زهير الجبوري - شعرية البوح في (ما أقوله للنحات)

تعد تجربة الشاعر أنمار مردان من التجارب الشعرية التي تتمتع بتناسق استعادي للقصيدة الحديثة ، لما تحتويه من ضوابط الكتابة في تفاصيل المجاز والمفارقة ومهارة البناء في صياغة الصور ومتعة الصدمة عبر فضاءات واعية ، ولعل مجموعته الشعرية الجديدة (ما أقوله للنحات /2020) برهنت على ذلك واعطت انموذجاً يكشف عن وعي متعالق والمرحلة التي تظهر فيه القصيدة برونقها عند المتلقي ، ومثل هذه التجربة تنبأ عن حضور خصب للشعرية الراهنة ، بمعنى حضور قصيدة بأدراك معاصر بعيدا عن ملاحقة ظواهر التجريب وشعرية ما بعد النص ، إنما وجود شعرية متماهية مع مسرودات نثرية ملامسة للذات المنتجة والمنحازة الى الأثر الشخصي ، وكثيرا ما تكون تمثلات الذات ، تمثلات منمقة بلغة واصفة وبلمعان البناء والوصف ، لأمر يعود الى الجذر الذي نشأ فيه الشاعر والظروف التي جعلت منه أكثر إناقة في رصف القصيدة ..
(ما أقوله للنحات) ، مجموعة شعرية تفصح عن (أنا الشاعر) ، وعن الوصف المحيطي للشخوص والأماكن ، لذلك جاءت جميع القصائد وهي متساكنة مع ذاته ، وهنا تكمن موهبة (انمار مردان) في كتابته الشعرية ، بوصفها شديدة الحساسية في اطار المضمون ، لا تنطوي على تنميق مبهرج للّغة ، بل في اطار عميق / قصدي ، يستنهض من خلاله المعنى والقضية والمراحل التي تنسرح في تفاصيل حياته ، كلّها نصوص شعرية عكست تجربة فيها احساس وجودي عالي ، انطلاقا من الأهداء (الى/ أخي عادل / رحمه الله) ، وصولا الى موضوعات وتفاصيل اخرى ، لذا نقرأ في القصيدة الأولى (فوبيا) ما يجعل الأحساس بالرغبة أكثر انسراحاً لـ(أنا) الهائمة في لذة الأسئلة: (أريد أن أنتشر كثيراً مثل الوباء)، (أريد أن أقفز مثل قرد/ كي أقوم بتحديث رأسي وأكون انساناً) ، (أريد أن اتشظى) ، (أريد أن اكون حارس مرمى) ، ثم (أريد كل شيء) ، فعل الارادة يكشف عن وجود بنى دلالية وجودية / واعية ، بمعنى حضور عقلي ملموس فيه فكرة الرغبة ذاتها..
أضف الى ذلك ما تثيره رمزية المواقف ، حيث تضعنا بعض قصائد المجموعة في استبيان لحالات لها مساس بذات الشاعر ، وهنا تصبح المواقف نصوصا شعرية خالصة كالقصائد (9/12/2004، ما أقوله للنحات ، ولوحتي وما نفذ منها ، وانتظريني) ، فهي تعكس عن طريق لعبة الكتابة (شعرية البوح) الخفي والمعلن معاً ، نقرأ (الى أخي عادل):
لماذا لمْ تَقلْ لي
إنَّ جثمانكَ حياةُ قادمةُ .(ص13)
او حتى في مقطع آخر، نقرأ تلك النزعة المتماهية مع حالة الرثاء الرمزي المتناظر مع المقطع الذي امامنا حين نقرأ:
لمْ تروِ لنا ..
كيف نقلت موسيقا النجوم وسيلة دعاء. (ص13).
في مثل هكذا وصف ، يكشف عن محنة المراثي عبر ترف لغوي مجازي ، يقترب الى صياغة الصور الشعرية بالشكل الذي يهيج به الحس العاطفي / السنتمالتي ، فالمسافة بين فراغ الغائب وذات الشاعر ولدت شعراً ، فكان البديل عن الاحساس بالفقد ، أما في قصيدة (لوحتي وما نفذ منها) ، تظهر ملامح (المنولوج) على درجة كبيرة مع المهدى إليه (الفنان حيدر علوان)، فالبوح الشعري يفرز استبطان الشاعر ، نقرأ:
أنا مهذبٌ اليوم معكَ
أخاف من الضجيج على لوحتي
وأخاف من تدفق أوهامي .. وهماً بعد وهم .(ص33).
وفي قصيدة (ما أقوله للنحات) ـ عنوان المجموعة ـ نقرأ: (كُنْ واثقاً مني / لنْ أرسم شبحاً في ضحكةٍ محذوفة) (ص19) ، ولعل هذا المنولوج يعكس لعبة التماهي مع الذات المنتجة للبوح ، او التي تصرّ على حالة الكشف عن ذات الشاعر وأناه الطافحة في جميع النصوص.
ومن السمات التي تميزت بها المجموعة ، انها تمتعت بتنوعها المضموني ، وهنا نمسك بـ(شحنات خارجة من الضوء) وهي تعد تجربة داخل تجربة فشحنة (1) المعنونة بـ(ضبابة قيثارة ناعسة) تتناظر مع الشحنة (2) المعنونة بـ(كلّ النساء بقايا) ، وعلى الرغم حضور الحس الأيروسي في الأولى ، وانحساره في الثانية ، الاّ انه يقف على مسافة واحدة في الجانب الفني لكتابة القصيدة ، فحين نقرأ (ايتها الغجرية / كيف صنعك الخالق / خطط وجهك بنجمة / وكتب على النجمة / الأستعمال لخمرة واحدة فقط..)ص73، يقابله في الثانية (بعدك كل النساء بقايا / يهجرن جمالهنّ في اصبعك)ص74.
تجربة الشاعر انمار مردان في (ما أقوله للنحات) ، تمثل انتباهة كبيرة لجيل فهم لعبة الحضور في الساحة العراقية ، لما افرزته من أثر واضح يردم الهوة (الجيلية) التي لازمت الشعرية العراقية لعقود ، ولست بصدد قراءة واقع الفكر الثقافي/ والأدبي وسقوط الآيديولوجيا بقدر ما نتلذذه من شعرية معاصرة تصل الذائقة ..


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى