احمد الزعتري - كن خشبا طيبا..

(1)
فاجأتني جملة للمغربي عبد الكريم برشيد: إن الإنسان لا وجود له كهوية كاملة وثابتة ومنغلقة على ذاتها. الإنسان هو العلاقة، يصنعه الآخرون أكثر مما يصنع لنفسه. بقدر ما بدت تلك الجملة نتيجة بديهية، أفزعت بمخيلتي موائد عشاء كثيرة، وحولها أشخاص طيبون يبتسمون باستمرار. الطاقة المتحررة منهم تندفع إليك بضراوة. بقدر ما أذهب إلى صحة هذه الجملة، أفزع من فكرة أنني لست وحدي.
(2)
دائرة مغلقة من أشخاص يتكلمون باستمرار، بدليل أقدامهم الثابتة على الأرض، وبعيدا أنت تحتوي المشهد بذراعين تشكل (إكسا) يمتد لداخلك. كن طيبا وضع كرسيا في الداخل واجلس، انتبه جيدا لترهل فخذيك على الخشب المستباح، وأنصت لأول أداة بعد التكوين العظيم واسترح.. هنا مرقدك ومكانك. كرسيك هذا وخشبك الأخير، نشارتك الأولى وحظ رئتيك اللتين تتفتحان بلا انتهاء وتأخذان شكل قلقك. لا شيء يدعو لتوجسك؛ الشجرة شجرة وإن فكرت فيك، ونادت اسمك وحدقت بهيئتك. لا تخف، كن طائشا وهب للمقاعد وظيفتها الكبرى، واكتشف، وأنت تحب شكل راحتك، أن الغابة تفكر فيك، وتطلق رائحتها لتتمثل لديك برجال كثيرين يركضون في نومك.. كأنما يفرون من نومك. الكرسي مثلك، ففكر أيكما ينشد الآخر.
(3)
علي بدر يعيد للكراسي دلالاتها الديموغرافية في روايته القريبة مصابيح أورشليم. فالكرسي الذي يجلس عليه رجل مسيحي غني يعمل في يافا من البامبو (في مشهد استرجاع إدوارد سعيد لحياته الأولى). وكذا يجلس على كرسي البامبو عجوز يهودي. وإيستر التي تتطبع بصورة كرسي منجد باتكائها عليه. وكراسي الألمنيوم بإغرائها لأصحاب الحوانيت بالهيئة التي تناسب شارعا يفيض عن النساء والدخان: بالساق على ساق. جهاد هديب يمنح الكرسي ذاكرته الأولى، فالشجرة مقلوبة والكرسي طائش. يهوذا بن يعقوب كان جالسا على كرسي له ظهر عال عندما رمت له تامار بعكازه وعمامته وخاتمه: إن الخاتم والعكاز لي.. والطفل أيضا. وحسين عجيب يضع وردة على الكرسي (المعرف)، ولو كنت أنا لما عرفته كحب غائم.
(4)
كن حجرا طيبا ودع فيروز تجلس في صوتها، ودع للأشجار من حولك عريها يوشوش فناء السماء التي تقترب كلما نظرت إليها. المقاعد الحجرية بنصف انحناءة تنفي عن العرب صفة التطير من الأشكال الهندسية غير المنتظمة، والبناء الوحيد الذي سأل: ما أقدم.. حجر أم خشب؟ غرق في الفيضان. قيل إن زوائد الصلصال الأول رمي بها إلى الأرض فكانت نخلة، والنجار الوحيد الذي سأل: بشر أم خشب؟ حظي بالذئب.
(5)
يكتشف فاسلاف هافل برسائله من سجنه نتيجة قد تبدو بديهية: سأكون سعيدا لسماع الأشياء تسمى بأسمائها الحقيقية مرة أخرى. لماذا لم يسأل أحد عن سبب عدم وجود كراسي في السجن؟ حيث يتحول الكرسي إلى ذهنية عالية تمنح أفضلية عفوية لمن يعيش خارج السجن. وكذلك الدرج. الوحشة التي تمنحها كراسي مصفوفة فارغة. الفقد الذي ينسل بسرعة تشتغل عليه يرعات مصابات برهاب الأثاث المعتم. كرسي القش الذي جلست عليه مارثا في الحب في زمن الكوليرا.
(6)
الكراسي الخشبية. أعقاب السجائر على البلاط الرخيص. همهمة نسوة في البار المقابل. متقاعدون رمى بهم بلدهم إلى طاولات تقرع النرد. الشارع المتكئ على شارع، الموارب على شارع. قهوة مرة تلو قهوة مرة. صمت منجز بعد كلام حافل. الأجساد المحتلة لفراغ من الكون. ما الكيان؟ كيان كامل من جسد، وعلى الأقل سبع مليارات فكرة تعبر الذهن الداخلي في لحظة وأقل منها في الوعي، كم فكرة تشرد الصديق عن صديقه، الأم عن ابنها، الفتاة عن حبيبها؟ أنحتاج أكثر من أفكار مسبقة الحكم لنسيطر على كيان كامل بذهن وأفكار وذكريات ونسيان ضروري؟ هل يحكم الكيان نظام كامل أم ما استحدث من أنظمة كان من المحبذ فقط عن غيرها. أنستدعي شخصياتنا الاجتماعية كل يوم مقابل اندثار الحقيقية منها لأننا نخشى الوحدة فقط؟ كلما سمعت بحب لأشد ما يذهلني أنه كيف يمكن لكيان أن يحتفي بشخص واحد فقط؟ في سيرة الضوء الأزرق كتب حسين برغوثي عن أنه من الأشخاص الذين لا يمكن لهم الاخلاص لشيء لآخر بذرة في قلوبهم. هذا يخصص فكرة عامة شبه مطلقة عن الكائنات أجمع، فكيف تتمم الكائنات بعضها بأقل جزء مما يتيسر لهم؟ أهي الطبيعة الاجتماعية التي خص بها البشر عن غيرهم من الكائنات؟ إذن هذا نظام يحكم العلاقات وإن ترك في مجال من الفوضى، فكل يرى طريقه واضحا ويحدد بما تيسر له خياراته، يلتقي بها مع الآخرين أو يفترق؛ فإن افترق هذه فوضى، وإن التقى هذه معجزة.
(7)
الطريق إلى السماء قصيرة.. خذ سيارة واجتهد بأن تحصل على الكرسي الأمامي لا لشيء.. فقط إن عبرت الحدود رأتك حجارة البازلت أوضح.. رأتك أكبر
لم يجد نفسه إلا ملقى في سيارة بيضاء كبيرة، غارقا بكتاب لغالب هلسا وامرأة بدوية ترمقه -دون عباءة زوجها- من المرآة الجانبية.
لا شيء يمنع ارتداد الصحراء عن منكبيه إلا الأفق الناحل.. وخلف النظارة السوداء لعبت زوابع صغيرة في بيوت الرمل المعلقة على الكثبان.. اقتربت أنثى زوبعة ونامت على كتفه..
كن خشبا طيبا يا صديقي.. فالكرسي الذي مات عليه الماغوط لا بد أن يكون طيبا لهذه الدرجة.
* كاتب أردني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى