د. باسم الزعبي - كرسي بأربع قوائم..

القائمة الأولى: الجسد

هو أول ما تفتحت عليه عيناي. تركتني إلى جانبه أمي في السرير الخشبي ذي الطرفين المقوسين. أنظر إليه: مربع بأربع قوائم أسطوانية، ومقعده جدل من حبال القنّب وغُطّي بطراحة وثوب مزركش... يصلح أن يكون بيتا، بل إنه بيت حقيقي. إنك تكون قرب أمك، قرب قدَمي أمك، قرب الجنة، التي تصنعها في الدنيا بقدميها اللتين تحركان دواسة الماكنة فيُصدر ذلك الصوت أول سيمفونية موسيقية تسمعها...
أنت في حجر أمك، الأمان الأول، الأمان الأبدي، الأمان الذي لم تشعر به إلا وهي على قيد الوجود، واحتميتَ بنسخة مزورة منه بعد غيابها. بعد غيابها لا يعود الأمان واقعا، سيظل حلما، وغيابها يبدأ مع غياب الكرسي. كانا هي والكرسي توأمين. ظل الكرسي فتيّاً ما دامت تجلس عليه. هكذا كانت: تسنده، ويسندها، تصونه ويفيها حقها، تجلّه فيرفعها عن الحاجة والسؤال.
القائمة الثانية: الروح
كائن بأربعة قوائم وظَهْر، يحملنا دون تعب. وحيد في البيت، وقد يكون في الحي وفي القرية. لم تكن هي ثقيلة على ظهره. هل ظلت طوال حياتها نحيلة وفاء للكرسي؟ لم يكن يتذمر، ولا يشكو من أحد. نَصعده إذا أردنا تناول شيء في الأعلى.. الأكبر فينا يعقد معه صداقة بعد أن تترجل هي عنه، ليبدأ مشوار الدراسة. ظل فتيّاً، صلباً، نضراً، حتى زارنا ذاك الشخص المربوط من رقبته، لم يكن يرغب في الجلوس على الفراش الأرضي لأنه التصق بحذائه اللامع، وبسرواله المكوي مثل حدّ السكين، وهو يعرفها، تشبثت به، لم تكن تريده أن يغادر، فقد كانت تشتاق له. قدمت له شقيقَ روحها. للمرة الأولى أشعر به يتذمر، تخلخلت مفاصله تحت ثقل الرجل، وصرفت أضلاعها هي. قلت: لماذا؟ إنك لم تكوني مضطرة لذلك. لا نريده أن يأتي إلينا. لا يمكن أن يجلس هو على كرسيك، وتجلسين أنت على عتبة البيت.
منذ ذلك اليوم، مرضَ الكرسي، وصار يتحسس من كل شخص يجلس عليه، ويُصدر أنينا، لكنه ظل يساندها حتى ترجلت عنه.
القائمة الثالثة: القبر
لا أعلم لماذا أسماه الصغار الكرسي، رغم أنني منذ تعرفتْ عليه عيناي كنت أراه يشبه قبر ذلك الولي الذي يرقد قرب دارنا.
المخفر البعيد الجاثم على التلة الحدودية، كان يشبه القبر، ونسميه الكرسي. كان عالما غامضا يمثل نهاية العالم، لم أكن أتخيل عالما أبعد منه، ولا حدودا أبعد من حدّه. تحاك حوله الحكايات، عن الدرك والمهربين والمتسللين. إنه حصن منيع، عالم مرعب، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه أو دخوله. لقد كان أشبه ببيت الغول كما صوّرته لنا الحكايات صغارا. كنا ننظر إلى عمل المهربين، الذين يجتازونه في الليالي المظلمة نظرة البطولة، بطولة الشاطر حسن ومغامراته الشجاعة مع الغولة الشريرة. لكن لماذا كنا نسميه الكرسي في حين أنه يشبه القبر؟
تتطاول أجسادنا، تتطاول سيقاننا، نكبر نحن ويصغر القبر. يصبح المخفر _ القبر- الكرسي قاب قدمينا في خطوهما. ندخله، نجد أشلاء الغولة والشاطر حسن والدرك والمهربين والمتسللين متناثرةً في الساحة بين الركام...
تمر السنون وتتحرك بيوت القرية في زحف الحياة المقدس حتى تبتلع بقايا المخفر والقبر والكرسي والحكاية لتعيش كلها فينا.
القائمة الرابعة: السلطة
جلسنا في المقهى الشعبي نحتسي القهوة. كنت أدير ظهري للكرسي، أما هو فقد كان يحضنه. في اليوم التالي أصبح كرسياً. بالأحرى، جلس على كرسي في مكتب وثير لا يرى، خلف باب مصمت لا يسمع، في بناية كبيرة من حجر صلد لا تتكلم... والتصق به إلى الأبد. وبقي كرسيه في المقهى خاليا.. افتقدته طويلا، افتقدته كثيرا. لقد سرقه الكرسي مني. سرق صديقي!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى