غرض شعري آخر يمثله الواقع الذي ينبغي أن يجاري فيه الشاعر الحياة بكل تقلباتها فيمدح من قد لا يستحق المدح أحيانا طلبا للنوال المادي الذي يقتات عليه، ويقيم أوده، ويمكن مراجعة ذلك عند كل من زهير بن أبي سلمى وسلامة بن جندل وعنترة بن شداد من العصر الجاهلي، وعند العباس بن مرداس والقتَّال الكلابي وأوس بن حجر وحسان بن ثابت وخداش العامري من الشعراء المخضرمين، وعند أبي دهبل الجمحي والأخطل والحارث المخزومي والفرزدق وذي الرمة وغيرهم كثير من العصر الأموي، وتتوالي أسماء الشعراء؛ فهو إذن يمثل نمطا عاما، فإذا أخذنا بهذا التأويل فإننا نرى أن استخدام لفظ (دع) يحيلنا إلى مرحلتين فاصلتين في حياة الإنسان الذي يهبط العاصمة: الأولى مرحلة عزيزة على نفسه تشكلت فيها ملامحه الوجدانية وانحيازاته الجمالية وتوجهاته الفكرية، والثانية مرحلة التخلي عن كل ذلك من أجل الانتساب إلى حياة جديدة لها ملامحهاالمختلفة وانحيازاتها البعيدة عن المرحلة الأولى، وهو ما عبَّر عنه الشاعر بقوله (دع أسمالك) واستخدام لفظ (أسمال) يدل على التكييف لهذه المرحلة/مرحلة التشكُّل الأولى، فلفظ أسمال هي الثياب القديمة البالية، وهي تدل على الفقر الشديد، وهذا يعني أن الانتقال إلى العاصمة مرحلة فاصلة بين حياتين، حياة الفقر الشديد بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ومرحلة جديدة مختلفة، ثم ينتقل الشاعر إلى أمر آخر (وطوِّح بكل ما جئت به) ومعنى (طوِّح) ألق به بعيدا، ثم يأتي لفظ (كل) الدال على العموم؛ ليشمل كل ما جاء به من أفكار وتوجهات وانحيازات مهما كانت مكانتها عنده فلابد أن يلقيها بعيدا ويتخلص منها؛ لأن المدينة سوف تشكِّل له شخصية جديدة تماما، ومن ثم فلا حاجة لكل ما يمتلكه من أفكار ونظريات وانحيازات وتوجهات، ثم تأتي التشبيهات لتشكل جزءا من بنية الرؤية لهذا القادم، فهو قروي ساذج، وجنوبي يشمخ بلهجته ويستدفئ بموهبته، لكنهم ليسوا في حاجة إلى كل ذلك؛ لأنهم سوف يصنعونه على أعينهم، ففي البداية يصطادونه منبهرين، ولنا أن نتخيل ما في لفظ (يصطادونك) من دلالة، فالصيد لابد له من إغراء (الطعم الذي يوضع في السنارة) وهو الانبهار الذي يبدو عليهم لإقناعه بمكانته عندهم، ثم تبدأ عملية التغيير (يصطنعونك على أيديهم) أي يشكِّلون شخصيته التي يريدونها؛ ليكون ابن العاصمة، وهنا تبدأ مرحلة التحول والتغيُّر التي ستمحو ما مضى وتعيد برمجة الشخصية وفق احتياجات وأطر العاصمة، فيكون ابن العاصمة الذي لا يشق له غبار حكاية أو تتصدع له جدران قصيدة، وهنا لابد من إعادة النظر فيما تخلى عنه، فقد تخلى عن كونه قرويا بسيطا نقي السريرة صافي النفس (ساذج) أو جنوبيا يتباهى بلهجته وموهبته، لقد تخلى عن كل ذلك، تخلى عن سذاجته/نقائه وصفاء سريرته، وتخلى عن موهبته ولهجته، فالعاصمة لا تحتاج إلى ذلك، ولكنها تحتاج أن يكون ابن العاصمة الأمين على ملامحها التي غرستها فيه، وهنا فقط سيستمع الجميع إلى حكاياته مهما كانت تافهة، وسينشدون قصائده مهما بلغت من السوء؛ لأنه ابن العاصمة.
- 3 –
فقط
بضع عناوين لأسماء كبيرة
وهرطقات من دارت برأسه الخمرة الرخيصة
خذ سيجارة
واستمع لخوار العجل
الذي طوَّح بالكأس كممثل فاشل في مليودراما فجة
أو كمودي الذي فعل المستحيل كي " يخرج من جلباب أبيه"
بالكاد ستكون مسخا
أو ولدا متوحدا
بعد أن جرت عليك كل أفاعيل العاصمة
التي طوتك كمنديل بلَّله العرق
وبصقتك تترنح آخر الليل كقصيدة مرتبكة
كنغم شاذ
كإردواز مكسور في كُتَّاب القرية
كصوت أمك المتحشرج وهي تسأل عنك في النزع الأخير
وأنت تهش الضباب برأسك
وتستنكر خبر وفاتها
لأنها قدَّت من صخر الصبر
وقوة اليقين
اليقين الذي بدده رفاق التشيؤ
وخيالك العاجز عن الوثوب
يأتي المقطع الثالث ليرصد ملامح حياة العاصمة وتشكلات أبنائها، ويبدأ المقطع بلفظ (فقط) لتكون بمثابة الخيط الذي يمكن أن يكون رابطا بين الملامح المشتركة بين أبناء العاصمة (بضع عناوين لأسماء كبيرة/وهرطقات من دارت برأسه الخمرة الرخيصة/خذ سيجارة/واستمع لخوار العجل/الذي طوَّح بالكأس كممثل فاشل في مليودراما فجة/أو كمودي الذي فعل المستحيل كي " يخرج من جلباب أبيه"/بالكاد ستكون مسخا/أو ولدا متوحدا/بعد أن جرت عليك كل أفاعيل العاصمة) هكذا تكون الحياة في العاصمة وصناعة الشهرة، ما عليك إلا أن تذكر بعض الأسماء الكبيرة، وتتفوَّه بكلمات غير مترابطة ولا مفهومة كما يتكلم المخمور الذي لعبت برأسه الخمر، فلم يعد يعي ما يقول، ثم يعرض على من بجواره سيجارة، ويستمعون إلى ما يلقى من إبداع/خوار العجل، هو إبداع لا ملامح له، ولا فكر ولا وجدان، ولا إجادة لشيء فهو كالممثل الفاشل في ميلودراما فجة، فكل شيء لا علاقة له بالإبداع، أو كمودي الذي حاول الخروج من جلباب أبيه وهنا يحيلنا الشاعر إلى رواية (لن أعيش في جلباب أبي) ولكن يحيلنا فيها إلى التخلص من مرتكزات الفكر التي شكَّلت ملامح الشخصية في الموروث الثقافي والفكري والاجتماعي والديني، إنه التخلي عن منظومة القيم كاملة، فيصبح بذلك مسخا، أو مريضا بمرض التوحد، إنها أفاعيل العاصمة (بعد أن جرت عليك كل أفاعيل العاصمة) ثم يبدأ الشاعر برصد ما فعلته العاصمة في ذلك المبدع الذي هبط عليها ليحقق وجوده فإذا به يتحول إلى مسخ، لقد حوَّلته العاصمة إلى (منديل بلَّله العرق/وبصقتك يترنح آخر الليل/كقصيدة مرتبكة/كنغم شاذ/كإردواز مكسور في كُتَّاب القرية/كصوت أمك المتحشرج وهي تسأل عنك في النزع الأخير/وأنت تهش الضباب برأسك وتستنكر خبر وفاتها) هكذا غيَّرت العاصمة ملامحه، وأفقدته كلَّ شيء، فتحوَّل كالمنديل الذي تبلل بالعرق، ومع ذلك بصقته العاصمة في الليل غير متوازن في تفكيره ولا وجدانه، وغير راضٍ دائما، مشوَّه الرؤية والتفكير، ومستنكرا لأي شيء مهما كان واضحا أمامه، ومنكرا لليقينيات ومتعديا على المسلمات، ويدعي أنه يبحث عن التنوير، ويدعو إليه/ وأنت تهش الضباب برأسك وتستنكر خبر وفاتها. لقد كانت المدينة الفاعل الحقيقي والكاسب الفعلي، أما هو فسوف يرحل كما رحل غيره وسيأتي آخرون؛ ليمروا بالتجربة نفسها ويصلوا إلى النهاية نفسها، وتظل الدائرة تدور، وتطحن كل من يختار المدينة فتنسخه وتمسخه؛ ليتحول في النهاية إلى لا شيء، ثم ترصد نهاية المقطع المقارنة الكاشفة حين يقول الشاعر (كصوت أمك المتحشرج وهي تسأل عنك في النزع الأخير/وأنت تهش الضباب برأسك وتستنكر خبر وفاتها/لأنها قدَّت من صخر الصبر/وقوة اليقين/اليقين الذي بدده رفاق التشيؤ وخيالك العاجز عن الوثوب) هنا المقارنة بين مرحلتين، مرحلة ما قبل العاصمة التي اتصفت بقوة اليقين والصبر والتباهي بالموهبة واللهجة وصفاء السريرة ونقاء النفس، ومرحلة العاصمة التي اتصفت بتبدد اليقين والخيال العاجز عن الوثوب، فاليقين بدَّده رفاق التشيؤ، الباحثون عن المكسب المادي على حساب الموهبة والساعون إلى السيطرة والتحكم، وعجز الخيال نتاج طبيعي للتخلي عن الموهبة فلم يعد الخيال قادرا على الوثوب؛ لأنه تخلى عن أهم ما يجعله يثب ويحلق، وهو الموهبة، ثم يأتي المقطع الرابع والأخير ليكون كاشفا للحقيقة، إنه يمثل لحظة التنوير التي تنكشف فيها الحقائق، وتتعرى الملامح المتخفية، وتسقط الأقنعة في مشهد درامي كاشف ومؤثر.
- 4 –
فقط
عندما تصحو
علي رصيف الوقت الذي وكزك
كي تغادره بعيدا عن الركب الرسمي
حيث كل الصور باهتة
والمجاز أجهز عليه القوادون
ولصوص الفيس
والنصوص الخرساء
وحيث تزدحم الأسواق بالنقاد الأوغاد
وحاملي الدكتوراة مجهولة المصدر
فقط
تذكر دائما :
أنك في العاصمة
تتجلى الحقائق في هذا المقطع بوضوح، فبعد مرور الوقت، واستيقاظ النفس على قرع لحظات العمر الهاربة، والوصول إلى المحطات التي تتكشف فيها الأمور، وتبدأ رحلة المغادرة للركب الرسمي، وهنا يستخدم الشاعر الألفاظ الحادة جدا، والكاشفة لملامح المشهد الثقافي برمته في الوقت نفسه (حيث كل الصور باهتة والمجاز أجهز عليه القوَّادون ولصوص الفيس والنصوص الخرساء وحيث تزدحم الأسواق بالنقاد الأوغاد وحاملي الدكتوراة مجهولة المصدر) تبدو كل صور المشهد سلبية للغاية، وحادة (القوَّادون –لصوص –النقاد الأوغاد –الدكتوراة مجهولة المصدر) يبدو المشهد هنا عبثيا للغاية؛ فالكل يساوم، والكل يدمر في المشهد الثقافي، ولا أحد يبحث عن الإبداع الحقيقي، والكل مزيَّف، فالأسواق مزدحمة بالنقاد الأوغاد المضللين الذين يلبسون الحق بالباطل والباطل بالحق من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية، وكل شيء عندهم قابل للمساومة ما دامت هناك منفعة شخصية، وإلا فلا قيمة لإبداع أو فكر لا استفادة شخصية من ورائه، والتزوير يطال أصحاب القامات الفكرية الذين يفترض بهم ضبط إيقاع الفكر والثقافة، ولكنهم أيضا واقعون في دائرة الاتهام؛ فهم حاملو دكتوراة مجهولة المصدر، والمقصود بالدكتوراة الإشارة إلى أصحاب الشهادات العلمية الذين يقع على عاتقهم المتابعة الدقيقة والواعية للمشهد الثقافي برمته، ولكنهم أيضا واقعون في دائرة الاتهام في إشارة واضحة للتزوير/الدكتوراة مجهولة المصدر، سواء عن طريق السرقات العلمية التي أصبحت أخبارها معروفة بين الجميع، أو تزوير الشهادات نفسها، وهنا لابد من الإشارة إلى أن الشاعر يتحدث عن بعض أصحاب الشهادات العلمية وليس جميعهم؛ لأنه يتحدث عن الذين يصنعون ضجيجا كبيرا دون إنتاج فكري حقيقي، ويشاركون في تشويه المشهد الثقافي. لقد جاء المقطع كاملا يدين المشهد الثقافي بأكمله، وكل عناصره، فلا أحد ينجو من الإدانة، ولذلك يختم الشاعر المقطع بعد كل هذه الملامح السلبية بقوله (فقط تذكر دائما أنك في العاصمة) لقد جاء المقطع الأخير من القصيدة بتموجاته وأنسجته اللغوية المختلفة كاشفا عن المشهد الثقافي في العاصمة بكل ما يحمله من سلبيات من وجهة نظر النص، ومدينا لكل آليات العمل الفاعلة في هذا المشهد، وواصفا العاصمة بأنها مكان لتدمير المواهب وتحويلها إلى مجرد مسوخ ما تلبث أن تستبدلها عندما تفقد بريقها، ومشروعية وجودها.
وسوف نتوقف في الجزء الثاني من الدراسة أمام التشكيل اللغوي للنص محاولين تفكيك شبكة العلاقات اللغوية التي ساهمت في إنتاج الدلالة، كما سنتوقف أمام التشكيل البلاغي للنص، ودوره كذلك في إنتاج الدلالة، وفي النهاية سنتوقف أمام المفاهيم المهيمنة على النص في محاولة للإمساك ببعض المفاهيم الفكرية التي شكَّلت ملامح الرؤية التي دار حولها النص.
أن تكون في العاصمة
لا أحد يسأل من أين هبطت
فقط
أنت هنا والآن
دع أسمالك
وطوِّح بكل ما جئت به
كقروي ساذج
وجنوبي يشمخ بلهجته
ويستدفئ بموهبته
سيصطادونك منبهرين
ويصنعونك علي أيديهم
لتكون ابن العاصمة
الذي لا يشق له غبار حكاية
أو تتصدع له جدران قصيدة
فقط
بضع عناوين لأسماء كبيرة
وهرطقات من دارت برأسه الخمرة الرخيصة
خذ سيجارة
واستمع لخوار العجل
الذي طوَّح بالكأس كممثل فاشل في مليودراما فجة
أو كمودي الذي فعل المستحيل كي " يخرج من جلباب أبيه"
بالكاد ستكون مسخا
أو ولدا متوحدا
بعد أن جرت عليك كل أفاعيل العاصمة
التي طوتك كمنديل بلَّله العرق
وبصقتك تترنح آخر الليل كقصيدة مرتبكة
كنغم شاذ
كإردواز مكسور في كُتَّاب القرية
كصوت أمك المتحشرج وهي تسأل عنك في النزع الأخير
وأنت تهش الضباب برأسك
وتستنكر خبر وفاتها
لأنها قدَّت من صخر الصبر
وقوة اليقين
اليقين الذي بدده رفاق التشيؤ
وخيالك العاجز عن الوثوب
فقط
عندما تصحو
علي رصيف الوقت الذي وكزك
كي تغادره بعيدا عن الركب الرسمي
حيث كل الصور باهتة
والمجاز أجهز عليه القوادون
ولصوص الفيس
والنصوص الخرساء
وحيث تزدحم الأسواق بالنقاد الأوغاد
وحاملي الدكتوراة مجهولة المصدر
فقط
تذكر دائما :
أنك في العاصمة

١٧ أكتوبر ٢٠١٤



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى