عزيز الحدادي - متى سيحتفل العرب بالوعي التاريخي؟

25qpt696.jpg

ما لم يصل الوعي التاريخي سيظل هذا الشعب مقهورا و بعيدا عن الوعي الذاتي» «
يا لها من مفارقة قاسية في مظهرها تفرض سياجا مقدسا على السلطة، وبما أن السلطة ظلت وسطوية في العالم العربي، فإنها وجدت نفسها أمام من ينافسها في الشرعية الدينية، بل أن التوجه السلفي أصبح منافسا قويا للسلطة الانضباطية، لأنه يتهمها بالانحراف عن العقيدة، واتخاذ من الدين وسيلة للحكم الاستبدادي، وانطلاقا من مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي تختفي وراءه السلفية الجهادية يتم استقطاب الجمهور وتحريضهم ضد هذه السلطة، هكذا أضحت في خطر. ولم يعد أمامها سوى الانفتاح على المجتمع المدني، بيد أن أسلوبها في الحكم ظل هو نفسه، من خلال الظهور بمظهر الديمقراطية، وتحريك آلة الدولة للتحكم في الانتخابات بتواطؤ مع تلك الأحزاب التي أفسدت الفعل السياسي، وساهمت إلى حد كبير في ظهور هذه الحركات الجهادية، فبأي معنى تفهم السلطة هذا الخطاب؟، هل يتعلق الأمر بنقد سياسي؟ أم بدعوة إلى ثورة تنويرية ضد الفكر السياسي الظلامي؟.
والبرهان على أن الصراع السياسي تحول إلى صراع ديني أعاد إلى الواجهة تلك المشاهد المظلمة من التاريخ العربي، لأن هذا الصراع يحسم بالعنف، وبما أن ضحيته الأولى لا يمكن أن يكون سوى الشعب المقموع، فإن تأخر مشروع التنوير سيطول لقرون أخرى، والشاهد على ذلك أن الغرب قد جعل من الكنيسة مجرد تيار مناهض للتنوير والحداثة، وقام بإزاحتها، وفسح الطريق أمام نهضته الفكرية والسياسية. هكذا حسم الصراع بين التيار الديني، والتيار السياسي، وبخاصة وأن الحداثة بطبيعتها تخترق فضاءات الوجود الإنساني وإبطال الجوانب السحرية والخرافية عن العالم. لأنها تمشي بنعومة وحميمية رومانسية على تلك الجراح العميقة للإنسانية، والتي أحدثتها الحروب الدينية بين الشعوب، ولا زالت تحدثها إلى يومنا هذا. فكيف الانزياح عن هذا الصراع؟.
والحال أن العقل الأسطوري يصارع العقل العلمي، مما أبعد التيار العقلاني عن الفضاء الإنساني، ولعل الصراع سيحسم بانتصار العقل الأسطوري في نهاية المطاف، وهذا يعني من ضمن ما يعنيه: «عودة التيار الديني المتشدد مصحوبا بنزعة عدمية جديدة. قد تقضي على ما تبقى من الأمل، ومنح السلطة القهرية الشرعية للسيطرة على المجتمع بقوانين الإرهاب، بيد أن القضاء على الإرهاب ينبغي أن ينطلق من تلك التربة التي أنبتته، حيث أن السلطة وفرت جميع الشروط لنموه، سواء في ممارسة التهميش على الشعب، أو بواسطة نشر الفكر الظلامي في المنظومة التعليمية، ومادام أن: «المسيحية، كما يقول غوتشيه، هي ديانة الخروج من الدين». فإن الإسلام هو ديانة الصراع حول السلطة.
وربما يكون هذا الانتقال التاريخي من الحروب الصليبية إلى الحروب الكلامية والطائفية هو مجرد تقديس للدم، والتعجيل بانهيار الأمة الواحدة، ذلك أن أول مخرب للأمة هي السلطة العائلة التي سيطرت على الأرواح والثروات، وقامت بتجويع الشعب وحرمانه من الحق في الحرية والمساواة. وفرضت حصارا على الفكر السياسي التنويري، باسم الإلحاد والعلمانية، لأنها تخشى فصل الدين عن الدولة، ولذلك فإنها تقدم بديباجة للدستور دينية أكثر منها سياسية، وإلا ما معنى الحديث عن الدولة كآلة للقمع، ومنحها صفة «الإسلامية»؟ هل تحول الإسلام إلى أداة لقمع الشعب؟، وما علاقة الإسلام بالتدبير السياسي؟.
فقيمة هذه الأسئلة لا تأتي من كونها تثير ما هو بديهي ومعروف، بل بكونها تبعث عن الدهشة والاستغراب،لأنه بمجرد ما تتحول سياسة الحقيقة إلى نظام للاختراق، يعلن عن الفراغ الأنطلوجي، وموت الحوار والاختلاف الفكري، إذ لا تكفي هذه الأثنولوجيا الثقافية ، بلغة فوكو، من اجل إعادة الأمل إلى هذه الأمة، التي مزقتها السلطة الانضباطية والحروب الأهلية، والدينية. فتشخيص حالة الفكر لا تكفي وحدها لإعادة الأمل لهذا الفكر المنهار، مادام أن العقل لم يحقق في التاريخ، بحجة أن المطلق المحرم على هذا العقل، الذي لا يمكنه أن يبدع فكراً قوياً، الذي تواجهه الحقيقة الموروثة، ولذلك فإن فتح دروب جديدة لهذا الفكر، أصبح مستحيلا، إلى درجة أنه حرم التيه في الضياع. بحجة أخلاق الواجب الديني، وهي تجليات للهيمنة السياسية . فاين هو هذا الطريق الأثري الذي يقود الفكر نحو التنقيب عن الحقيقة؟، وأين هو طريق الوجود الذي سيخلصنا من اللاوجود؟، وكيف يمكن التخلص من العدمية؟. ثمة تطلع إلى بزوغ نهار جديد، وشروق شمس رائع يستطيع أن يدمر هذا الظلام الذي طال، وتستريح الروح من شقاء السلطة وعنفها الرمزي، هكذا تتعقب آثار التراث العقلاني، بدلا من هذا التراث المثخن بالجراح، تراثاً يتماهى مع الروح ويحرضها على تملك هويتها في المستقبل لتتجاوز أخطاء الحاضر، إنها ما يهب كل حاضر حضوره بالقرب من المنكشف في فرجة النور، لأن فرجة الإضاءة تضيء، وبذلك يجعل الحقيقة في متناول الفكر المنقب عنها بالعقل، وليس بالوجدان. الذي يجعل المضاء في حداده الأبدي . إذ ينبغي على الروح أن تكتفي بهذه الاستراحة في الحداد والألم. لأن عظمة الروح تنبثق من الفوضى، وتشييد الأمة هو حقيقتها. فكيف إذن تستطيع أن توفق بين هذه الفوضى الكونية والذات الفاعلة؟، وكيف تستطيع القضاء على هذه البربرية المقدسة؟. وما الذي يمنح الشعب قوته غير هذه الفوضى الكونية ؟ وأين هو الشعب المستيقظ؟ وكيف يمكن تدمير جدل العبد والسيد ؟ هل بالمعرفة؟ أم بالنضال السياسي المدني؟.

د. عزيز الحدادي
٭ كاتب مغربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى