دعد ديب - تجربتي في الكتابة والنشر

قد يكون القلق والتوجس الذي يطغى على الكاتب الذي ينشر لأول مرة معبِّرٌ عن مسألتين بالغتي الأهمية. الأولى ناجمة عن تساؤله الأولي: هل نجح في نقل أحاسيسه ومكابداته وأفكاره التي تمور في ذاته ووجدانه؟ هل أفلح في تجسيدها على الورق أو شاشة الحاسوب؟ هل ما نجح في نقله يستحق أن يقرأ وينشر؟ هل كتابته ستجد صدى لها في قلوب قرائه؟

نعم أعترف أن هذه التساؤلات راودتني حينما فكرت بنشر روايتي الأولى “وتترنح الارض”؛ هذا الأمر كان بعيداً عن تفكيري كل البعد أثناء الكتابة، ولكنه شغلني وأرقني فيما بعد.

المسألة التالية هي موضوع محاولة النشر، وهي القضية التي أجهل عنها وعن تفاصيلها الشيء الكثير، وأعتقدها أسئلة تخطر في بال كل كاتب يطرق باب النشر لأول مرة: هل نجح في الوصول إلى ناشر يقتنع بعمله؟ هل استطاع تحقيق استجابة في تذليل الصعوبات والعوائق التي تواجهه مع دور النشر؟ هل حُلّت مشاكل قبول العمل فيها؟ إذ أنه من المتعارف عليه أن لكل دار أهدافها واستراتيجيتها وتمويلها، واعتبارات الأولويات والتسويق والمردود الربحي. ما من أحد يغامر بالنشر لكاتب في عمله الأول؛ لأنه سيضع في حسبانه أن تكون نسبة الخسارة أعلى نسبياً إلى حد ما، وهذا حق مشروع. أما بالنسبة لي، فقد كان للناشر الصديق صاحب دار التكوين دوراً كبيراً في تقدير العمل الذي عملت عليه وتبنيه، لما توقع من إمكانيات نجاحه، ولما لحظ فيه من معاني وأفكار أشكر له تثمينها؛ وهو الأديب والشاعر المرهف الإحساس. هذا إلى جانب، تشجيع بعض الأصدقاء من الأدباء الذين اطلعوا على العمل وأثنوا عليه. بالإضافة إلى ذلك، ومن ناحية أخرى، لعبت تجربتي في النقد والمراجعات الأدبية للعديد من الأعمال الروائية والفكرية لكتاب آخرين دوراً كبيراً، ساعد على تقديمي للواجهة الثقافية عبر جهدي الخاص الجديد.

غداة نشر العمل وخروجه إلى العلن، يصبح المنجز كياناً مستقلاً قائماً بذاته. أنا شخصيًا قد تنتابني الكثير من الأفكار والانتقادات حوله، وهذه حال القلق الأدبي الذي يحاصر كل كاتب؛ إذ يبقى هامشٌ من عدم الرضا يكتنف إحساسه. ثمة هاجسٌ يدور في عقله لرؤيةٍ يحاول الوصول إليها وهي تومض إليه من بعيد، مكابداً لتلمس غوامضها؛ لذا تراه يقوم بتكرار المحاولة والتجربة والموضوع أحيانًا كثيرة، وهو يعمل على قدح النار الكامنة في أعماقه واستحضار عوالم مجهولة بالنسبة إليه معتمدًا على ما اختزنته ذاكرته من مشاهدات وعبر وأفكار.

وبالنسبة لروايتي، فقد تعددت الآراء والتقييمات، وفق تباين أمزجة وعقليات ومستويات القراءة عند كل متلقي، والكاتب بالنهاية لا يكتب ليرضي كل الأذواق؛ فهو ليس برنامج “ما يطلبه الجمهور”. وأنا من الأشخاص الذين لا ينبهرون بالمديح أو يغتمون من الذم. ما يعنيني هو الرأي النير الذي يكملني. الرأي الذي يلحظ بدقة الهنات التي وقعت بها، ويشير بذات الوقت للمفاصل المضيئة التي مررت عليها؛ إذ أن الكثير من الأعمال المهمة مضى عليها وقت طويل حتى حظيت باهتمام المشهد الثقافي واحتفاء النقاد بها. بالمقابل، هناك أعمال تلمع كفقاعة نتيجة تسليط الأضواء الإعلامية عليها، لكنها لا تثبت عبر الزمن، وسرعان ما تزول لغياب مشروع صاحبها الثقافي. هذا الأمر يستدعي من كل صاحب قلم المزيد من صقل موهبته والاطلاع المستمر على التجارب العالمية والمحلية، “فالثقافة لاتقوم إلا بتمثل ثقافة الآخر” وفق تعبير الباحث عطية مسوح. لا مستقبل لكاتب لا يقرأ، وكل قراءة تفتح أبواباً جديدة للفهم والابتكار وتولد إمكانيات واسعة لتناسل الفكر والمخيال، وتجعلنا ندرك الكثير الكثير الذي ينقصنا، فالقراءة تطل على عالم أمواجه بحر متكامل من الأدب والعلم والفلسفة، ومحال أن يحيط المرء بكل ما يكتنزه هذا البحر، إن هي إلا مقاربات نسعى إليها ولنا شرف المحاولة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى