‎عبد الحافظ الحوارات - "عِمْتِ صباحاً ومساءً يا عَمْتَـــــــــا"

الطبيعي هو أنْ نستغل فسحة الإجازة في نهاية أي أسبوع ناضج نَشُدّ فيها رحالنا لترحال جديد.
اللا طبيعي هو أن يستطيع فريقنا استصناع رحلة جميلة خلال زحمة العمل في منتصف الأسبوع.!
كان من الضروري استثمار كل جزء من هذا النهار القصير لتغطية حُزم المرح والفائدة وإشباع ثلاثة أنواع من السياحة: دينية وطبيعية وتاريخية. نظرياً، وضعنا برنامجاً شيِّقاً آمنا به وكُنّا مستعدين لتسميع تفاصيلهِ "دَرْجَةْ مَيْ" كقصيدة محفوظات من شروق شمسهِ حتى الغروب.
وِجهَةُ رحلتنا كانت نحو قاطعنا الشمالي من لوائنا الجميل ابتدأناها بسياحة دينية إلى مكان زاره صيف عام 1812م "بيركهارت" الرَّحَّالة السويسري الذي تعلّم العربية في كامبريدج وكتب عنه وصفاً دقيقاً ، وقبله بخمسمئة عام زاره الرّحّالة الأمازيغي المغربي "ابن بطوطة" عام 1326م وكتب في أسفاره ما يلي: "فمررتُ الغور، وهو وادٍ بين تلالٍ، به قبر أبي عبيدة ابن الجرّاح أمين هذه الأرض رضي الله عنه، زرناه وعليه زاوية فيها الطعام لأبناء السبيل، وبِتنا هناك ليلة". نحن كذلك زرنا ضريح أمين هذه الأمّة المُسجّى في المقام، وقد صَلّينا الضحى في مسجده الحديث ثمّ تجوّلنا في مركز كبير مُلحق به كقرية إسلاميّة حضارية مبنيّة بحجر فاخر وبنمط معماري فريد بمساحات مسقوفة تبلغ 6500م 2. طفنا بأرجائها النظيفة في الوقت الذي طَفَتْ بذهني فقاعة أهمسها في آذان رجال اللواء الذين لمْ يُسَجَّوا بعد: قصيرة مسافة استصناع قرار يُحَوِّلُ هذا المكان لكُلّيّة جامعيّة شرعية وسطيّة ويحوّل مركز التنمية الريفية إلى كلّيّة "بوليتكنك" لو شَحَذَ المُخلصون هِمَمِهم العالية، قصيرة فعلاً قِصَر المسافة بين الحياة والموت يا أحياء اللواء.
تابعنا المسير بهمّة عالية نحو بيت مستضيفنا "أبو هَمّام" الذي اصطادنا بسهم كرمِهِ. ولا غَرْوَ، فهو من أهل قرية تسمّى قديماً "عَمْتَا" واشتهرتْ حينها بصناعة "النِّبَال" حيث كَتَبَ عنها ياقوت الحموي في معجم البلدان ما يلي: "عَمْتَا" قرية تقع وسط الغور، بها قبر أبي عبيدة بن الجرّاح، رضي الله عنه، وتُعملُ بها "النِّبْل" الفائقة. القرية تُدعى اليوم "البلاونة"، وتمتدّ حدودها من "روجيب" المنسدحة على ضِفَّتَي وادي راجب شمالاً إلى مقام أمين الأمّة جنوباً.
لم ينسَ أبناء البلاونة وهج الاسم القديم لقريتهم؛ نَحَتَ الدكتور حسين مناور رواية مطبوعة بغلاف عَنوَنَهُ " عمتا" فيما افتتح مضيفنا الشهم الدكتور فهمي البلاونة مطعماً أنيقاً على ضفاف العاصمة عمّان أسماهُ أيضاً "عمتا".
ذاكرة الأماكن هنا بعيدة للغاية تتجاوز مئويات السنين وألفيّاتها، تاريخ متراكب لبشريّة حمراء وبشرية صفراء انخلعتْ من أوطانها البعيدة غازيةً جغرافيا بلادنا الساحرة بثوبها المخملي الفاتن "المُشنشل" بِبَرُّوق حضارات الكون اللامعة.
تحية لمستضيفنا الجواد الذي غمرنا بِكَرَمٍ مُتوارَث، وتحية لفريقنا جيل "الكلاسيك" من تلاميذ مدرسة معدي الذين "تَقَردَنوا" هذا اليوم في مخاضات وادي راجب، "وتشنبطوا" الجبال و"البطنان" في مشاهد أحيتْ زعرنة طفولتهم داخل أردية خمسينية بدأتْ تتبرعم فيها ملامح التصابي من جديد.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى