عبد الجليل الحافظ - قارع الطبل وطائر الليل( 1 ).. قراءة أسطورية

تدور القصة وعنوانها قارع الطبل وطائر الليل. حول وفاة هتمي قارع الطبل الأبرز وهو يقرع الطبل في ساحة العرس وهذه الوفاة حملت معاني متناقضة فالعرس ضد الجنازة والجنازة ضد العرس فرح جلب الحزن، وهتمي كشخصية أخذت أبعادًا متعددة لدى المخيلة الشعبية في قريته، فهو قارع الطبل وهو ليس أي قارع طبل بل هو الأميز والأبرع وهو يرفض دائمًا حد الخوف والخشية أن يتسارع الراقصون في خطواتهم ولكنه عجز في آخر مرة قرع فيها الطبل أن يوقف سرعة الرتم في الرقص، وانتهت هذه الرقصة بوفاته. ومن المعروف أنه في المجتمعات البدئية ارتبط قرع الطبول بأعمال ما ورائية، فكانت الحضارات القديمة تستخدم الطبول في المعابد والهياكل من أجل الصلوات المرتبطة بالآلهة، وكذلك لأجل التأثير في أنفس الناس المستمعين لها والسيطرة على قلوبهم(2)، وفي المخيلة الشعبية أيضًا ارتبط قرع الطبول ليس فقط بالاحتفالات ورقصة الحرب (العرضة) بل وكذلك بطقوس سحرية، وبرقصة أخرى هي (السامري) وهي رقصة شعبية في الجزيرة العربية تحمل في ثناياها الثقافية شكلًا سحريًا حيث يعتقد الكثيرون أنه خلال قرع الطبول فيها يتم استحضار "الجن" وتتلبس أفضل قارع للطبل فيها.
إن كل هذا الحديث السابق ينصب نحو هتمي قارع الطبل الأفضل والذي كان يخشى الرتم السريع في الرقص أثناء قرعه للطبول وحدث في آخر المطاف حين اشتداد حمية الرقص أن سقط هتمي ومات، وبسقوطه وموته امتناع طائر الليل من الحوم فوق ساحة الرقص حين تُقرع الطبول من خلال شهادة الشهود والراوي.
قصة قارع الطبل انتهت بسقوطه ميتًا في ساحة الرقص في تلك القرية، ومن بعد موته اختفى ذلك الطائر الليلي المجهول الذي كان يحوم حول ساحة الرقص كلما نزل هتمي لقرع الطبل فيها، وذكرنا أن هتمي كان يخشى سرعة خطوات الرقص ويمنع الراقصين عن ذلك إلا أنه في المرة الأخيرة لم يستطع منع صغار الراقصين وكانت النتيجة أن سقط هتمي قارع الطبل ومات، ومنذ تلك الليلة لم يشاهد أحدًا ذلك الطائر الليلي الذي كان يظهر مع قرع هتمي للطبل.
هنا تكونت قصة أخرى علينا أن نبحث عن سرها ومكنونها ومنتجها، من أين جاء ناصر الجاسم بهذه القصة وهل هي خرافة أم أسطورة؟ هل صنع ناصر الجاسم أسطورة داخل بنية قصته قارع الطبل وطائر الليل، أم صنع خرافة جديدة تنضم إلى أقاصيص الحكايات الشعبية؟
إن موت شخص واختفاء شخص آخر معه في ذات المكان والعنوان له علاقة ودلالة، فهذان الشخصان يظهران معًا في ذات المكان مع حصول ذات الظرف وهو الرقص وقرع الطبل، ومع اختفاء القارع وموته، اختفى الأمر الآخر وهو طائر الليل.
لماذا كان هتمي قارع الطبول يخشى سرعة الرقص ويمنع الراقصين عن ذلك ؟ لا يمكن لنا كقراء من وراء ستار الكلمات إلا أن نقول إنه كان يخشى سرعة الرقص ويخاف من تبعاتها وتبعاتها أنه مات ومع موته اختفى طائر الليل.
وكأن طائر الليل أنهى مهمته بموت هتمي قارع الطبل لهذا اختفى!!
واختفاء شخص حين موت شخص آخر في ظروف غامضة له دلالة أن له علاقة بموته، وخصوصًا أن الشخص الأول (هتمي) كان حال حضور الشخص الآخر كان يرفض ويمنع إجراء بعض الطقوس التي تعودت الجماعة عليها وهي الرتم السريع في الرقص من أجل إحضار الجان وكأن هناك ثأر بين هتمي والجان، ولهذا يخشى هتمي من حضورهم.
وحضور الموت أو الثأر مع وجود طائر ليلي يحيلنا إلى قصة قديمة يذكرها لنا صاحب كتاب "سوائر الأمثال على أفعل" حمزة بن الحسن الأصفهاني فهو يقول:
"وزعموا أن الإنسان إذا قُتِلَ من غير أن يطلب بثأره خرج من رأسه طائر يسمى الهامة، فأخذ يصيح على قبره ويقول: اسقوني اسقوني، فلا يزال صائحًا حتى يطلب بثأره.(3)"
هنا نجد علاقة بين طائر الليل في قصة قارع الطبل، وبين الهامة، وهي أن الهامة تخرج من رأس المقتول وتظل على قبره تصرخ طلبًا للثأر ولا تختفي إلا حين يأخذ بالثأر وتستقي من دم القاتل. فهل تطورت هذه الخرافة عند ناصر الجاسم لتصبح الهامة طائر ليلي يطلب ثأره بنفسه بدلا من الانتظار الذي لن يجدي أحيانًا فما كل قتيل نال أهله ثأره، فأخذت هذه الهامة بالتحول إلى طائر ليلي، وأحس هتمي قارع الطبول بأن طائر الليل قد جاءه لينال الثأر ولهذا كان يدفعه بألا يكمل خطوات الرقص ويمنع عنها الآخرين لكيلا يستطيع طائر الليل إكمال مهمته، لكن فيما يبدو أن عشق هتمي قارع الطبل لمهنته أقوى من الموت ذاته لهذا ظل مستمرًا في قرع الطبل إلى أن جاءت اللحظة التي قررها هو بنفسه وتسليم روحه لطائر الليل.
لكن إلى هنا وطائر الليل والهامة خرافتان، فهما من أحاديث العرب التي يقولها الشخص وهو يعلم أنها غير حقيقة، ويسمعها الآخر وهو يعلم أنها غير حقيقة.
هل بالإمكان أن نرفع مستوى البحث لنستدل على أصل لهذه الهامة وقبرها؟
بطبيعة الحال إن الهامة هو أحد أسماء البومة ففي لسان العرب في مادة (هوم) يقول ابن منظور: "وفي الحديث: أَن النبي، صلى الله عليه وسلم قال: لا عَدْوَ ولا هامةَ ولا صَفَرَ؛ الهامَة: الرأْس واسمُ طائر، وهو المراد في الحديث، وقيل: هي البومة. أَبو عبيدة: أما الهامَةُ فإن العرب كانت تقول إن عظام الموتَى، وقيل أَرواحهم، تصير هامَةً فتطير، وقيل: كانوا يسمون ذلك الطائرَ الذي يخرج من هامَة الميت الصَّدَى، فنَفاه الإسلامُ ونهاهم عنه... والهامة مِن طيرِ الليلِ: طائرٌ صغير يأْلَفُ المَقابِرَ، وقيل: هو الصَّدى، والجمع هامٌ (4)"
وبحكم كون طائر الهامة هو طائر يألف المقابر وهو الطائر الذي يطلب الانتقام لدم القتيل، فقد يكون لهذه الخرافة علاقة بالأصل القديم الذي تحدث عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ)(5)، فإن صح أن العقل البدئي – وهو احتمال وارد – قد أخذ قصة قتل قابيل لأخيه هابيل، ثم طور هذه القصة وقصة الغراب فيها ونسي الأصل الذي جاءت منه القصة الحقيقية ونسج من القصة الأصلية الحقيقية -بطبيعة الحال- بدلالة ذكر القرآن الكريم لها وأصبحت هذه القصة الأسطورية (أسطورة الهامة) لا خرافة الهامة لوجود الأصل الحقيقي أولا وهو أصل ديني يعود بنا إلى بدء خلق الإنسان، ولا يمكن العودة إلى هذه المرحلة الزمانية إلا من خلال القرآن الكريم ومن هنا يتأكد لنا الأصل الديني للقصة لذا نلحقها بالأساطير.
لم يصرح ناصر الجاسم أن هناك حالة ثأرية بين هتمي وبين كائنات ما ورائية، سوى أنه في نهاية النص وضع نصًا ملغومًا ومتفجرًا لنا حينما نسبه إلى الراوي:

" قال الراوي: إذا قرع هتمي الطبل يخرج من عتمة الظلام طائر من طيور الليل ويحوم في السماء فوق ساحة الرقص ... ومنذ أن مات هتمي لم يرَ الناس ذلك الطائر... فقد حاول ورثة هتمي في قرع الطبل إظهاره لهم لكنهم فشلوا ولم يعد أحد في القرية بعد ذلك ينظر إلى السماء متحريًا رؤية الطير والعرضة مقامة ".

ومن هنا تولدت الحِيْرَة لدى القارئ الواعي، وبدأت الأسئلة، فلا يوجد كلمة في النص اعتباطية بلا عمل وليس لها محل، ويبدو أن قصة هتمي قارع الطبل والثأر الذي في عنقه معروفة لدى القرية بدلالة أنهم بعد موت هتمي لم يعد أحد ينظر إلى السماء متحريًا رؤية الطير والعرضة مقامة. كذلك ناصر لم يقل بشكل مباشر أن الطير هو ذلك الكائن الأسطوري الذي وجدناه في الحكاية الوسيطة بين طائر الليل وغراب ابني آدم، وهو طائر الهامة الأسطوري. بل جعلنا نحن نفترض ذلك ونولد الأسئلة حولها، والسؤال الأبرز الذي نقف أمامه في حيرة، ما سبب هذا الثأر؟
إن المبدع المتمرس في كتاباته لا يأتي بالنصوص الأخرى اعتباطًا، بل يدخلها في نصه ويشير إليها لكي نستحضر كامل معانيها، فطائر الليل الذي أحالنا إلى الهامة وهو طائر الثأر جعلنا نتبين وجود حالة من الثأر بين هتمي قارع الطبل وبين طائر الليل أكدت هذه الحالة أفعال أبناء القرية الذين يعرفون هتمي معرفة تامة، بل يبدو أنهم يعرفون قصة الثأر وبالأخص الكبار منهم لأنهم توقفوا عن مطالعة السماء في ساحة الرقص أثناء قرع الطبل بعد وفاة هتمي، بعكس الصغار الذين كانوا لا يبالون بأوامر هتمي في عدم الإسراع في خطوات الرقص أثناء قرع الطبل.
وبطبيعة الحال فإن الحكاية تحيل إلى الحكاية لكي تكتمل الخيوط وبما أن حكاية الهامة أحالتنا إلى قصة غراب ابني آدم فعلينا أن نستحضر قصة ابني آدم ليس من ناحية استحضارها كنص فقط بل للسؤال المرتبط من خلالها، فابني آدم قتل أولهما الآخر، وهتمي قارع الطبل عليه ثأر أي أنه قتل آخر، فما هي طبيعة العلاقة بين الدمين المسفوحين في كلا الحكايتين؟
وبحسب المفسرين(6) أن سبب الخلاف بين ابني آدم هو (امرأة) رغب كلا الابنين في نكاحها فاختلفا فجاء القربان فقتل الذي لم يُتَقبَّل منه الذي قُبِل منه، وظل يحمل القاتل جثة المقتول ما شاء له الله، حتى جاء الغراب وعلمه ماذا يفعل في جثة أخيه؟
ومن هنا ترتبط الحكايتين حكاية طائر الليل الذي أخذ ثأره والغراب الذي علم ابن آدم كيف يواري جثة أخيه في القبر، فالقصة الإبداعية هي التي تحيلك إلى نصوص أخرى تلتمس منها فهم النص الذي نقرأه، فالإشارات والرموز التي ترد في النصوص الإبداعية لا يريد منها المبدع فقط أن يذكرها بل يريد منها توليد المعاني وكشفها لكن ليس ذلك الكشف اليسير الذي يجعل النص مفتوحًا لكل من يقرأ بل كشفًا يحتاج إلى إعمال الذهن والتأويل والظن والتخمين.
وهنا نعود إلى هتمي قارع الطبل، هل تَعَشَّقَ امرأةً في يوم ما وكان لهذه المرأة عاشق آخر جعل هتمي يقتله ليفوز بقلب هذه المرأة، لا يوجد في صريح نص قصة (قارع الطبل وطائر الليل) ما يؤيد هذه الحكاية، سوى ما استنبطناه من توالد الحكايات من خلال الرمز الأسطوري في النص (طائر الليل). وتبقى هنا القصة مفتوحة على مصراعيها لولوج غامض آخر ...

__________________________________

1: الجاسم، ناصر العبور ، (مجموعة قصصية)، نادي الباحة الأدبي، السعودية، دار الانتشار العربي، بيروت، 2017، ص33
2: مدكور، منى، مقال: الطبول..حكايات السلم والحرب، جريدة البيان، الإمارات، تاريخ العدد: 25 سبتمبر 2010 ، من خلال الموقع الإلكتروني للجريدة (تم أخذ المعلومات يوم الجمعة 21 /6/ 1439 هـ الساعة الخامسة مساءً.)
3: الأصفهاني، حمزة بن الحسن، سوائر الأمثال على أفعل، تحقيق د. فهمي سعد، عالم الكتب، بيروت، ط1، 1988م، ص 476
4: ابن منظور، أبي الفضل جمال الدين بن مكرم، لسان العرب، مجلد ، دار صادر، بيروت، د ط، د.ت. ص -ماد هوم
5: القرآن الكريم، سورة المائدة، آية 31
6: راجع تفسير ابن كثير، وتفسير القرطبي، من خلال موقع المصحف الإلكتروني جامعة الملك سعود (مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود) الآية 27 وما بعدها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى