أمجد ناصر - الماغوط على كرسي متحرك..

في ردهة فندق روتانا البستان في دبي رأيت محمد الماغوط على كرسي متحرك يدفعه قريبه الطبيب الذي يرافقه، كظله، مذ اصبح المشي على قدمين ثابتتين على الارض ذكرى من ماضي الشغب البعيد، فتقدمت منه وسلمت عليه.
قلت له: انا فلان الفلاني.
فقال: اهلا، اهلا، طبعا، طبعا!.
قلت له: كيف الحال؟.
فقال بنبرة ساخرة، والسيجارة الابدية تتدلى من زاوية منحرفة من فمه: كما ترى، واشار الى الكرسي المتحرك.
فقلت: المهم هذا، واشرت بالسبابة الى الرأس.
فقال وطيف ابتسامة تحاول ان ترتسم على شفتيه المطبقتين على السيجارة: وهذا خربان ايضا!
ثم كأنني سمعته يسألني: هل انت في لندن؟
فقلت من دون ان اتأكد انه سألني هذا السؤال: ما زلت في لندن.
كانت وجهة الكرسي المتحرك تشير الى ان الرجل يتجه الى المصعد، والطبيب - القريب واقف كظله وراء الكرسي فلكزه الماغوط بيده واخذ الكرسي يتحرك باتجاه المصعد وانا اقول من دون سبب وربما لمواصلة هذا الحديث العابر الذي انقطع فجأة: اراك لاحقا.
لم اتأكد طبعا، انه عرفني، فنحن لم نلتق من قبل، ولم يجمعنا حيز او مناسبة، ولم اتيقن قط ماذا تعني كلمة: طبعا، التي رددها مرتين عندما قدمت له نفسي. لعلها مجرد رد طبيعي على اللهجة الواثقة التي شددت فيها على المقطعين اللذين يكونان اسمي.
افلا يصادفنا كتاب وشعراء شبان، او مغمورون، في ندوة او مهرجان ويقدمون لنا انفسهم ونقول لهم تفاديا للحرج او على سبيل التواضع، نفس الكلمات: طبعا، طبعا.
طبعا، هنا، لا تعني شيئا، اذ هي مجرد حيلة كلامية للقول اننا نعرف من تكون ونحن، في الواقع، لم نكن قد سمعنا، من قبل، باسمائهم، فالمرء لا يقدر على الالمام بكل الاسماء حتى وان كنت تتحرك في الحيز الذي يتحرك فيه، فبعد كل شيء، الشعراء كثر والمنابر اكثر والعتب على النظر!
لم تزعجني مسارعة الماغوط الى لكز مرافقه لدفع كرسيه المتحرك، وفي الواقع لم اشعر بالحرج، فلم اكن ارغب باكثر من تلك التحية، ولو انني تمنيت ان تطول المحادثة قليلا.
كان يكفي انني رأيت ذلك الشاعر الذي ظلت تراودني صورته واحزانه المزمنة مذ كنت شابا صغيرا يلوب على ارصفة «الزرقاء» بحثا عن معنى لحياته في الكلمات العصية المراوغة.
كان يكفي ذلك. كان الرجل مريضا فعلا. الحيوية الوحيدة التي بدت عليه هي في مواصلته تدخين السجائر واحدة تلو الاخرى حتى في الاماكن الممنوع فيها التدخين كقاعة المؤتمرات التي عقدت فيها ندوة للفائزين بجوائز سلطان العويس الثقافية الشهر الماضي.
كان الماغوط يدخن بلا رحمة وبلا انقطاع، كأن السيجارة هي حبل السرة الذي يربطه بالعالم، او كأنها اوكسيجينه، فيما الفائزون يتحدثون عن حقولهم التي نالوا تلك الجوائز على اساس تميزهم فيها.
وقد بدا، من وراء نظارته الضخمة التي تشبه مرصدا فلكيا من العصر الحجري، ضجرا من الكلام والمتكلمين، او ضائعا لا يفهم ما يقال خصوصا، عندما راحت مصطلحات الناقد المغربي محمد مفتاح النقدية تتعقد اكثر واكثر وهو يتحدث عن «الأنا» و«الآخر».. هنا فقدنا الماغوط تماما، او، لعله، فقد طرف الخيط الذي كان ما يزال يربطه بمحيطه «غير سيجارته طبعا» فصار ينظر الى محمد مفتاح من وراء ذلك المرصد الفلكي وهو لا يفهم ما الذي يجري.
صحيح ان الناقد المغربي كان يتحدث لغة عربية سليمة لكن شيئا فيها بدا عصيا على الفهم، انه ذلك النوع من «الاشياء» التي لم يفهمها الماغوط في لغة النقد والنقاد، شعرت للحظة ان الماغوط قد يفسد الامر على الناقد المغربي، غير ان احتجاجه الوحيد كان باستلال السجائر والامعان بتدخينها في مكان مكتوب على اكثر من جهة وزاوية فيه بحروف حمر: ممنوع التدخين!
ليست هذه الكلمات في مقام التقييم النقدي للراحل محمد الماغوط فلا الحيز ولا طبيعة المناسبة يفيانه حقه.
انها مجرد استحضار لذلك اللقاء اليتيم الذي جمعني به في ردهة فندق وهو يتوجه بكرسيه المتحرك الى المصعد.
انها ايضا تحية لمن قدم لنا وجهة في الكتابة الشعرية لم تطرق قبلا.
الماغوط شاعر فريد في المدونة الشعرية العربية: نكهة ومعجما وموقفا من العالم وهو شاعر محظوظ ايضا لانه جاء في زمن كان هناك من يصغي الى الشعر ومن يظن ان الشعر قادر على التغيير، وهو محظوظ ايضا لانه وجد بين مجموعة تلقفته وقدمته، بوصفه بيانا شعريا جديدا الى ساحة الشعر العربي.
فمن دون مجلة «شعر»، التي التف حولها شعراء خاضوا صراعا فكريا وجماليا لنقل القصيدة من طور الى طور اخر، من الصعب تخيل ان يكون الماغوط هو ما عليه اليوم، بل من الصعب تخيل كيف ستكون، الان، صورة القصيدة العربية.
هذا الموضوع ينساه الكثيرون وهم يتحدثون عن واقع القصيدة العربية اليوم، بل جاء وقت نسي الماغوط نفسه تلك الحاضنة واولئك الذين صنعوها، وهذا يعني ان الشاعر الكبير لا يسقط من السماء ب«باراشوت» ولا يصير كبيرا بمحو اثار خطوته الاولى ولا بنفي الذين غذوا نصه.
الشاعر الكبير يصير كبيرا بين كبار.
كرسي الاعتراف. محمد الماغوط. من أعمال الفنان السوري فاتح المدرس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى