أمل الكردفاني- البزنس..

"معرفة بلا مال..تنطع..
مال بلا معرفة..همجية"..

قبل أسابيع، كنا نتحدث عن التكنولوجيا الحديثة، لقد بدرت إلى ذهني فكرة اختراع عربات تسوق رقمية، ففي أي سوبر ماركت ضخم، هناك صناديق متحركة، يتم وضع السلع فيها، والفكرة ببساطة هي أن يكون على ذلك الصندوق جهاز رقمي، يقوم بحساب قيمة السلع، ويقوم المشتري بالدفع مباشرة عبر ذلك الجهاز ببطاقة الدفع خاصته. وهكذ تنتهي مشكلة الازدحام في صفوف الكاشير. وأرسلت الفكرة فوراً لصديقة مصرية عبقرية في هذا المجال ولها قرابة سبع براءات اختراع في أمريكا، وتحصل مقابلها على آلاف الدولارات من البنوك الأمريكية الضخمة.
لكن الصديقة خيبت أملي، فاختراع عربة التسوق هذه قد تم بالفعل، بل وتم انجازه وتسويقه، وارسلت لي الفيديو.
ولو فكر المرء في أكثر الأفكار جنوناً لوجد أن الأمريكان قد وصلوا لها قبله، فلماذا يصل الأمريكان قبل الآخرين؟
المسألة ببساطة؛ هي أن كل شيء يتم ربطه بالبزنس. إن كل من يملك قدرات يربطها مباشرة بالتجارة. وسنرى أن الشعب السوداني رغم ضعف قدراته وخياله، لكنه في الواقع ذكي في مجال ربط كل شيء بالتجارة. أي بالمال، أي بالربح. وهذا ما حدث مؤخراً نتيجة للضائقة الاقتصادية من ناحية، ونتيجة للتحولات في القيم الاجتماعية من ناحية أخرى. لقد أصبح شخص كحميدتي معبود النساء، ولا ولن تتردد أي امرأة في قبول الزواج به، لأنه اليوم ملياردير (بالدولار). فثقافة الرأسمالية انبثت في عمق الوعي السوداني، وانتشر صائدو الجوائز ومنقبو الذهب GOLD DIGGERS. وهذا المصطلح الاخير يطلق في الأساس على الفتيات اللائي يبحثن عن علاقات جنسية بناء على صفقات مالية لا عاطفة حقيقية.
أصبح المجتمع يؤسس علاقاته على شبكة معقدة من المصالح. لقد أدركت أن لجنة التفكيك ستؤول للفشل -وهذا ما حدث بالفعل- بسبب تلك الشبكات الواسعة من العلاقات المنفعية المتبادلة. لقد انتجت اللجنة منقبي ذهب جدد، بعد نهاية الصف الأول والثاني من منقبي الذهب من الإسلاميين بعد الثورة.
المشكلة الأساسية، كما أسلفت هو أن هناك فقر في الخيال والإبتكار، يضاف إليها الرغبة في الثراء السريع وبدون مجهود. وكلتا المشكلتين أفرزتا نظاماً منهاراً، ودولة فاشلة وشعب غير منتج، وبالتالي ضعف الصادر، وكثرة الوارد، وفوضى الاستهلاك.
لو ذهبت للخليج فلن تجد هذا الكم من النساء اللائي يقدن سيارات فارهة كما في السودان. رغم أن المنطق يقول بأن المائة الف دولار -وهي قيمة اقل سيارة فارهة- تحتاج لإنتاج أضعاف منها للحصول عليها كربح يمكن تبذيره في سيارة كهذه. لقد سخر الناس من المطربة عشة الجبل لأنها حصلت من قبل أحد المريدين على سيارة لا تقل عن ٢٣٨ ألف ريال سعودي (٧٢ الف دولار). وعشة لم تنتج شيئاً يستحق كل ذلك. ولكن لو كنا منصفين، وراقبنا الواقع على الأرض، فهناك من يملكون ملايين الدولارات، وليس لديهم أي إنتاج حقيقي يوازي ثرواتهم، كما أن قدراتهم نفسها لا تعين على الحصول على تلك الملايين في دولة هي نفسها فقيرة الإنتاج.
مع ذلك؛ فربط القدرات بالربحية هو ما يدفع أولا بتطوير تلك القدرات، وثانيا لتحقيق الأرباح. فنحن في عصر الرأسمالية، التي يكون فيها من يملك معرفة (علمية او فنية أو سياسية) وهو مع ذلك مفلس، مجرد حمار لا يعتد بوجوده كبشري. فالتقييم على أساس المال، أضحى هو التقييم الغالب بل والأقوى، ومن يقول بأن المال ليس كل شيء، يجب أن ينظر لمن يموتون بلا علاج لامراضهم في السودان ومن يدخلون مستشفى رويال كير لعلاج أضراسهم.
لذلك فأمريكا تتطور بسرعة جنونية، وتتكدس فيها ملايين من براءات الإختراع، لأن كل صاحب قدرة يربط قدرته بالربح. فلا شيء مجاني هناك. أما الشعب السوداني، فلا زالت الأغلبية المخدوعة تنتظر أن تدفع لها امريكا او دول الخليج مليارات دون مقابل لإنقاذ الانحطاط السياسي والإقتصادي الراهن. وهذا ما لن يحدث. فيجب أن نكون واقعيين.
قدِّم شيئاً لدول العالم، لتقدم هي بدورها شيئاً لك.
لديك مال ستشتري قصراً وتتزوج وتنجب وتنام على سرير واسع ببطانية حنونة الملمس. كن فقيراً ستنام تحت السلم. ولا بواكي عليك.
هذا هو النظام العالمي الجديد.
لقد بدأت العديد من الدول الأوروبية برنامج الليبرالية الجديدة، وقلصت الدعم الإجتماعي، أو عرقلته بشروط كثيرة ومعقدة (أنظر قوانين الدعم الإجتماعي في أوروبا). وشيئاً فشيئاً سيختفي الدعم الإجتماعي تماماً.
الربط بين القدرات والمال، هو الذي جعل كل أمريكي، يفكر بعمق للاستفادة القصوى من مقدراته، فحتى ممارسة العادة السرية استفاد منها الكثيرون وكتبوا مؤلفات او صنعوا فيديوهات لشرح أساليبها الصحيحة. وأي رسام تجده ينشئ مدرسة عبر الانترنت online للاستفادة من قدراته، ومثله في ذلك السباكون والحدادون والخزافون، والخبازون...الخ...
ستجد في السودان آلاف المعاشيين من أصحاب الخبرات والقدرات، لكنهم من الجيل الكلاسيكي، الذي يتعنت في رفضه الدائم للتعامل مع الحداثة الراهنة. ولذلك هم غير منتجين، بالرغم من أنه كان بإمكانهم بيع قدراتهم تلك حتى لحظة وداعهم الأخير.
إن كل إنسان يبيع قدراته، الطبيب والميكانيكي، والمثقف، والمؤرخ، والشاعر،...الخ. فهذه سمة العصر. فالقدرات التي لا تتحول لنقود، هي قدرات عاطلة. وغالباً ما لا تتطور.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى