أحمد القطيب - اِنطباعات حول قصيدة"وجه في المرآة" للشاعرة المغربية (مليكة معطاوي)

يروق لي في قصائد الشاعرة ''مليكة معطاوي'' بشكل عام، كونها اختطت لنفسها بصْمَتها الشعرية الخاصة ،التي صالحت بين الشعر المغربي المعاصر والرومانسية،بعيدا عن الحدة الفكرية،والهذيان الفلسفي،والتجريب الجاف، الذي يحيل القصيدة إلى كتابة لازمة وعبثية مهووسة بالغموض، بلا نبض و لاحياة، إذ لا شعر خارج دائرة التعبيرية،لأنها قدر الشعر الأزلي..وبقدر ما تفي الشاعرة لتيمة شعرية خاصة بندوب الأنثى وجراحها وأحلامها الوجدانية في الحب والحياة،فإنها تفي في منجزها الشعري أيضا لخصائص فنية لا يخطئها القارئ، كالتعبير بالصور الرمزية في وشاح مكتظ من الاستعارات،مع اعتماد الطبيعة منبعا لتوليد الرموز، فلا تجد لدى الشاعرة انفتاحا على الرموز التاريخية و الأسطورية التي تحتاج إلى ذلك التنويرالمضحك في الهوامش،العاكس لغربة القارئ العربي عن الميثولوجيات القديمة . ولا أكاد أذكر للشاعرة رمزا تاريخيا في حدود ما قرأت لها إلا (مريم العذراء) التي أسْطَرتْها مَذوبة في قصيدتها التفعيلية (صدى تناغيه الرياح)،دون أن تسميها ،نزولا عند مقتضى فني هو مناغاة أحلام الأمومة في غياب الآخر.
لا شمس تشرق
لارياح تهز جذع نخيلها
لاماء لابعض الثمار
لهفي على طفل هناك
ثم إن صورالشاعرة مليكة العربي قريبة الغور فنيا ،لا تنحو إلى أن تكون لازمة بلا قرار، ولا أن تكون متعدية إلى الواقع الموضوعي،أو شعر القضايا، فالولاء كله للذات ورغباتها وهواجسها،إلا أن نتوسع بالتأويل ونلبس ضمير المتكلمة في نصوصها توضيعا للأنثى عامة .وتتسم الصورة الشعرية لدى الشاعرة أيضا بالجدّة في التخييل؛ فلا تجد الشاعرة عالة على "ماركات مسجلة" في توضيب صورها الفنية الأخاذة،بل هي تمعن في تذويت المنظورات وعوالم الأشياء تحت سحابة إحساسها بالخواء والانتظار والتشاؤم واللهفة والإحباط،فقطب الرحى دائما هو العالم ((الجواني/الداخلي))، و تمرْئيه وانعكاسه الخارجي المتجلي في عالم الطبيعة والأشياء مضرجا بتلاوين النفس والعين اللاقطة...
أما الحوارية المزمنة في شعر مليكة معطاوي فهي بين ''أنا'' الشاعرة و''الأنتَ'' ،فمحاوَرها غالبا ذاتٌ مستحضرة من العدم ،تنسج عليها و على الاستحضار نزف الغياب ،ونداء الشوق والحنين، من زاوية منظور الأنثى الذي يندر فيما تراكم من شعر المراة الغزلي الوجداني في الشعر العربي، إلا بعض الاستثناءات لدى الشواعر المؤسسات للتجارب الحرة، لا تصل إلى حد الاختصاص.
وفي هذه القصيدة النثرية المنشورة أدناه تروق لي قدرة الشاعرة الفائقة في توليد الإيقاع دون الحاجة إلى البناء على التفعيلة؛طورِها الشعري الثاني ،فكل شيء في النص يخدم الإيقاع عبر التشاكلات الصوتية، والموازنات التركيبية، والمعجمية ،واختيارات التقفية (قرارْ+جدارْ+غبارْ+زمانْ+ غمامْ...)، واستثمار التوازي في توزيع مقولات الجملة الشعرية والتناسب في تقطيع الأسطر ،وتحديد أطوالها، دون أن نغفل عن دور تكرار اللازمة الشعرية على رأس كل مقطع شعري ..فتأمل معي البنى التركيبية المتوازنة في هذا المقطع التمثيلي الذي يمتد في الأصل إلى سبعة أسطر ،و تمتد بنيته التركيبية في مقاطع أخرى من النص ،لتجد توزيع المقولات ينبض بالتوازي كما يوضح القطع والضم في هذه البنية النحوية (جملة شرط+جملة جواب الشرط...(فعل+فاعل+مفعول به+نعت مفرد+جملة نعتية)
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت:
1/ خطى خائفة/+/ تتوغل في سراب
2)ودربا طويلا /+/تعدو فيه، رياح أحزان
3/وأغنية شاردة،/+/ تبحث عن قرار
وتأمل في غير هذا المقطع الشعري حيثما شئت، تجد بنيات مشابهة متبناة،تنحت المماثلات في تتالي المقولات ووظائفها .ونكتفي من ذلك بمثال ثانٍ يجسد التوازن في مواقع المفعول به متصلا بالمضاف إليه والجمل النعتية:
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت:
بقايا حلم.................(مفعول به مضاف+مضاف إليه)
+يسافر فوق غمام........(جملة نعتية+لواحق)
وعصافير شوق........(مفعول به مضاف+مضاف إليه
+ تقرع بابا....... (جملة نعتية)
أدمته الأغلال.......... (جملة نعتية)
وأطيارا في الدم +، تغرد........(مفعول به +جار ومجرور+جملة نعتية)
+تحمل إلى القلب ............(جملة نعتية +لواحق)
بعض أغانٍ وأشعار ........... (مفعول به+مضافان إليهما بواسطة العطف)
وليس بدعا أن تستكثر الشاعرة المقولات الوصفية (النعوت )،لأن القصيدة وصفية وجدانية،مع أن الحرص على الجمل النعتية أوالحالية ،بدل الوصف بالمفرد،يضخ في الوصف دينامية وديمومة بسلطان زمن المضارعة الطاغي .
ويروق لي أيضا في النص الشعري هذا النمو العضوي الحلزوني ،عبر استعادة اللازمة الشعرية (إذا رأيت وجهي في المرآة)التي تكررت سبع مرات بعدد الأيام والسماوات والأرضين، حطبا على المطلق ،وخدمة للإيقاع عبر التكرار على رأس كل لوحة شعرية ، فهي الكورال الغنائي الذي يفتل في كل مقطع اللحن المأساوي،و(الوجه) المذكور هنا هو زاوية التبئير طبعا؛ مبئِّرا ومُبَأَّراً،فهو الناظر والمنظور،من ذاتين ؛ (الشاعرة +والمتلقي المخاطب المفترض )،أما تفاصيله، فهي جزئيات الوجه الدالة ، على تجاعيد الزمن والحزن أولا ، قبل الانتقال إلى عالم الأشياء من حوله كما يراها هو، وكما يراها من يراه في المرآة ، لأن الوجه صار انعكاسا للمرآة، وعاكسا بمرآته الخاصة، فهو صفحة تمرءٍ كما تقول اللازمة،لتغدو القصيدة كلها مرآة تنعكس عليها المرايا في تردد متعدد الأشياء والأشباه والأبعاد، مربوطةً بوشاح واحد هو الرؤية التشاؤمية ، وتلاوينها الحزينة،لهذا تنمو القصيدة من ''الكلي'' إلى ''الجزئي'' ومن ''الجزئي'' إلى ''الكلي''.. ومن حيث زاوية النظر،تنتقل بنا من ''القريب'' إلى ''البعيد ''،ومن ''البعيد'' إلى ''القريب'' ،لأن كاميرا الرصد حولت النظر من (الذات) إلى (الأشياء والمنظورات) لتسكب إحساسها الحلولي على هذه المرئيات المنظورة والمتخيلة...فالوجه = ( +قسمات+ ألف جبين+تساؤلات على هدب+شفاه مصلوبة+ضفيرة مجدولة على أوهام+عيون منكسرة تطفو على سطح انتظار+جبين موشوم بأحلام من رماد+ووجه صغير ملقى على هامش الحياة) و الوجه أيضا ( بيت +ليل تيه+ خطى خائفة+أغنية شاردة+شمس مشنوقة+صبح دامع+خيول رغبة تركض خلف جدار+زوبعة من غبار+بقايا حلم+عصافير شوق+)ولعل هذه الترسيمة من لدني لم تحترم تصفيف الشاعرة للعناصر تماما ،واعتمدت على بعد التقسيم الحاد.أما القصيدة فقد شابكت أحيانا بين تفاصيل الوجه، وتفاصيل ما يراه، من خلال (العيون المنكسرة)،لأن العين واجهة العرض المزدوج بين الداخلي والخارجي،وهي التي تنظر إلى المرآة فترى وتُرى ،وتستدر معاني مما تراه، ثم تصدر الرؤية عبر الدعوة الموجهة إلى القارئ المفترض (إذا نظرتَ ...)فهي المسؤولة عن الإضاءة المضرجة بالسوداوية.أما وصلة الختام في النص فعود إلى تبئير الوجه الذي كان فاتحة انبلاج النص حين تقول الشاعرة ((ووجها صغيرا ملقى على هامش الحياة) فالوجه إذن هو العنصر المغرّض في القصيدة،ومصباح التأويل والسبر،وكوة الولوج إلى مقصدية المبدع ، ومفتاح الولوج في اللازمة المتكررة ، وقفل الخروج من النص ،الذي ليس سوى جملة شرطية موسعة موتورة بالتكرار،تبحث عن جواب الشرط ،فكان الجواب معقود النواصي بجوقة من المجيبين بصوت واحد،ومعنى واحد ،وتمرءٍ متعدد بتعدد المرايا ،مما تكسَّر على بيتٍ هدف هو البيت الأخير..لتتحول البنية ''الحلزونية'' في تشكيل المقاطع السبعة إلى بنية ''دورية مغلقة'' بلا فرجة انفتاح أو أمل، في السطر الأخير ،إلا فتيلة أمل مخنوق..
رأيت بقية حلم
يسافر فوق غمام
وعصافير شوق
تطرق بابا
أدمته الأغلال
وأطيارا في الدم
تحمل إلى القلب
بعض أغان وأشعار

ولنستمع إلى وصلة الختام تلك لندرك النهاية المتشائمة ، التي سحلت وميض الحلم السابق حيث تقول الشاعرة:

إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت عيونا منكسرة،
تطفو على سطح انتظار
وجبينا موشوما
بأحلام من رماد ..
ووجها صغيرا، ملقى
على هامش الحياة.
ودعنا نختم بتأمل بعض الصورالفنية التي تمد سلسالها بأشكال من التنضيد التركيبي كما سلف ، ولنقل إن الصورة هي الجملة الشعرية وهي المقطع،بتداخل وتساند تركيبي أبسط مظاهره الوصل بالعطف..
((إذا رأيت وجهي في المرآة رأيت ضفيرة مجدولة من أوهام وشمسا مشنوقة على بوابة زمان وصبحا دامعا أعدمه ضوء انكسار)).
إن هذا المقطع مثلا يمثل لغيره في الكشف عن التنامي العضوي للصور الشعرية بشكل يمنع اقتطاعها الجزئي ،لأن الصورة تتنفس في سياق محفوف بالتعدد ؛فها هنا صور رمزية مدخلها الإيحاء ،وتتجلى في كلمات مثل (الضفيرة+والشمس+ والصبح+ )لكن هذه الرموز متصلة العروق سياقيا بالاستعارات التجسيمية والتشخيصية ، فإذا الضفيرة مجدولة من (أوهام) وإذا بالشمس (مشنوقة)،وإذا بالصبح (يدمع)، و(يعدم) على ضوء انكسار،ثم إن الواوات التي تصل بين هذه الصور الفنية،تمارس الربط التركيبي والدلالي،لأن الصور تتفجر من بؤرة واحدة كما قلنا ،وهي الوجه في المرآة ،في كل لوحة من اللوحات السبع، التي تبدأ كلها بلازمة موحدة .
وتأمل أيها القارئ هذا المقطع أيضا فلن تخْلف الملاحظة السالفة
(إذا ما رأيت وجهي في المرآة+ رأيت عيونا منكسرة،+ تطفو على سطح انتظار+ وجبينا موشوما+ بأحلام من رماد)
فأنت ترى إلى صورتين موسعتين ، معقود بينهما بواو العطف ،وفي كل صورة ترى تنضيدا تركيبيا بين صور جزئية تتضام دلاليا ، و تركيبيا من وحي علاقات كالوصف والإخبار و الخضوع للتحكم العاملي، ولك أن تتخيل( عيونا منكسرة تطفو على سطح انتظار) فالصورة هنا من متعدد ، كالبرعم الذي يفتق الزهرة والأوراق،فيرى جماله في كليته لا في جزئياته
كما لك أن تتخيل (جبينا موشوما بأحلام من رماد) فما الذي يبقى من حرارة الأحلام إن كان مصدرها برودة الرماد،الذي لايعِدُ ببعث جديد،مما تصدّقه الأساطير ،لا المرايا.
وتأمل معي هذه الصورة وماتنبره من نداء أنثوي خاضع للقمع والمصادرة ،بتعبير محتشم وبليغ..
إذا ما رأيت وجهي في المرآة+رأيت خيول رغبة+تركض خلف جدار
واستمع إلى هذا المقطع حيث تقول الشاعرة :
/إذا ما رأيت وجهي في المرآة+ رأيت خطى خائفة+ تتوغل في سراب+ ودربا طويلا+ تعدو فيه، رياح أحزان +وأغنية شاردة، تبحث عن قرار/
فهل أحسست معي بنذُر الخوف والتيه والضياع ،من هذا المزيج المتدامج من الاستعارات/( رأيت خطى)(خطى خائفة)(تتوغل)(أحزان تعدو) أغنية شاردة)/ومن الرموز الموحية بتداعيها الحرّ/(سراب+درب طويل+أغنية)/ ، أو شعرتَ بأن أية مغامرة لتحليل جزئي للصور وأد لطاقتها الدلالية والإيحائية المتظافرة، لأن الصورة هي المقطع والمقطع هو الصورة، وما المقطع في معمار النص كما أسلفنا إلا لوحة صغرى من لوحات سبع تشكل جسدا واحدا ، في وحدة عضوية أسّس لها انسجام الموضوع الشعري، ووحدة الموقف النفسي والشعوري. ويكفيك أن هذه الصور المكتظة أفقيا وعموديا،تنسل كلها من رحم صورة أم هي الوجه في المرآة، وهي اللازمة التي تذكّرنا بهذا الانتساب الدموي ،على رأس كل مقطع شعري.

نص القصيدة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجهٌ في المرآة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت بيتا بلا أركان
وقسمات باهتة،
تجلس فوق دمار
وليلا من تيه، من جنون
ومن هذيان
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت ألف جبين مقطب
وآلاف التساؤلات على هدب،
ترتقب
وشفاها مصلوبة على جدار عمر،
قد رحل
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت خطى خائفة،
تتوغل في سراب
ودربا طويلا تعدو فيه،
رياح أحزان
وأغنية شاردة،
تبحث عن قرار ..
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت ضفيرة مجدولة،
من أوهام
وشمسا مشنوقة،
على بوابة زمان
وصبحا دامعا،
أعدمه ضوء انكسار ..
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت خيول رغبة
تركض خلف جدار
وزوبعة من غبار،
تلوث مرآة العين
تشعل حرائق بلا دخان
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت بقايا حلم،
يسافر فوق غمام
وعصافير شوق
تقرع بابا،
أدمته الأغلال
وأطيارا في الدم، تغرد
تحمل إلى القلب
بعض أغانٍ وأشعار
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت عيونا منكسرة،
تطفو على سطح انتظار
وجبينا موشوما
بأحلام من رماد ..
ووجها صغيرا، ملقى
على هامش الحياة ..
مليكة معطاوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى