حاتم عبدالهادى السيد - فنجـان شـاي في الطريق الجديد للشاعرة / إلهام عفيفي

مهتم أنا جدا بوضع الأمور في نصابها، حيث أصابتنا العدوى الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر ولا زالت الإصابة حتى الآن بدعوى العلمية، والحق أن هذا هو المسموح به من العلوم لكي يصل إلينا ليصبح العقل العربي وبخاصة المصري عبارة عن موجة على الشاطئ الغربي تتلون بسمائه وتنطق حروف اللغة العربية من مخارج غربية.
وقلة من قلة هم الذين دخلوا العباءة الغربية وخرجوا منها وهم يتمسكون بمخارج حروفهم العربية وأفكارهم أمثال طه حسين وزكي مبارك ومحمد عبده وإبراهيم أنيس، إلا أن جموع النقاد وخاصة الجدد منهم يحاولون أن يحترفوا حفظ أسماء النقاد الغرب وبعض مقولاتهم باعتبار أن ذلك سوف يعطيهم سلطة على العقل العربي، وبالفعل حققوا أهدافا كثيرة فلازالت البنيوية تسير في الوطن العربي في سياراته وسفنه وطائراته، بينما ذات الكلام الذي قاله عبد القادر الجرجاني وابن طباطبا العلوي وحازم القرطاجني وابن قتيبة وغيرهم منذ إمام النقد العربي عثمان بن بحر الجاحظ وحتى عميد الأدب العربي طه حسين.
لست أدري لماذا تذكرت هذا كله حينما طالعت قصيدة "فنجان شاي" للشاعرة إلهام عفيفي وهي تفتح طريقاً جديداً للشعرية العربية من خلال فكرة بسيطة وهي نقل الخيال إلى الواقع عكس ماهو متبع في الشعر العربي؛ فقد اعتمد الشعر العربي طوال تاريخه على إعادة ترتيب الواقع باستخدام الخيال، ليصبح الواقع الفني متماساً أو متوازياً أو متطابقاً مع الواقع الحقيقي، وأصبح الأمر عادياً وقامت عليه البلاغة العربية من تشبيه واستعارة ومجاز وبيان وبديع، ولا ينكر أحد أن البلاغة العربية قدمت للمجتمع العالمي فكراً جديداً ولا زالت تقدم، خاصة بأفكار العباقرة أمثال من ذكرت أسماءهم سابقاً.
فالشاعرة قدمت نصها لتفتح باباً كان مسدوداً أمام الشعرية العربية وهو ترتيب الخيال بالواقع عكس ما هو متفق عليه في الشعرية العالمية، وهذا يجعلنا نقف مع أنفسنا مرة ثانية لندرك ان الشعرية العربية مرتبطة بإشعاعات الألفاظ التي لا تنتهي، وسوف ندرك ذلك حينما أقدم للقراء نص "فنجان شاي" للشاعرة إلهام عفيفي والتي تقول فيه:-
لا تســألي عن حالتي.. لا تســألي
جـــــــاء المساء وأنتِ لستِ بمـنزلِ
هل قد علمتِ ما نقولُ لبعـضنا؟
أنا والشراشفُ والحريرُ المَخملي
أنا والوســائد والتـكايا وحـزنـنا
حــــــتى القـلائد والمـرايا تبص لي
لاتسـألني عـــــن حــالنا في غـربةٍ
عطشى وينتظرونَ ماء الجدولِ
إنِّي أرى المصـباحَ يبكي بحـرقــةٍ
والضوءُ يخــــبو فيهِ كي لا ينجلي
حتى النوافذُ لا تصافحُ شمسَها
ستظـــــلُّ مظــــلمةً إلى أن تُقـبلي
رنِّي عـلينا في الهـواتف كلهــا
نشتاق اسمك أن يطل وتسألي
فنجانُ شايكِ لم تتمي شربَـــه
هلْ تسمعينَ رجاءَه : ها أكملي
الآنَ تجــــلسُ في مــــــكانكِ لـهفتي
وينامُ طيفكِ فوقَ سقفِ تخيلي
والذكرياتُ تثورُ من حــــــولي هنا
هيا اطفئي المصباحَ كي لاتخجلي
للوهلة الأولى يبدو ان الشاعرة تبني على أساس تراثي أصيل من نغم الكامل متفاعلن التي تأتي بتسكين الثاني المتحرك لتكون متْفاعلن في معظم التفعيلات وتصر على أن يكون الكامل تاماً لتعلن أنها ملتزمة بالأصل الموسيقي العربي، كما تبدأ بالشعرية كأنها مسرودة يومية فتقول:
"لا تسألي عن حالتي" وتكرار كلمة لا تسألي ليست للتاكيد؛ ولكن الأولى طلب والثانية تَرَفُق، وهذه المسرودة تُبنى على علاقات منطقية في البداية حيث تتلبس الشاعرة روح الحبيب الذي غابت عنه حبيبته وكان من المعتاد أن تتعانق روحيهما وكرسيهما في المساء؛ فهو يصف حالة الوحدة في شكل من أشكال المونولوج الداخلي مسرحياً والسرد الذاتي اليومي قصصياً ووزن بحر الكامل شعرياً وهذا إعلان من الشاعرة أن الكلمة يمكنها أن تقدم مجموعة فنون داخل النص الشعري فإذا كان المسرح يأخذ من الشعر نصوصاً لتكون في المسرحية وتتفاعل مع النص المسرحي، وكذلك الرواية والقصة القصيرة؛ فإن الشاعرة هنا عكست الموضوع فجعلت الشعر يأخذ من المسرح والرواية والقصة القصيرة ليكون كل ذلك داخل النسيج الشعري في حالة من حالات العلاقات المتشابكة، والذي يقرأ النص باعتباره شعراً خالصاً يصبح متوهماً خالصاً، ثم تدلف الشاعرة إلى علاقة الموجودات بالغائب عنها وهي علاقة لا يستطيع أن يفصح عنها إلا ذوق القدرات الاستثنائية في الشعر؛ فهناك حديث بين الحاضر والستائر والقلائد والوساد والمرايا، هذا الحديث لم تذكره الشاعرة وكأنها تقول للمتلقي أن الموجودات حولنا لها لغة يمكننا أن نتفاهم بها إذا كان الارتباط حسناً.
وبدلاً من إعادة تركيب الواقع بالخيال تقوم الشاعرة بترتيب الخيال من خلال الواقع فتأتي صورة فنجان الشاي الذي يبكي ويستعطف وكأن صوته مسموع بأداة التنبيه "ها" وبلفظة الترجي والاستعطاف "أكملي"، مما يجعل للفنجا مشاعر استمتاع حينما تمسك الحبيبة به وتلتقي الشفتان ليكون الاستمتاع متبادلاً فالحبيبة تستمتع بشايه وهو يستمتع برشفات من حبها، وحينما تتوهج حالة الشوق يبحث المحبوب فلا يجد على كرسي المحبوبة سوى لهفته هو، ولا ينقذه من هذه اللهفة التي امسكت به سوى طيف المحبوبة الذي ينام فوق سطح خياله فالشاعرة أخذت الواقع لتشكل الخيال، وفي النهاية ترفق بالمتلقي فتصنع ضفيرة واحدة من خيطين هو خيط الخيال الأكبر وخيط الواقع الأصغر فتقول في النهاية "هيا اطفئي المصباح كي لا تخجلي".
إن الإمساك بالخيال من خلال الواقع أمر صعب جدا، ولكنه ليس مستحيلاً ويحتاج إلى تدريبات عقلية وذهنية تبنى على تبديل المحسوس بالمتصور والمعقول بالمتوهم، وليس في هذا ابتكار إلا إذا كان يحمل بعداً نفسياً لتوجيه المتلقي.
لا زال هناك بين شعراء العرب الحقيقيين من يجيدون صناعة القوارب المتينة من الضياء الرقيق، ولكنهم قلة.

حاتم عبدالهادى السيد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى