أمل الكردفاني- سؤال طفولي

عندما كنت طفلاً في الخامسة، كنت انظر للاطفال الرضع واتساءل: هل يا ترى سيعرف هؤلاء معنى الجِمَال والتلفزيونات وغيرها مثلما انا اعرف؟
هذا السؤال البسيط لا زال يجذبني إليه كلما رأيت رضيعاً، رغم أنني رأيت العشرات من الرضع يكبرون ويتعلمون ويتزوجون وينجبون. لأكتشف اخيراً ان السؤال لم يكن يتعلق بالمعرفة، بل كان سؤالاً أنطولوجيا محضاً. سؤالا يتعلق بسر تنامي الوجود أو بصيغة أدق (تنامي الحضور في الوجود). فالإجابة للمعنى المباشر للسؤال: نعم كما حدث لك ولغيرك، سيكبرون وسيعرفون معاني الأشياء. ولكنها للسؤال الأنطولوجي لم تبلغها اي فلسفة بعد. تنامي الوجود..سيكبر هؤلاء ليعانوا في الحياة ويفرحوا ويشقوا ويسعدوا ويقترفوا الجرائم أو يكونوا ضحايا، حيث لكل واحد منا حبكة سردية معقدة. تضعه في عمق الحضور الواعي. لوالدك حبكته التي لم تعرف إلا مشاهدها الأخيرة، ولأمك، ولجدك، وباقي البشر الذين لم تخبر كل حبكتهم، اما ما خفي من حبكات سردياتهم فذات روابط بآخرين أحباب واصدقاء وأعداء ودول وأنظمة ومؤسسات وقوانين.. غابت في الماضي، ولم تشاهدها أنت ولم تخبرها، فأكدت الحاجز بين الأنا والآخر. وربطت بينك وبين أطراف خيوط من الزمان والمكان والأشخاص، عبروك بعدها أو عبرتهم..سيَّان.
ذلك السؤال وانا في الخامسة من عمري، كان وجوديا بلا شك، عبثياً بلا تردد، إكتآبياً بلا منازع. وعدمياً هايدجرياً. كان سؤالا: يعلن عن تفاهة ذلك الإنبثاق وقيمته الغامضة في آن واحد. كان سؤالاً عن المغزى (لماذا)، وليس الماهية (ما). فالماهية الصناعية والمغذاة باستمرار، مجرد صفات عارضة على الكينونة. أما لماذا، فهو السؤال المعلق بين السماء والأرض..السؤال الذي تغذيه الميتافيزيقا ولكنه لا يشبع.
وكنت انظر في وجوه الكبار، الشباب، فأرى الفناء فيهم اكثر من العجائز. فالأخيرون وصلوا لنقطة الأساس من الشاطئ الآخر، اما الشباب فعابرون للبحر.
ماتوا واحداً وراء الآخر، بأسباب لا قيمة لمعرفتها عندما تكون النتيجة الموت حتى ولو بجريمة قتل. وأرى نفسي اعبر وأعبر، أرى نقطة الاساس ليست بعيدة، وأرى الرضع قد كبروا وعرفوا التلفاز بل وما لم نكن نعرفه ولا نعرفه، وأرى الكثير من البشر يسعون لمعرفة المزيد والمزيد، ما عرفناه فعبرناه ونرى في البحث عن المعرفة به سذاجة، وما لم نعرفه ونرى في معرفته خطورة ما ولو كان غيرنا قد عرفه فعبره وهو ينظر لنا باحتقار الجاهل للعالِم وليس العكس.
كان سؤالاً انطولوجياً محضاً...
_____

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى