د. عبدالجبار العلمي - مكونات الخطاب السردي في رواية « رواء مكة » للروائي المغربي حسن أوريد

[SIZE=22px]تتألف رواية " رَواء مكة " للروائي المغربي حسن أوريد أو السيرة الروائية كما جنَّسها ، من سبعة فصول يُعنى المؤلف بوضع عناوين دالة على مضامينها ، وهي كالتالي : ومضات ـ ذبذبات ـ همزات ـ إشراقات ـ البشائر ـ تداعيات ـ الحنين إلى مكة. ويقوم هذا العمل السيروائي على سرد لا يخلو من تشويق، يعتمد على تداخل الأزمنة وتقنية الارتداد والنصوص المضمنة ، ويزخر بالمحكيات والشخصيات وتوظيف التاريخ والأحلام.[/SIZE]
حين قرأت هذه السيرة ـ الروائية ، تذكرت بعض روايات الروائي المصري محمد عبدالسلام العمري ، خاصة روايتيه " قصر الأفراح " و " اهبطوا مصر " ؛ ذلك أن ثمة كثيراً من نقاط الالتقاء بينها وبين هاتين الروايتين ، لاسيما ما يتصل بالرؤية النقدية لواقع المجتمع السعودي في تلك البقاع المقدسة ، ومدى معاناة الإنسان من الفقر والقهر وفقدان الحرية ، فضلاً عن مظاهر سلبية أخرى كثيرة عاينها المؤلف أثناء حجه ، وعبر عنها بكثير من والصدق و المرارة وعدم الرضا ، وحزَّ في نفسه ما شاهده من سلوكيات متخلفة لبعض الحجاج ومن انحراف عن روح الدين الإسلامي الحنيف، نجتزئ بذكر بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر: سلوك بعض الحجاج المنافي لشروط شعائر الحج ـ سوء فهمهم للدين الإسلامي الحنيف الداعي إلى الإخاء والمساواة والتسامح والتكافل بين المسلمين ، فكأنهم البنيان المرصوص ـ التناقض الصارخ بين الأحياء الفقيرة المتسخة وبين الفنادق والعمارات الفاخرة القريبة منها " أحياء متسخة وبنايات متآكلة وفوضى عارمة ، لا يفصل هذه الأحياء عن عمارات الفنادق الفارهة سوى شارع ـ إهمال بعض الأماكن التاريخية في المدينة. يقول المؤلف السارد متسائلاً: " أما كان خليقاً الاعتناء بهذا المكان عوض أن يكون شبيهاً بأسواقنا الأسبوعية ؟ ـ نقد تغيير وجه "المدينة" ومعالمها وزحف الإسمنت وخردة الصين التي تملأ الأزقة والشوارع .." ( ص : 105 ) . إن الكاتب لا ينظر إلى واقع ما يحدث بالحج نظرة العوام البسطاء التفكير ، بل ينظر إليه نظرة نقدية ناتجة عن معرفته بحقيقة الدين وبأهداف الحج وشعائره الصحيحة؛ لكنه رغم ما كانَ يوجهه من انتقادات لمختلف الظواهر السلوكية والاجتماعية والتنظيمية وغيرها في موسم الحج، إلا أننا نجده موضوعياً في انتقاداته وأحكامه في العديد من الفقرات والمقاطع السردية ، فيحدثنا أيضا عن مواقف إنسانية صادفها في حجه ، وكان لها تأثير كبير في نفسه لأنه كان شاهداً عليها. يتعلق الأمر مثلاً بحادث إنقاذ امرأة عجوز فتىً كادَ يموتُ من ألمٍ أصابَه وسط الزحام في مِنىً ، منبها من خلال ذلك إلى ما ينبغي أن يسود بين المسلمين من رحمة وشفقة وتآزر.
والحقيقة أن صاحب السيرة الروائية، أحاط بالعديد من مظاهر التخلف وجهل مُعْظمِ الحُجَّاج شَعائرَ الحَج ، حيثُ تم إفراغ بعضِها من محتواها الرمزي كرمي الجمرات على سبيل المثال. يقول السارد الشخصية: " كنت أقرأ في وجوه الكثيرين الحبور وازدهاءَ مَنْ سدَّدَ غرَضاً وأصابَه. متعةُ لاعِبٍ رياضي أو عسكري سدَّدَ هدفَه " (ص : 115 )
إن الأمر هنا لا يتعلق بشخص من عامة الناس عاد إلى رشده بعد غيٍّ وضَلال ، فقصدَ إلى حج بيت الله ، معلناً توبته النصوح. فمن يقرأ هذا السيرة الروائية المتميزة ، سيعرف بكل بساطة أن صاحبها تلقى تربية دينية تقليدية في أكناف أسرة محافظة بالجنوب المغربي بقصر السوق ( الراشدية حالياً )، وعتبة الإهداء تؤكد الأثر البليغ الذي تركته هذه النشأة في مسيرة حياته. جاء في كلمة الإهداء : " إليهم ( يعني الوالد والوالدة والجدة ) الفضل على بدء النشأة تحت ظلال القرآن وهذا العود لنبع الإسلام. " ( ص : 7 ) . وشاءت الظروف أن يتابع دراسته في المعهد المولوي بالرباط بفضل اجتهاده ومؤهلاته ونبوغه المبكر، ويتقلدَ بعد تخرجه مناصبَ عُليا في السُّلْطة ، ثم ينشأُ في نفسه قلقٌ وُجودي وصراعٌ نفسي مرير ، فطفقَ يبحثُ عن ملاذ لروحه الحائرة بين الجاه والسلطة والحياة المترفة ، وبين التفرغ للكتابة والتدين والتصوف والعمل في مجال التعليم . هذا رجل مثقف قرأ لكتاب العبث والوجودية ( كامو وسارتر .. ) ، كما قرأ كتابات طه حسين حول الإسلام، وغيره من الكتاب والمفكرين اليساريين والمستنيرين أمثال ( حسين مروة مهدي عامل ـ الطيب تيزني ـ ـ عبدالله العروي و عابد الجابري ) . يقول في إحدى الفقرات السردية : " لا إمام إلا العقل كما يقول المعري ، ولا هادي سوى الغرب ، أقول. " ( ص : 26 ) ، ثم نجده يتساءل: " هل يمكن أن تصرف الحياةُ بالعقل وحده ؟ " إنه مثل كثير غيره من المثقفين الذين اطلعوا على أدبيات الوجودية والماركسية والليبرالية والعلمانية كانت تعرف هيمنة كبيرة في عهد صباهم وعمرهم الغض ،فاجتاحَتْ عقولَهم ونفوسَهم الحيرة ُوالقلق ، فطفقوا يبحثونَ لهم عن مستقر روحي ما.
من الجدير بالملاحظة أن القراءة التي قُرئت بها هذه السيرة الروائية أول ظهورها، لم تُعِر الاهتمام إلا للمضمون أو المحتوى، وربما طغى عليها الطابع الدعوي، وتركت جانباً البنية السردية والنواحي الفنية التي تزخر بها، حيث كان جوابُها الأساس عن السؤال ماذا يقول النص؟ وليس عن كيف يقول؟ هذا ، فضلا عن أن هذه القراءة صنَّفَتْ النصَّ في جِنْسِ السِّيرة الذَّاتية التي يَحْصلُ فيها التَّطابقُ بين المؤلِّف والسَّارد والشَّخصية حسب التحديد المعروف لفليب لوجون. ( السيرة الذاتية ، ترجمة عمر حلي ، بيروت ، 1994 ، ص : 22 ) ، لكن المؤلف صنَّفَ عملَه السردي ضمن السيرة الروائية ، وهو ما نجده في الجانب الأيمن من الغلاف أسفل صورة الكعبة، فالميثاق الذي عقده المؤلف مع القارئ الضمني ليس أوتوبيوغرافياً ، بل هو ميثاق سيري روائي ، وهذا يعني أن عنصر التخييل سيكون حاضراً في المتن النصي، أي أن ثمة تصريحاً بالتخييل حسب تعبير لوجون ( م. س ، ص : 40 )
وسنحاول مقاربة البناء الفني لهذا العمل السردي من خلال مكونات الخطاب السردي التالية :
1 ـ تداخل الأزمنة وتقنية الارتداد : يُلاحظ أن السرد لا يتخذ مسيراً كرونولوجياً في السيرة الروائية . إن السارد ـ المشارك يستهل سرده في الفصل الأول بالحديث عن التوجه إلى الحج من مكناس مقر إقامته إلى مطار الدار البيضاء، ولكنه يعود بخواطره إلى الماضي قبل أن تتهيأ الظروف للسفر لأداء هذه الفريضة ، ثم يعود إلى زمن شبابه في مدينة إفران ليقدم أحداثاً تتعلق بأخيه عبدالله المتمرد وإصابته بالسكيزوفرينيا بسبب رؤية زميل له في الدراسة يتحول فجأةً إلى أشلاء أمام ناظريه جراءَ انفجار عبوة مسَّها من مُخلفاتِ حربِ التحرير الجزائرية ، ثم يعودُ بنا إلى مرحلة الطفولة في قصر السوق وتردده صحبة أخيه على كُتَّاب أحد مساجد المدينة. بعد هذا الارتداد الزمني المتنوع ، يعود إلى الحاضر ليتابع سرد حدث الرحيل إلى الحج " وَدَّعْنا الأهلَ والأصدقاءَ بالمطار وتأهبنا لركوب الطائرة " ( ص : 28 ) ، وهكذا يرتد السارد ـ المشارك من زمن ذهابه إلى أداء فريضة الحج سنة 2007 إلى الزمن الماضي نهاية أبريل 1997 قرب الانتخابات التشريعية في المغرب ، وقراره إنهاء شهادة الدكتوراه ، معتذراً عن العمل إلى جانب وزير الداخلية آنذاك .. إنه ينطلق من زمن الذهاب إلى الحج داخل الطائرة إلى ماضي حياته في طفولته ببلدته الصغيرة ، يتذكر جدته لدى نهوضها مع الفجر للصلاة ، ومرافقته إياها إلى زاوية مولاي عبدالله بن طاهر .. ( ص : 81 و82 ) ، وهكذا نجد أن الزمن في كل المتن النصي ليس خطياً متتابعاً ، بل يقوم أساساً على تقنية الارتداد وتداخل الأزمنة ، ما يتيح للسارد سرد العديد من المحكيات الصغرى تسجل مراحل حياته المختلفة سواء في بلدته أو لدى انتقال الأسرة إلى إفران أو سفرياته إلى الأندلس وفرنسا وغيرهما.
2 ـ النصوص المضمنة أو الأجناس التعبيرية المتخللة :
من الجدير بالملاحظة أن هذه السيرة الروائية تزخر بالنصوص المضمنة أو الأجناس التعبيرية التي تتخللها، وتتمثل في الشعر والقرآن الكريم والمذكرات أو اليوميات.
أ ـ أبيات وقصائد شعرية :
وقد ترد الأبيات مفردة أو عدة أبيات أو قصيدة كاملة، والملاحظ أن هذه الأبيات والنصوص تنتمي إلى كل عصور الشعر العربي من العصر الجاهلي إلى الإسلامي والأموي مروراً بالعصر العباسي وانتهاءً بالعصر الحديث في المشرق والمغرب ، وهكذا تحضر في المتن النصي أبيات للنابغة وطرفة والخنساء وحسان بن ثابت والحطيئة وجرير وعمر بن أبي ربيعة وبشار والشريف الرضي والمتنبي وشوقي وعلي محمود طه والشابي ومفدي زكريا وأحمد فؤاد نجم و محمود درويش في قصيدة " ذات يوم سأجلس فوق الرصيف " من ديوانه "أحد عشر كوكباً " الذي يتحدث فيه الشاعر عن الأندلس رمزاً لضياع فلسطين ، يقرؤها المؤلف بمناسبة زيارته الأندلس. إن السارد ـ المؤلف لا يورد هذه النصوص رغبة في إبراز ثقافته الشعرية ، بل يوظفها في أماكنها المناسبة كما في نص درويش ، أو في أبيات شوقي الذي يتذكرها حين دخل جامع قرطبة الذي تحول جزء منه إلى كنيسة : مررت بالمسجد المحزون أسأله / هل في المصلى أو المحراب مروان؟ / تغير المسجد المحزون واختلفت / على المنابر أحرار وعبدان / فلا الآذان آذان في منارته / إذا تعالى ، ولا الآذان آذانُ ، (ص : 76) أو في قصيدة للمؤلف نفسه تؤرخ لمرحلة بداية شكه واتجاهه إلى الفكر العقلاني الحداثي بتاريخ فبراير 1982 م.(ص : 22 ) ، ويبدو أن السارد ـ المؤلف كان يستحضرها من ذهنه ومفوظاته، ولم يكن يوثقها بالعودة إلى مصادرها ، لذلك نراه يخلط بين بيت لحسان بن ثابت وآخر لبشار ، حيث أورد الشطر الأول من البيت لثابت والثاني لبشار كما يلي :
لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحَى// وَأَسْيافُنا لَيْلٌ تَهَاوَى كَوَاكِبُهْ ( ص : 57 )
وأحسب أن ما وقع فيه المؤلف من سهو ،عند ذكر ديوان مدير ثانويته الشاعر المغربي محمد بن دَفعة على أنه بعنوان " زهور بلا أشواك " في حين أن الصواب هو " أشواك بلا ورد " ، يعود إلى الاعتماد على الذاكرة وحدها أثناء الكتابة وإيراد الشواهد والنصوص. ( ص : 87 )
ب ـ النصوص القرآنية :
إذا كان السارد ـ المؤلف لا يوثق في الغالب الأبيات والنصوص الشعرية التي ضمنها عمله السير ذاتي ، معتمداً على ذاكرته ومخزونه ومحفوظاته ، فإنه يحرص كل الحرص في النصوص القرآنية التي أوردها في الكثير من الفقرات السردية، على ذكر السورة ورقم الآية أو الآيات التي وردت ضمنها. ولكي يكون أكثر أمانة نقلها مصوَّرة من المصحف كما وردت فيه بالخط العثماني برواية حفص . والآيات القرآنية غالباً ما يتم إيراد ما يحث منها على الإيمان والاستقامة والتقوى والعمل الصالح والبر والإحسان، وعلى الرؤية الوسطية المنفتحة على الحياة دون إفراط ولا تفريط التي تلخصها الآية الكريمة:  وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ (سورةالقصص آية 77)
ج ـ النصوص التراثية العربية :
وتتضمن بعض النصوص التي كان لها أثر في تحوله الفكري والعقائدي ، نذكر منها تمثيلاً، نصاً من كتاب " المنقذ من الظلال " للغزالي( ص : 49 ) / الأمثال العربية والحكم المأثورة وقصص العرب. والملاحظ أن الكاتب يختار الأمثال والحكم التي لها دلالة الخيبة أو السخرية على واقعنا العربي الراهن أو الحث على اليقظة من أجل النهوض من الكبوة ، نذكر منها مثلاً : ـ " صيحة في واد ، ونفخة في رماد " ، ( ص : 59 ) ـ " إن قومي تجمَّعوا وبقتلي تحدَّثوا // لا أبالي بِجَمْعِهِمْ ، كلُّ جمعٍ مؤنثُ " ، (ص : 59 ) ـ " إذا هبتْ رياحكَ فاغْتَنِمْها // فلِكُلِّ خَافقَةٍ سُكُونُ ـ إذا دَرَّتْ نِيَاقُكَ فاحْتَلِبْها // فلا تَدْري الفَصيلَ متَى يَكُونُ ( ص : 60 ) . ويركز بخصوص قصص العرب على قصص الشعراء الصعاليك أمثال عروة بن الورد والسُّليك بن سلكة وتأبط شرا وغيرهم من الذين يمثلون قيم المروءة والشهامة والكرم. لقد أثبت كل هذه النصوص لأنها تحمل عبر لغتها " عبقرية نترسَّمُ آثارها ، عبقرية أمة كانت مادة الإسلام." ( ص : 52 )
3 ـ المذكرات المؤرخة :
يوظف السارد المذكرات ابتداء من ص: 97 إلى ص : 131 على امتداد فصل " ذبذبات " بدأ كتابتها بجدة يوم الأربعاء 12 ديسمبر 2007م ، وتوقف عن كتابتها بمِنًى يوم الأحد 30 ديسمبر 2007 م. والمذكرات زاخرة بالأحداث والمشاهد والمحكيات سواء في أماكن الشعائر المختلفة في مكة أو في المدينة . ولم تكن تخلو من مظاهر سلبية منافية لفحوى شعائر الحج ، يوجه الكاتب إليها نقده الصريح في كثير الأحيان ، كما أنها لم تكن تخلو كذلك من مظاهر إيجابية يلاحظها في سلوك حجاج بسطاء مفعمة بالأجواء الدينية الروحية المؤثرة.
4 ـ الشخصيات :
يمكن أن نقسم الشخصيات في " رواء مكة " إلى ثلاثة أنماط :
أ ـ الشخصيات المشاركة في الحدث الروائي : وهي : السارد ـ المؤلف ـ الأب ـ الأم ـ الجدة ـ أخو السارد عبدالله المريض ـ زوج السارد ـ ابنه إسماعيل ـ ابنته سامية ـ ابنته الكبرى سلمى الرجل الإسباني قيم صومعة لاخيرالدا بإشبيلية. ويمكن اعتبار الأب والأم والجدة والأخ شخصيات رئيسة باعتبارها المؤثرة في مرحلة طفولة السارد ـ المؤلف وصباه، فقد كان يعود إلى الحديث عنها في ارتدادات زمنية عديدة ليسرد عن مدى أثر هذه الشخصيات وخاصة الجدة في بناء شخصيته وزرع بذور الإيمان القوي في نفسه الفتية. وعتبة الإهداء معبرة بما لا مزيد عليه عن فضل النشأة الدينية المشبعة بالأجواء الروحية في عودته إلى حظيرة الإيمان.
ب ـ الشخصيات الأعلام : يمكن أن نقسم الشخصيات الأعلام التي ذكرها السارد ـ المؤلف في ثنايا نصه إلى قسمين :
الأول: مجموعة من خيرة أساتذة المغرب بالمعهد المولوي تلقى على أيدهم اللغة العربية وآدابها، وأمهات كتب التراث العربي شعراً ونثراً ، كما حفظ ما تيسر من القرآن الكريم، فضلا عن العلوم والمعارف الأخرى من تاريخ وفلسفة وعلم اجتماع وغيرها مما كان يلقن في هذا المعهد. وهؤلاء الأساتذة هم : الأديب الحاج أحمد بَّاحْنيني ـ المستشرق شارل بيلا المختص في أدب الجاحظ ـ اللغوي محمد شفيق ـ الفقيه عبدالرؤوف البرنوسي ( مدرس النحو ) المدني بن الحسني ( فقيه لغوي من رجالات الرباط ) ـ الفقيه المقرئ عبدالرحمن بن موسى " الذي كان مدرسة في التجويد" ( ص : 60 ) ـ أحمد بن سودة ـ عبدالكريم حليم ( مدرس " فيض الخاطر " لأحمد أمين وموسوعته المعروفة ). إن السارد ـ المؤلف يذكر باعتزاز وتقدير أساتذته الأفذاذ ، ويكبر فيهم غيرتهم على اللغة العربية وحرصهم على الحفاظ على قواعدها وجماليتها. إنه بذكره لهؤلاء الشخصيات الأعلام ، يود أن يذكر أفضالهم على تكوينه اللغوي والثقافي العام ، ويرسخ ذكرهم في ذاكرة الأجيال الآتية باعتبارها أمثلة ونماذج للأساتذة المربين الأكفاء المخلصين.
القسم الثاني : شخصيات علمية وأدبية وفنية ، ويذكر منهم على الخصوص الأسماء التالية : ـ الإنجليزي " ويلفريد ثيسيجر " الذي أحب قيم العرب الأصيلة واجتاز الربع الخالي ، وكتب كتاباً بعنوان " الصحراء العربية " سنة 1946 م. وعاين أثناء رحلته ما يتميز به عرب الصحراء من كرم وإيثار وغيرية. ( ص : 66 ـ 67 ) / الروائي إبراهيم الكوني الأديب الليبي (النِّحْرير) لتعبير الكاتب / عثمان بالي : شاعر ومغني من الطوارق من صحراء "جانيت" بالجزائر ( ص : 68 ) / علاَّ المغني الحيي من أبناء بشار الذي لم يكن يرفع عينيه تأدباً وحياءً ( ص : 68 ) ، والملاحظ أن السارد المؤلف يورد هؤلاء الشخصيات التي تنتمي إلى بيئة صحراوية قريبة من بيئة نشأته لميله إلى هذه القيم النبيلة والتأسف على غيابها في واقعنا العربي الراهن. يقول بأسى وألم " لن أشتط في القول ، فأقولُ مثلما قال عربيٌّ قح عبدالله القصيمي عن بني جلدته من أن العرب ظاهرة صوتية .. هم بقايا لشعب عريق ، وأمة صحيحة كما كان يقول عنها طه حسين " ( الرواية ، ص : 67 )
ج ـ الشخصيات التاريخية : هؤلاء الشخصيات ينتمون إلى بداية التاريخ الإسلامي هم الصحابة : عمَّار بن ياسر الذي مات شهيدا ، قتلته الفئة الباغية ـ سلمان الفارسي صاحب الخندق والباحث عن الحقيقة ـ بلال الحبشي مؤذن الرسول ـ صهيب الرومي . وقد استدعى السارد ـ المؤلف هذه الشخصيات ودخل معها في حوار ، وحين يدخل هنا في حوار مع شخصيات تاريخية يتحول " إلى شخصية روائية ، إلى صوت سردي بين باقي الأصوات " ( انظر أحمد اليبوري ،دينامية النص الروائي ، ص : 60 ) ، وهنا يبرز عنصر التخييل في هذا العمل السير وائي ، فيلتقي السارد ـ الشخصية ـ بين غفوة وصحوة ـ بعمار في مكة ، وَيُذكِّره أنهما التقيا بمِنًى قبلَ أربع سنوات عند صلاة الفجر . ويصير السائق الذي كان يشتغل عند السارد هو الصحابي سلمان الفارسي كما يقدمه له عمار بن ياسر ، ثم يصادف بعد ذلك بلِالاً مؤذنَ الرسول ويتعرف عليه ، ويضع رأسه على ركبته ، فتملأ نفسَه الراحةُ والسكينة ، وذلك قبل أن يصعد بالحبال التي وجده يفتلها إلى أعلى الكعبة ليصدح بالآذان . أما صهيب الرومي ، فيراه يطوف بالكعبة ويرفع صوته باللغة الإنجليزية منادياً بالنصر للفلسطينيين وغيرهم من المسلمين ، ثم يمسك يد السارد ـ الشخصية ويجس نبضه ليتجه إلى صاحبيه بلال و ياسر بالقول : " اضطراب عادي ، نتيجة تحولات عميقة ، ومخلفات سابقة سوف يعود إلى سيرته الأولى .. " ( ص : 220 ) . يقرأ بلال ما يتيسر من القرآن ، فيستفيق السارد ـ الشخصية وقد ذهب عنه الإحساس بالضيق والقلق والاضطراب : " فاستفقتُ واستويتُ ، كأنما أضحيتُ شخصاً آخر ، وقد تبدد كلُّ غمّ وغاضَ كلُّ هم"( ص : 220 )
في هذه الفقرات السردية يمتزج التاريخ بالحاضر الواقع بالخيال ، ويشيرُ المؤلف من خلال الشخصيات التاريخية ( الصحابة ) المتنوعة الأعراق والأنساب إلى أن الدين الإسلامي دين المساواة والوئام ، وليس دين تفرقة وانقسام.
يبقى أن نقول في الختام، إن هذا العمل السيروائي لحسن أريد، كُتِبَ بأناملِ روائي ماهر ، يمتلك أدوات فنه ، زاخرٌ بالمحكيات ، غنيٌّ بشتى صنوف المعرفة التي متَحها صاحبُه من مخزون ثقافي ثر . هل نقولُ عنه كما قال ابن العميد عن أدب الجاحظ " إنَّه يُعلم العقلَ أولاً والأدبَ ثانياً " ؟


* عبدالجبار العلمي / ناقد وشاعر من المغرب


نشرت الدراسة بالملحق الثقافي لجريدة " العلم " للشاعر محمد بشكار

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى