زينب الخالدي - الكرسي

ما نتحدث عنه هنا ليس كرسياً عادياً في مطعم يجلس عليه الجائعون ليشبعوا بطونهم الخاوية بما لذ أو طاب من الطعام، وليس كرسي طائرة يحجزه صاحبه ليطير به بين الغمام، وليس كرسياً في ملعب يرتجف خوفاً من غضب الجماهير الساخطة، وبعد عراك بالأيدي يصبح في لحظة، أثراً بعد عين، وبين الأقدام كومَ حطام .

ليس الكرسي الذي أقصده واحداً مما ذكرت، وليس أي كرسي قد يخطر على بالكم .
إنه كرسي العجائب، كرسي تحقيق الأحلام، بلا مصباح، ولا جان، ولا خاتم سليمان فهل عرفتم ما هو؟
هو كرسي يعلو بصاحبه في عالم من الخيال، في عالم الأوهام، حتى إذا ما وصل حد النجوم هوى بصاحبه إلى القاع، إلى الحضيض، إلى قرار سحيق من الظلام، ليصبح في لحظة في خبر كان بعد أن كان صاحبه ممن يشار إليهم بالبنان، فقد كان الآمر الناهي الذي لا ترد له كلمة أو رأي أو بيان .
إنه كرسي ذو بريق خاطف خلاب يخطف الأرواح قبل الأبصار والألباب، الكرسي الأغلى تكلفة والأشد حمرة على الإطلاق فثمنه رقابٌ ورؤوس ودماء، وأرواح أبرياء، كرسي تفوح منه رائحة الدم المسفوك بطعم الظلم المر والقهر والأشواك، يسيل له لعاب اللاهثين لاقتنائه، وتحاك من أجله الدسائس والمؤامرات، وليس الكرسي العربي هو المخصوص بالكلام، ففي الغرب قصص عن الدسائس والمؤامرات يشيب لهولها الولدان، لكن الفرق بيننا وبينهم هو في تاريخ انتهاء الصلاحية، فعندهم محدد معلوم أما عندنا فالصلاحية مفتوحة أبدية أزلية قابلة للتجديد والتزوير والتعتيم .
هذا الكرسي الذي يلتصق بصاحبه، أو بالأصح يلتصق صاحبه به والأمر سيان، المهم أن الالتصاق أقوى من التصاق الرضيع بثدي أمه قبل الفطام، فلا يمكنه الانفصال عنه أو الانفكاك، يود صاحبه لو يتنقل به في كل مكان، لو يكون شريكه حتى في وقت المنام، يأخذه معه إلى المطبخ، وعافاكم الله إلى الحمام، يتحول وإياه مع الأيام إلى توأم لا ينفصلان، وإن انفصل أحدهما عن الآخر فإنها النهاية المحتمة، موت سريري لا نقاش ولا جدال، لأنه انفصال الروح عن الجسد، المهم ألا يبرحه مهما صار ومهما كان .
ترى صاحبه قبل جلوسه عليه شخصاً آخر لا يمت بصلة إلى الشخص الجديد الذي يتحول بقدرة قادر من إنسان إلى شيطان، يتقنع بقناع الحمل الوديع وهو والعياذ بالله، وحش مفترس وتحت إمرته آلاف من “البلطجية” والمرتزقة والأعوان .
إنه كرسي الدكتاتورية ذو السحر الخاص والبريق الفتان، ذو الصوت العذب صوت الذهب الخالص الرنان، جالب الحظ محقق الأحلام، فهو يعني لصاحبه السلطة المطلقة والمنصب والمال، الثالوث المقدس عند الدكتاتور، ومن يجلس عليه مرة فلن يتركه بالمرة، فهو يتشبث به تشبث الغريق بحبل النجاة، ولكنه للأسف لا يدرك أنه سيتحول من حبل نجاة إلى حبل مشنقة في يوم من الأيام، إنه الثالوث المقدس والمدمر لصاحبه في آن .
هو من أسقط الملوك والسلاطين وأزال الممالك والعروش التي لا تغيب عنها الشمس، فها هي جنة الله على الأرض بلاد الأندلس التي بقيت بيد المسلمين ثمانية قرون خلت تضيع في غفلة من الزمان بعد أن غلب الهوى على نفوس حكامها وعندما تغلب حب هذا الكرسي اللعين في القلوب الواهية، فكان الثمن أن خرجوا أذلة صاغرين بعد أن دانت لهم الدنيا وطأطأت لهم الرؤوس وأذعن لحكمهم الجبابرة، وها هو أبو عبدالله الصغير آخر حكامها يذرف الدموع بحرقة ثمن ضعفه وتفريطه بملك المسلمين خرج من الحمراء آخر معاقل الإسلام باكياً، لكن دموعه ظلت تسيل على خديه، فلا شيء يمكنه أن يعزيه، وبين شهقاته راح يردد: الله أكبر، هل من تعس مثلي . وعلى هذه الهضبة قريباً من قرية ببادولا، حيث آخر ما نظر إليه ملك عربي أندلسي لبلاد الأندلس مرتفع سمي (فلز الله أكبر) وهي تعرف بين الإسبان باسم: آخر ما رآه المغاربة . هناك سيظل يتردد صدى تلك العبارة الشهيرة حينما عيرته أمه بضعفه قائلة له: “أتبكي كالنساء على ملك لم تحافظ عليه كالرجال”، ستظل هذه الكلمات وصمة عار في تاريخ هؤلاء الجبناء أشباه الرجال الذين يفرطون بحقوق أمتهم ثم يتباكون عليها كالنساء .
كم يغص القلم حسرة وهو يخط ضياع هذا الماضي الباهر للمسلمين بعد أن سادوا العالم شرقاً وغرباً، حينما كان همهم الأول نصرة الدين لا التمسك بهذا الصنم اللعين، بعد أن تحولوا بفضل الإسلام من قبائل متفرقة متناحرة إلى أمة إسلامية فرضت نفسها بقوة إيمان أبنائها على العالم أجمع وقهرت أعتى قوتين على الإطلاق في ذلك الزمان الفرس والروم، وظل مجدهم وبقي ذكرهم خالداً إلى أن جاء يوم نسوا فيه هدفهم الأسمى فتفرقوا وضعفوا وذهبت ريحهم وتشرذموا فطمع فيهم القاصي والداني وتدخل في شأنهم الأجنبي، فعاث أعداؤهم في بلادهم فساداً، وصالوا وجالوا من دون حسيب أورقيب في بلاد المسلمين في العراق وأفغانستان وفلسطين أرض السلام والبطولات التي تواجه أخطر المخططات الصهيونية، والكل غافل عن الأخطار المحدقة بها، بدءاً بمخططات بني صهيون الهادفة لتهويد القدس وهدم المسجد الأقصى وتقطيع أوصال الجسد الواحد بإقامة السور العازل، إلى المجازر التي تغتال الأبرياء الذين لا ذنب لهم إلا أنهم رفضوا صكوك استعبادهم فقاوموا لنيل حرياتهم، والبقية تترى من المكائد والأحقاد والمؤامرات، ولكن أحفاد عمر وخالد وصلاح الدين لهم دائماً بالمرصاد يردون مكائدهم إلى نحورهم، ويقلقون منامهم، ويقضون مضاجعهم ببطولاتهم الفذة التي طرزت جبين التاريخ بأكاليل العز والغار .
لقد تمادى بعض الحكام في غيهم حينما فرضوا وجودهم على أبناء شعوبهم بالقوة، فإما أن يحكموهم وإما أن يقتلوهم لأنهم رفعوا أكفهم في وجه السوط المسلط على ظهورهم، يريدون أن يكون حكمهم أزلياً مطلقاً، يريدون لشعوبهم أن تكون دمى يحركونها بخيطانهم كما يشاؤون، لقد مارسوا في حق شعوبهم أبشع صور الاستعباد والاستبداد، وضللوا عقول البعض منهم فكرياً ونفسياً حتى وصلوا إلى حد تأليه زعمائهم والسجود على صورهم، لقد استبدوا بحكمهم، وتغافلوا عن واجباتهم وحقوق شعوبهم وتهربوا من وعودهم بالإصلاح والتغيير فلم تقطف شعوبهم من الوعود إلا قبض الريح، ونسوا أن الكرسي تكليف لا تشريفاً، فأين هم من موقف عمر بن عبدالعزيز حينما بويع بالخلافة بعد وفاة سليمان بن عبدالملك وهو لها كاره فأمر فنودي في الناس بالصلاة، فاجتمع الناس إلى المسجد، فلما اكتملت جموعهم، قام فيهم خطيباً، فحمد الله ثم أثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال: أيها الناس إنني قد ابتليت بهذا الأمر على غير رأي مني فيه ولا طلب له، ولا مشورة من المسلمين، وإني خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم خليفة ترضونه . فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، هنا تتجلى أبهى صور الديمقراطية والشورى وتحمل المسؤولية الحقة التي تدفع الشعوب الآن ثمنها من دمها الأحمر القاني . وقيل إن سليمان بن عبدالملك حج فرأى الخلائق بالموقف فقال لعمر: أما ترى هذا الخلق لا يحصي عددهم إلا الله؟ قال: هؤلاء اليوم رعيتك، وهم غداً خصماؤك . فبكى بكاءً شديداً .
رحم الله عمر بن عبدالعزيز فقد كان شديد المحاسبة لنفسه وَرِعاً تقياً، كما هو جده الفاروق رضي الله عنهما، حينما قال: لو أن بغلة عثرت في العراق لسألني الله عنها لمَ لم تمهد لها الطريق؟ فأين هؤلاء الحكام في زمننا هذا من أولئك الحكام الأتقياء الذين يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا، فكم من بغلة سيحاسبون عليها؟ بل كم من رقبة بريئة ستحاسبهم يوم القيامة وكم من ضحية ستطالب بالقصاص منهم بين يدي حسيب مقتدر، لقد نسوا قول رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: “ كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته...” فوجب عليهم أن يتحملوا وزر هذه المسؤولية وعواقب الكرسي الذي أضلهم، فتحول من كرسي الأحلام بأمر الشعب إلى كرسي الإعدام .
* عن دار الخليج

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى