أمل الكردفاني- العبثية وتبدد العالم الثاني

لا يوجد بعث ولا حياة أخرى ولا آلهة..ندرك ذلك جميعاً ولكننا نختبيء وراء الأمل في عالم أفضل، لأننا نعيش مرة واحدة، وهي مرة واحدة بائسة جداً بلا معنى ولا جدوى. إما أن تكون مجرماً أو ضحية لمجرم. وأغلب البشر مجرمين وضحايا، فهم يمارسون الإجرام ويتعرضون له، وهذا ما يخلخل تقييمهم الذاتي لأنفسهم. والأهم؛ يجعلهم متناقضين فهم كاذبون وصادقون في نفس الوقت، أشرار تارة وطيبون تارة، حاقدون وكرماء، سذج ونبهاء.
من كل ذلك يتكون عالم الإنسان، وبدونه؛ لفقد فعاليته وبدا باردا كالقطب الشمالي.
نتيجة لعبثية وجودنا اخترعنا الآلهة، لتمنحنا شعورا بالنظام. غير أن ذلك الاختراع -فائق الذكاء- لم يحقق غرضه، لأن القوتين المتضادتين غير متكافأتين. ظلت الفوضى تعرقل النظام المتخيل، مما أدى لرسم صورة بشرية للآلهة، فالآلهة تغضب وتفرح، وتتألم، وتعذب وتعطي وتسلب، بل وتقتل كما تمنح خصوبة الولادة. فإذا كانت فكرة الآلهة تبدو كتبرير للوجود فعبثية الآلهة هذه محاولة أهم لتبرير فوضى الإنسان.
ولتحقيق معادلة أفضل، ظهرت المفاهيم التصوفية، التي تعطي الظاهر معاني باطنية كتبريرات جديدة. واستطاع التصوف معالجة الأزمة النفسية للإنسان. في حين أن التيارات التي لم تأخذ بالتصوف لجأت للعنف لدحر الفوضى الإنسانية داخل نفسها قبل أن تدحرها خارجياً، فرغم الإرهاب إلا أن أي إرهابي لديه ثقة عميقة بأن ما يفعله لن يغير شيئاً، ولن يتمكن من وضع الكون داخل نسق منظم واحد. من هنا جاءت معالجة الدين بفكرة العالم الثاني، حيث لا يشترط على الإرهابي أن يغير العالم، بل عليه أن يستفيد من عبثية العالم لكي يتمكن من الوصول إلى العالم الثاني الأكثر انتظاماً والأقل عبثية. فالإرهابي لا يهتم بما يحدث في عالمه بعد أن يفجر نفسه، بل بخروجه منه إلى حيث العالم الثاني. وهكذا فالتصوف خروج سلمي والإرهاب خروج عنيف، لكنهما يسعيان لنفس الغرض.
***
لم يكن ذلك هو كل شيء..
فالدين لم يكن الوسيلة الوحيدة للبحث عن غاية، بل كذلك الفنون والآداب. النقوش في كهوف الإنسان القديم كانت محاولة لتأطير الصورة المتناثرة، وحزمها في نسق. لذلك ارتبط الفن بالدين، الرقص والغناء، وحتى المسرح اليوناني، ونحت التماثيل، والنقوش على جدران المعابد، بل وهندسة بناء المعابد التي ابدع الإنسان في جعلها فانتازية لكي تكون دليل إثبات على الإلهام المبثوث من قبل العالم الثاني. وفي المقابل، كان هناك الفن الذي يحاول الانشقاق عن الدين، وإيجاد طريق وضعي له في الظلام. أي الإلتصاق بالوجود، والتأكيد على إمكانية تجاوز العبثية واللا جدوى دون حاجة إلى البحث عن مساعدة خارجية. وهنا بدأ الصدام بين الأسلوبين، المتعالي والوضعي. كل منهما يحاول أن ينسب النظام لقدرته. ويبدو أن فشل كليهما، وضع للبشر خيار البقاء في منطقة وسطى. ومع ذلك لم يحدث أي تجاوز حقيقي للعبثية واللا جدوى، ولكن حصل تقبل للواقع على نطاق أوسع. وإثر هذا التقبل نشأت العلوم الزائفة كالبرمجة اللغوية العصبية والتنمية البشرية، ومفاهيم الطاقة والجذب والتي تعيدنا لنظرية وحدة الوجود، والتفاعل بين كل الموجودات، بحيث تحدث استجابات متبادلة بين أعضاء الجسد الواحد. ثم جاءت فيزياء الكم لتؤكد التوجه الميتافيزيقي لإثبات الوحدة الكونية عبر الجسيمات الأصغر من الذرة والتي تتطابق جميعها. وهنا تبدأ رحلة عودة للآلهة ولكن ليس بالمفهوم الكلاسيكي، إنما بمفهوم جديد، غير انه لا يطرح أي عالم ثانٍ يمكنه أن يخفف من العبثية الإنسانية. تعمق الشعور بالعبث بدلاً عن ذلك، بعد تفجير القنبلة الذرية في اليابان، ثم الهوة الشاسعة بين الشمال والجنوب، وحدة فقر دول والثراء الفاحش للأخرى، مع ارتفاع معدلات الغزو الامريكي للشعوب وقهرها، ثم السيطرة على انظمتها الحاكمة أو تقويض من تقاوم الوضع الجديد. وهنا بدأ البحث عن عالم ثانٍ، ولكنه عالم موجود بالفعل فبدأت الشعوب الفقيرة بالهجرة إلى الدول الغنية التي أقفلت أبوابها في وجهها. أصبحت دول الشمال هي الفردوس المنتظر، ولكن هذا لا يعني أن الغرب تجاوز شعوره بالعبثية. بل كل مافي الأمر ان الشعوب الفقيرة، وجدت في الغرب وهماً تتشبث به مقابل انعدام العدالة السماوية التي كانت تنتظرها منذ مئات السنين. اما الشعوب الغربية، فقد وقعت في مصيدة أكثر خطورة، وهي علوم السيطرة الحديثة، لقد تحولت المؤسسات الاكاديمية إلى مؤسسات تقمع الحرية أكثر من الشرطة، عبر استخدام كافة العلوم الرياضية والنفسية والبيولوجية للسيطرة على البشر. فنشأت علوم السيطرة. إذ تتكامل كافة حقول المعرفة لتخدم السيطرة على الشعوب، ليس فقط العلوم الإنسانية والطبيعية بل حتى العلوم الزائفة كالسحر والتنمية البشرية، وصُّناع القيادات، وعلم التسلية، متضافرين جميعاً مع السيطرة الإعلامية التي تعتمد على تشتيت الانتباه الإنساني عن واقعه فيتخلص من قدرته على الحكم الصحيح على الأشياء وعلى واقعه، لتفرض عليه هي رأياً واحداً. ويبدو أن هذا قد أفضى إلى شعور ما بالنظام أكثر مما كانت تطرحه فكرة الدين.
ظلت الفلسفة -لأكثر من خمسة وعشرين قرناً- ترسخ للعبثية، بدءً من كهف أفلاطون، وانتهاء بالكانطية. ولذلك فهي لم تخدم أبداً في حقل الإنجاز الواقعي بل رسمت على وتر الميتافيزيقي مثل الأديان. فهي في نفس القارب ونفس مجرى النهر ولكن بوجهين متعاكسين.
لقد أفضت عبثية الإنسان إلى البحث عن النظام داخل التحيزات الهوياتية والجنسية والعرقية والقومية، فزاد رفض الآخر. وتوسعت الكلوم النفسية، وتباعدت الهوة. ليظهر الاستعمار بنوعيه، وتتشرذم الدول، وتنقسم، ثم تتجذر أكثر وأكثر.
انتهى عهد الابطال القتاليين في العالم بأسره والذين يقودون الحروب، وبدأ عصر جديد بلا أبطال. عصر شفاف جداً، وبارد جداً. تبدو فيه كل الإنسانية منهزمة...وغارقة في استسلامها للعبث الوجودي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى