أدب السيرة الذاتية أ. د. ثناء محمود قاسم - المدينة الجامعية (4) تابع

تابع


( 4 )

مع انصرام العام الأول ، غادرتُ مع صديقتي المبنى (الثامن ) المخصص لدرعميات الفرقة الأولى .غادرنا وكلٌ منا ممسك بيد الآخر في اطمئنان يكفينا الثلاث سنوات المتبقية ، ويقينا عثرات الطريق نحو إتمام الدراسة ، التي تفرض علينا قسوة السكن الجماعي .
غادرنا ونحن اثنتان فلم أعد وحدي ، ولم تعد وحدها . وكانت هذه هى الحسنة الوحيدة التي خرجنا بها من عام عاركنا وعاركناه كي نخرج سالمتين . لم يحرمنا القلق والتوجس من شريكتنا الجديدة في الغرفة للعام المقبل انشراح الصدر وبهجة القلب ، فقد ضمنّا الغلبة على الأقل ، إذا ما ساء حظنا معها . فلن تكون صديقتي هذه المرة ضيفة ، تلقى ما كانت تلقى من الشريكة البحيرية حسب ما كان يمليه عليها سوء المزاج ، وتقلبات الحال . فكثيرًا ما كانت ترتكب من الحماقة ما يُغضب صديقتي ويردها إلى حجرتها الأصلية، إيثارًا للسلامة واحتفاظًا بعزة النفس . وكنت أذهب في كل مرة أسترضيها وأطيب خاطرها , وأردها إلى حجرتي معززة . فقد كنت لا أخلو من شدة بأس ومن قوة شخصية بقدر يسمح بذلك ، لكن كنت أعيدها بالتودد لا التجبر ، فلم يكن ليصلح أن أفرض صديقتي عليهما ، كنت أتحايل على الجوانب الإنسانية المختبئة داخلهما ، كي أجعل وجود صديقتي مرحبًا به بيننا.
لن تكون صديقتي - بداية من هذا العام - ضيفة ، لكن صاحبة حجرة ، الحجرة التي أسكن فيها ، ولصاحبة الحجرة حقوق ووضعية تختلف تمامًا عن الضيفة ، فلن يهدد بقاءها في الحجرة أحد . ومع ذلك كنا نشفق أنا وصديقتي على حالنا من هذه الثالثة ، التي يمكنها أن تصيبنا بشيء من التنغيص والتكدير حين تشاركنا معيشتنا وتفاصيلنا الشخصية ، إن كانت على شاكلة ونوعية الشريكة البحيرية والأخرى . وتوكلنا على الله .
قبيل بدء العام الدراسي الثاني ذهبنا لنسجل أسماءنا في واحدة من حجرات المبنى (الثاني) المخصص لدرعميات الفرقة الثانية ، وكانت المفاجأة السارة ، التي لم ترد مطلقًا في حيز التوقعات أو حتى الأمنيات؛ عرفنا أن المبنى المخصص لنا هذا العام حجراته ثنائية لا ثلاثية . فطرنا فرحًا ، وكأن السماء كانت تتسمع خطونا وتظلنا بحنوها ورحمتها ففتحت أبوابها لرجائنا . ولا غرو في ذلك ، نعم فالأمر يستحق هذا القدر من الاهتمام والقلق . فنحن في حياتنا ربما نستطيع التعامل مع سخافات الناس وتحمل غباء قلوبهم في المساحات الواسعة خارج أسوار البيت ، لكنه لا يمكن تقبل ذلك في الأمتار القليلة التي تضم راحتنا وتلقائيتنا وتفاصيل يومنا ، سكوننا وحركاتنا ، شرودنا وتأملاتنا ، ضحكنا وبكاءنا . يكفينا بيتنا - تلك البقعة الصغيرة من أرض الله – نتنسم فيه عبير الراحة .
وكذلك السكن الجامعي ، فكل ما كان يهمني وصديقتي الراحة والهدوء والسلام في حجرتنا الصغيرة ، التي لا يشغلنا معها ما يدور خارجها من سخافات و صراعات وسوء طباع في باقي أرجاء المدينة الجامعية . وتلك قاعدة نفسية منطقية ، تشبه إلى حد ما سيكولوجية المحبين ، والفلسفة التي تجمعهم في علاقة غير منطقية . فأنا كثيرًا ما أتأمل حال المحب ، أو الواقع في أسر الحب . كيف يشعر بالاستغناء عن الناس والعالم كله إذا ما كان حبيبه معه ؟! كيف يختزل الكون في شخص واحد ؟! شخص يتحكم في مفتاح سعادته أو شقائه ، حزنه أو فرحه . فإذا ما مضت بهما العلاقة في سعادة وهناء ، يشعر أنه يمتلك الدنيا فما فيها ، ويكسو وجهه البهاء والأمل والإقبال رغم مصاعب العيش ، بل لا يراها أصلًا . وإذا ما افترقا يشعر أنه قد فقد حياته وسعادته ، يغزو العبوس والظلام وجهه وقلبه ، وتنطفئ روحه وجذوة الأمل داخله ، يشعر أن الدنيا لا يوجد فيها ما يستحق البقاء ، ولا يشعر بأى نعمة موجودة حوله ، كيف لشخص واحد أن يكون له هذا التأثير الجهنمي ؟! علاقة عجيبة جدًا . هذا المعنى هو ما صاغه الشاعر السوداني ، الهادي آدم في جملته :
أنا لولا أنت ، لم أحفِل بمن راح وجاء .
و ما قاله - كذلك - الشاعر عبد الفتاح مصطفى :
هواك نسى الزمان طبعه
وخذ منه الأمان لينا
ودارى عننا دمعه
وخلاه ما دري بينا
التغيير هنا لم يصب الزمان حتى يغير من طبعه ، لكنها الحالة الشعورية والدائرة السحرية التي يدخل فيها المحبون ، فتجعلهم لا يشعرون إلا بالجمال والأمان ونعيم الدنيا وبهجتها ، وكأن الكون كله طوع يمينهم .
وفي الحقيقة ، لا الغدر اختفى ، ولا الدمع اكتفى ، لكنها أوهام المحبين .
وكذلك كنت أنا وصديقتي نكتفي بثنائيتنا في حجرتنا الصغيرة جدًا ، فلا نرى أى صعوبات أو مشاكل خارج حدود حجرتنا .


وللحديث بقية ...




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى