محجوب حامد - الأستاذ / بابكر عوض الكريم ... لرحيلك المٌر .. حسرة في القلوب والحناجر (وتبقى الوشائج ما بقى شجر الحراز)

يسدل العام أستاره موشحا في الحداد .. والحزن تتفاقم لجته علي فجيعتنا بالموت وبالإمتحان وتأبي المفردات أن تستقيم أو تلين فتخرج وهي تدمي القلب بالمواجع .. وتشع أنت من الفؤاد بهيا مشرقا كما أغنياتك العذبة .. ويطل شارع الحرية وأنت تعبره في جلبابك الناصع البياض وعمامتك الأنيقة والضحكة الصادقة المجلجلة أرجاء المكان .. ما بين الخرطوم و أسمرا مسحات خضراء من الحب والوفاء يفوح من مسامها عطرك ، وعناقيد أينعت في حقولك بالبنفسج والأمنيات .. وما بين قلبي وقلبك أغنيات (يا صباحات الموانئ) والبحر ساج يردد خلفك (باضع ..صباح الخير) .. وأنا ألملم ما تبقي من الجرح مكلوما في الثلاثاء 20/12/2016 أحاول أن أستعيد توازني بعد أن هاتفني أخي خالد محمد طه يبلغني بأن في هذا الكون قد توقف قلب شاعر .. وتوقفت أبجديات الأحرف الأنيقة ونهر العطاء .. والروح التي كانت تضفي علي أيامنا نضارة .. ماذا أقول فيك يا بحر المعاني ويا صوت الربابات .. أيليق بي أن أردد قولك وأنت ترثي أستاذنا كجراي رحمة الله عليه :

(ها أنا قد رأيت المرايا
وما كان أعشى سواي
أحبك .. أؤمن بالضاد روحا تألق في الأبجدية
وإكتفي خدرا بنبيذ الأغاني
يهيم علي وجهي الورد بين الزفاف وبين الجنازة
وأنت حديقة عمري.. ولا ورد عندك
وأدرك أن الغرام القديم بنفسجة من غبار)
في خريف العام 2007 وفي قاعة ( جونير) بأسمرا كنت منتشيا بنا ومحاصرا بالزمهرير والأمطار .. وكان الشعر دفء ذلك المساء ، ولهذه الأمسية المميزة مكانة خاصة في القلب وفي الذاكرة ، فقد كان لي شرف تقديمها وأنت تصارع الغيم في الفضاء وتمطر بطريقتك الخاصة أروع الأغنيات .. كانت تلك أول مشاركة لي في أمسية شعرية مع شاعرنا الكبير.. قدم خلالها روائع من الشعر ونماذج جميلة من الشعر الحلمنتيشي وأيضا ( لونية جديدة تتمحور في كيفية ميلاد القصيدة خروجا عن المألوف أسماها كتابة القصيدة بردة الفعل السمعي).. أدهش خلالها الحضور بأسلوبه الجديد وإلقائه المتفرد والجميل .. كان مساءا للشعر مطرزا بتحف من أغنيات القامة أحمد ود الشيخ الذي قدم إستراحات الأمسية غناءا عذبا ورقراقا.. اليوم وبعد كل هذه السنوات لا أزال أشم عبير ذلك المساء ، وترحل بي الذاكرة صوب مصوع وهي تحتفي بذكري عملية (فنقل) التأريخية للعام 2009.. كان الشعر حاضرا في هذا الإحتفال ، فقد أفردت اللجنة المنظمة مساحة خاصة لأمسية شعرية تحت عنوان (فنقل .. بعيون الشعراء) شارك فيها عدد كبير من الشعراء ، كان أسطعهم وألمعهم و أروعهم وأجملهم بشعره الدفاق وصوته المستملح الأغاريد وكلماته الجميلة والصادقة والمعبرة .. بعد إنتهاء الأمسية إنفردت بالفقيد رحمة الله عليه والدكتور تاج الدين نور الدايم في جلسة جميلة وهادفة .. كنت مصرا علي إقامة أمسية شعرية في مدينة كرن ، ورغم إلتزامهما بأعمال أخري في السودان إلا أنهما مشكورين وافقا علي ذلك ، علي الفور إتصلت بالأخ أحمد جعفر مسؤول إتحاد الشباب بكرن حينها وتبني الإتحاد مشروع الأمسية .. في كرن وبصحبة الأخ خالد محمد طه تم التنسيق والإخراج للأمسية التي أقيمت بقاعة فندق كوستينا ، وقدمها الأخ خالد بطريقة لائقة وجميلة ، كان مساءا موزعا بين الشعر والتاريخ والغناء .. صدح خلالها شاعرنا الكبير بدرر غوال من القصائد وقلائد من عبق الياسمين وسافر بنا الدكتور تاج الدين في رحاب التاريخ ، لرحلة الصحابة رضوان الله عليهم إلي إرتريا وغيرها من الهجرات التي إرتبطت بالبحر الأحمر ، وقدمت الفرقة الفنية للشباب مقاطع من تراث سكان إقليم عنسبا .. كان لهذا التمازج الرهيب شكل الإبداع الحقيقي الذي خرج به الحاضرون .
في صيف العام 2008 كنت ضمن القافلة الشبابية التي طافت عددا من المدن السودانية بدعوة كريمة من الإتحاد العام للطلاب السودانيين .. كان شاعرنا الكبير يتقصى سير عمل القافلة خطوة بخطوة ، خصوصا عند عودتنا من الخرطوم إلي كسلا لأنه كان يخطط كي تستريح القافلة (بالشواك) ليقوم بإكرامها كعادته ، وعندما فشلت محاولاته في أن تنيخ القافلة عند دياره ، قرر إنتظارنا بالشارع العام الذي يبعد مسافة طويلة عن المنطقة محملا سيارة (بوكسي) بالمشروبات الغازية والبسكويت مكللا بعدد من شباب قريته الأوفياء.. إضطررنا التأخر في القضارف حتي العاشرة مساءا بحكم البرنامج المقام هناك ، وهو ما جعل شاعرنا الكبير ينتظرنا أكثر من ثلاثة ساعات علي قارعة الطريق.. وعند وصولنا الشواك أجبر القافلة علي الوقوف جانبا وسلم علي أفرادها واحدا وحدا ، بينما قام الشباب المرافقون له بتوزيع المشروبات الغازية والبسكويت علي أفراد القافلة .. هذا هو معدن الأستاذ بابكر عوض الكريم الذي تعلق قلبه بإرتريا وبكل ما يعنيها ، وقد كان مواظبا علي حضور كل المهرجانات الوطنية خصوصا الإحتفال بعملية (فنقل) ومهرجان إرتريا ، بل كان يتردد علي أسمرا كلما سنحت له الفرصة بمناسبة وبغير مناسبة ، مصطحبا معه في كل مرة وفدا رسميا أو شعبيا لتمتين أواصر المحبة بين الشعبين الشقيقين ، وكان ودودا رحيما يصل كل معارفه وأقاربه ويخصص للكل مساحة من الوقت ، وكان للإعلام مساحة خاصة يقوم خلالها بالتجوال في كل الاقسام ،ولم يضن علي أحد، في أي لحظة بالرأى والتعضيد ، ويقترح ما هو مفيد للبرامج .. وقد كنا في كثير من الأوقات نقتحم عليه قيلولته في إستراحته بفندق (ناشونال) ونجبره للخروج والإستمتاع معه فهو، بحق، متعة وصحبة وإنسان متعدد المواهب والأغصان ، ولا أتذكر يوما خلال معرفتي به أنه سمح لأحد منا القيام بدفع شيء حتي ولو كان قيمة كوب شاي، بل كان كريما ينفق علينا بسخاء لدرجة ينتابك الإحساس بأنك طفل يمشي جوار والده ،عليه رحمة الله .
الأستاذ/ بابكر عوض الكريم بابكر البخيت من مواليد العام 1951 بالشواك ريفي القضارف من أب سوداني وأم إرترية . درس الصف الأول والثاني الإبتدائي بمدرسة (أم حجر) والصف الثالث والرابع بمدرسة (الشواك) الأولية .وقد كان لهذا التنقل ما بين الشواك وأم حجر دور هام في تشكيل طفولة شاعرنا .. طفولة أثرت فيها الطبيعية الخلابة وما يتميز به الريف من صفات جميلة وأدب جم وأصالة .. أحب الفقيد في طفولته السباحة والسمر علي ضوء القمر وملاحقة حفلات الطهور والأعراس و(الدلوكة) وأغاني الطمبارة .
ثم إنتقل إلي مدينة خشم القربة ليواصل تعليمه في المرحلة الوسطي وقد كان نشطا ومجتهدا
وفيها تم إختياره مبكرا بالجمعية الأدبية وذلك لإتقانه كتابة الانشاء والإلقاء الشعري والخطابة
وقد جاء وعيه السياسي مبكرا فقد أفرد يوم خاص في الجمعية الأدبية ( الاثنين ) للحديث عن الثورة الإرترية التي لم يمض علي إنطلاقها عامين فقط بقيادة الشهيد حامد عواتي . أما المرحلة الثانوية فقد كانت بمدرسة بورتسودان الحكومية وهناك إلتحق بالجبهة الديمقراطية وفرع الحزب الشيوعي (رابطة الطلاب الشيوعيين) وتدرج حتي وصل إلي المسؤول السياسي لفرع الحزب والسكرتير العام للجبهة الديمقراطية وسكرتير جمعية الفكرالاشتراكي وسكرتير فرع إتحاد الشباب السوداني وعضو لجنة المدينة للحزب والسكرتير السياسي للمكتب القائد للمكاتب القيادية لفروع الحزب بالمدراس الثانوية بمدينة بورتسودان .
في مدينة بورتسودان تفتقت قريحته الشعرية وألهمه البحر بمراكبه وعبابه وأحجاره وأصدافه وأسماكه الملونة قصائده الأولى و أول أنفاسه الشعرية .. وقد كانت بورتسودان حينها محاطة بأجمل الشعراء الذين شكلوا وجدان شاعرنا الجميل .. ولعبوا دورا كبيرا في تشجيعه وترتيب وتنظيم ميوله الشعرية كالشاعر مبارك المغربي الذي كان يعمل مدير سجن مدينة بورتسودان (رحمه الله) والمرحوم الشاعر مصطفي سند الذي كان يعمل بمكتب البريد والمرحوم الدكتور/ جرتلي والمرحوم الشاعر محمد عثمان كجراي الذي كان يعمل مديرا لمدرسة (سللاب) الأولية .. وقد أقاموا هؤلاء الخيريين الأفاضل منتدى بالمدرسة الحكومية أسموه (خميلة الشعراء)
في العام 1970 قاطع تعليمه العالي لينخرط في مجال التعليم مدرسا بالمرحلة المتوسطة وذلك بعد وفاة والده رحمة الله عليه وتحمل مسؤلية وأعباء الاسرة . بعد العمل أربعة سنوات في التعليم المتوسط إلتحق بكلية المعلمين ببخت الرضا لمدة عامين (1974-1976) عاد بعدها مدرسا حتي عام 1981 ومن ثم تم إنتدابه بكلية التربية – جامعة الخرطوم علي ضوء حصوله علي تقدير إمتياز ببخت الرضا وقد تخرج في التاريخ بمرتبة الشرف من الدرجة الأولي .. وقد كانت تلك الفترة مهمة في حياة شاعرنا الكبير إذ تعتبر فترة نضوجه الشعري وتطور مقدراته الكتابية والإبداعية وقد زاد إهتمامه بالتحصيل العلمي ومن ثم حصوله علي تمهيدي الماجستير في التاريخ القديم أو ما يعرف بالدبلوم العالي عام 1986.
إستطاع بحكم عمله كمنسق لتعليم اللاجئين في الفترة (1987-1994) توقيع إتفاقية بين الحكومة السودانية والأمم المتحدة تسمح لأبناء اللاجئين بتلقي التعليم فوق الإبتدائي بالمدارس السودانية بقسميها الداخلي والخارجي مقابل إلتزام الأمم المتحدة ببناء الفصول والداخليات والمكاتب وتصنيع الأثاثات المدرسية حسب مقترحات وزارة التربية والتعليم . كما يعتبرأول من قام بحصر كل أبناء اللاجئين بالسودان في سن التعليم بغرض توطئتهم للعودة الطوعية ومن ثم قدم مقترحا كاملا بتوزيعهم في المراحل التعليمية وفي المناطق التي يرغبون في العودة إليها وعدد المدارس القائمة في إرتريا فعلا، وعدد تلاميذها حسب المراحل والعدد المطلوب من المدارس في مواجهة أعداد العائدين وذلك بحضور رسمي لسفارة السودان بأسمرا ووزارة التعليم الإرترية ومعتمدية اللاجئين الإرترية .
بعد تحرير كامل التراب الوطني أحضر إلي قريتة (أم حجر) فريق مساحة وآليات بدعم من معتمدية اللاجئين بالسودان عملوا طيلة شهر فبراير 1992 في تخطيط المدينة وفتح الشوارع ورسم الخريطة علي نفقته الخاصة . كما قام بإحضار مهندس وفني مياه وكل الإسبيرات اللازمة لإعادة تأهيل (الدونكي) المعطل ودعمه بالمواسير والأحواض بمساعدة قيمة من صديقه المهندس عبدالله الريح مدير إدارة المياه بمعتمدية اللاجئين بالشواك .
عمل الأستاذ/ بابكر متعاونا في القسم العربي بإذاعة صوت الجماهير الإرترية منذ سبتمبر من العام 1991 قدم خلالها العديد من برامج المنوعات وكان أبرز الأقلام التي كتبت خواطر الإستفتاء باللغة العربية عام 1993 .
شارك في منافسة (رايموك الأدبية) للأعوام ( 2000-2001-2002) وحاز فيها علي المركز الأول في الأدب المكتوب باللغة العربية . وفاز أيضا بدرع الثقافة في الخرطوم عاصمة للثقافة العربية 2005 كأفضل نص شعري .. صدر له عام 2005 ديوان (أر وى رنة الفرح المهاجر) عن دار عزة للنشر وعام 2014 ديوان (لا تودعني وسافر) وله تحت الطبع ديوان (الفجر في عينيك فجرثاني) وأيضا تحت الطبع كتاب توثيقي تأريخي آثاري بعنوان (الأتبراوي حضارة متجذرة أم تناقل ثقافات ..؟)
الأستاذ/ بابكر متزوج من السيدة الفاضلة/ حنان الأمين محمد أحمد حاج رحمة وهي من مواليد مدينة تسني وله من الأبناء ( مظفر – السياب – عزيزة – السميدعة – السمندل - النورس – سفانة – اليمامة) حفظهم الله ورعاهم فهم إمتداد لروحه الطاهرة ، ولنا ماتبقى من فنارة تدل عليه.. فأرجو أن نرعي جميعا نحن وهم هذه الشجرة الوارفة التي سعي حثيثا علي سقيها حتي ضربت جذورها هنا وهناك وجادت بثمارها هنا وهناك وأن نعمل علي تمتين جسور المحبة التي بناها الفقيد علي مر السنوات الطويلة بين السودان وإرتريا حبا وعشقا وغناء. وفي الختام هذه دعوة أخص بها كل الذين زاملوا الفقيد وعرفوه عن قرب لجمع كل ما وقعت عليه أيديهم من ما لم يرى النور من أعمال أدبية أو بحثية بغرض ترتيبها وتجهيزها للنشر في حال أمكن ذلك في مقبل الأيام ، وهوعمل خير لايستأني عنه كريم ، بل ذلك دين علينا مستحق . كما نحمد للإخوة الأوفياء بأسمرا (الذين هم لأماناتهم وعهودهم راعون) قيامهم بواجب العزاء والختام علي روح الفقيد في مسجد الخلفاء الراشدين ، يتقدمهم الأخ الهمام / خالد محمد طه الذى فتح قلبه قبل داره لتقبل العزاء ، ولكل الرائعين الأنقياء ألف شكر.. أمطر الله علي قبر الفقيد شآبيب الرحمة ،ولنا جميعا حسن العزاء وإنا لله وإنا إليه راجعون .

أسمرا - 23/ ديسمبر 2016


إشارة
بعض المعلومات مستمدة من صفحة الأخ/ حسين حب الدين زمزمي بالفيس بوك .
نشر هذا المقال في الملحق الثقافي بصحيفة ارتريا الحديثة . عدد اليوم الثلاثاء 27 ديسمبر .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى