محمد علي صالح - أنت.. والكرسي الذي تجلس عليه

شاعت الكراسي لعموم الناس
في بداية القرن العشرين مع نمو الرأسمالية
هل تتخيل حياتك بدون كراسي؟ هذا السؤال طرحته احدى محطات تلفزيون الـ«بي بي سي» هذا الاسبوع. فمن شدة اعتياد الانسان على كرسيه في المكتب او البيت او المقهى او السينما، او القطار، او الطبيب، باتت الكراسي كأنها خلقت منذ الابد. إلا ان هذا ليس حقيقيا، فالانسان اليوم يجلس على 6 انواع من الكراسي المختلفة في المتوسط باليوم الواحد، إلا ان هذا لم يكن الحال قبل نحو مائة عام فقط، عندما كانت الكراسي مقصورة على طبقة الاغنياء والمهنيين والموظفين الحكوميين.إلا انه ومع بداية القرن العشرين، عندما شاعت المصانع العملاقة، وخطوط الانتاج الكبيرة، والمحلات الضخمة، تطورت الكراسي، فأصبحت واحدة من اكثر السلع انتشارا في العالم. واصل كلمة «كرسي» باللغة الانجليزية (شير) كلمتان يونانيتان قديمتان: «كاترا» (تحت)، و«هيدرا» (جلس).
انتقلتا الى اللاتينية وتحولتا الى كلمة واحدة، «كاثدير». ويعرف القاموس الانجليزي الكرسي بأن له «ارجل ومقعد وظهر». واصل كلمة «كرسي» العربية هو «كراس»، بناء يجلس عليه، ويطلق على السرير ايضا. ويقال «اجعل لهذا الحائط كرسيا» اي ما يعمده ويمسكه.
وكتبت شارلوت فيل، مؤلفة كتاب «الف كرسي»، ان الكرسي «علامة على المكانة الاجتماعية والرسمية، ويعكس نفسية من يجلس عليه. لهذا اصبحت الراحة، وهي الهدف الرئيسي من الكرسي، ضحية الرمز والزينة».
وكتب موظف اميركي عن اهمية الكرسي في المكتب الذي يعمل فيه: «قال لي مدير المكتب: لاحظت انك تجلس على كرسي ازرق في مكتب فيه كراسي حمراء. اقترح نقل الازرق الى مكتب آخر فيه كراسي زرقاء. قلت: ظللت اجلس على هذا الكرسي لأكثر من سنة. قال: الاحمر اكثر اهمية من الازرق، وسيرفع مكانتك في المكتب. قلت: انت تجلس على كرسي ازرق. قال: انا الوحيد في المكتب». وكتبت مؤلفة «الف كرسي» ان الشخص، عادة، «يفضل الكرسي الجميل والمهم، والمريح، لكنه ربما لا يختار المريح. ليس سهلا العثور على كرسي مريح. الكرسي نفسه ليس مريحا. الكرسي يؤذي الصحة». وأشارت الى ان الشخص يجلس بزاوية قائمة على الكرسي، وربما تتدلي قدماه ولا تلمسا الارض، وربما تلمسان الارض لكنه يضطر لان يلويهما. وقالت ان هذه كلها اوضاع غير طبيعية. وأشارت الى ان الكرسي «يبطئ سيل الدم، ويضعف عضلات الظهر، ويضغط الرئتين نحو المعدة» وكتبت: «لا يوجد شيء اسمه كرسي مريح».
وكتبت مؤلفة كتاب «الكراسي: ثقافة وفن» غيلين كرانز، استاذة المعمار في جامعة جنوب كاليفورنيا، ان الكرسي اصبح من رموز الحضارة، وفي هذه الحالة الحضارة الغربية التي لم تخترعه، لكنها طورته وظلت تطوره. وأشارت الى مذكرات اداري بريطاني في الهند في القرن التاسع عشر عن نجارين وطباخين وحدادين وباعة هنود يعملون وهم جالسون على الارض. كتب البريطاني: «لا افهم كيف يحسون بالراحة وهم يعملون هكذا. ربما لأن عضلات اجسامهم ضعيفة، ولا بد ان هذا واحد من اسباب تأخرهم. أنا، كبريطاني، اتضايق من مثل هذه الاشياء».
ولا يمكن تجاهل نظرة الغربي الدونية نحو الذين لا يجلسون على كراسي. ولهذا كتبت كرانز «نحن نذهب الى مطعم ياباني ونجلس على الارض، ونحس بمتعة، لكننا نفعل ذلك لأننا نعرف انها تجربة مؤقتة».
أجرى غوردون هويز، استاذ علم اجناس اميركي، ابحاثا عن طريقة الجلوس وسط الشعوب، ودون اكثر من ألف طريقة، وقال ان اقل من نصف الشعوب تجلس بزاوية كاملة (على كرسي). شاهد صينيين يجلسون على الارض على اقدامهم في انتظار حافلة، وعربا يجلسون على الارض واضعين رجلا فوق رجل لكتابة خطاب ويابانيين يجلسون على الارض على طرفي اقدامهم للاكل، وأفريقيين «يجلسون وهم واقفون» (يقف الشخص على رجل واحدة، ويرفع الثانية ويسند قدمها على الاولى، ويضع عصاه فوق كتفيه بينما يراقب ابقاره او غنمه لساعات وساعات). وزار مساجد ولاحظ انها «اساس حب العرب والمسلمين للجلوس على الارض. تريح صلاة المسلم جسمه لأنه يغسل جزءا منه قبل ان يصلي. ويخلع حذاءيه فتشم قدماه الحافيتان الهواء. ويقف على قدميه فتتحرك عضلاتهما. ويركع ويسجد فتتحرك عضلات الظهر. ويجلس ويخلف ساقيه او يمدهما فترتاح الساقان»، وقال ان الركوع والسجود يفيدان الظهر اكثر من الجلوس على كرسي.
وشهدت الثورة الصناعية في اوروبا تصنيع الكرسي. اصبح يميل الى الامام، ويميل الى الخلف، ويرتفع، وينخفض، ويدور يمينا او يسارا، او دورة كاملة، او يميل حتى يصبح مثل سرير. ثم ظهر الكرسي الكهربائي الذي يتحرك بالضغط على زر. اخترع الصينيون الكرسي المزدوج (اريكة، لمجموعة من الناس). واخترع الاميركيون «لف سيت» (كرسي الحب، لشخصين فقط)، وطوروا كرسي الممثل بانكر في المسلسل التلفزيوني القديم، ليصبح اكبر، وكهربائيا، وبه جيوب لوضع كوب، وريموت كونترول، وموبايل. ثم ظهر، مؤخرا، كرسي «ارغونوميكس» (هندسة انسانية) الذي يصمم لتوفير الراحة لمن يجلس عليه. وظهر كرسي «فنكشنال» (عملي) الذي يصمم ليسهل نقله او صفه او رصه فوق كراسي مثله. وظهر الكرسي الشعبي المصنوع من البلاستيك المقوى ليتحمل الحر والجليد والمطر. وهناك كرسي طبيب الاسنان، وكرسي المقاهي العالي، وكرسي الاطفال، وكرسي المسرح، وكرسي الاستاذ، والكرسي المعلق من فرع شجرة، وكرسي الطائرة. وقد تأثر تصميم الكراسي كثيرا بالطبيعة واشكالها وموادها، فبعد الكرسي الخشبي الكبير هناك كرسي البيضة، وهو على شكل نصف بيضة، ويغطي اغلب الجسم عند الجلوس عليه ليعطى الاحساس بالاحتضان، تماما مثل الكتكوت في البيضة. وهناك الكرسى الجلد الاسود، وهو من اغلى انواع الكراسي بسبب استخدامه الجلد، وهو بات رمزا للقوة والمال والنفوذ. كما توجد كراسي للنخبة، يوجد كراسى شعبية واكبر مثال عليها الكرسي البلاستيك الملون الذي لا يخلو منه بيت، كما يستخدم بشدة على الشواطئ بسبب رخص ثمنه وسهوله حمله، وألوانه المبهجة، كما ان هناك الكرسي القماش، وهي كلها مواد طبيعية عادت لتكون الاساس في تصنيع الكراسي، اضافة الى استخدام الصلب. ويوجد في متحف التاريخ الاميركي في واشنطن اشهر كرسيين في اميركا: الاول، «الكرسي الهزاز» الذي استعمله الرئيس جون كنيدي لأنه عانى من آلام في ظهره بسبب جروح اصابته خلال الحرب العالمية الثانية. استعمل الكرسي في الكونغرس عندما كان عضوا فيه، ونقله الى المكتب البيضاوي في البيت الابيض، عندما فاز بالرئاسة. ووضع واحدا مثله في منتجع كامب ديفيد، وثالثا في الطائرة الرئاسية «اير فورس ون» ليرافقه في رحلاته في الداخل والخارج. وكان هديته المفضلة لأصدقائه وللملوك والرؤساء الذين زاروا الولايات المتحدة. واشتهر، منذ ذلك الوقت، «الكرسي الهزاز». وهناك كراسي اميركية اخرى مشهورة في متاحف اخرى، منها: اولا، الكرسيان اللذان جلس عليهما، في سنة 1870، رئيس الولايات المتحدة غرانت ورئيس الولايات الفدرالية لي عندما وقعا اتفاقية استسلام ونهاية الحرب الاهلية التي استمرت عشر سنوات. ثانيا، الكرسي الذي جلس عليه ليوقع في سنة 1941، الرئيس روزفلت قرار الكونغرس بدخول اميركا الحرب العالمية الثانية. اشتهر كرسي روزفلت وطاولته لأنه طلب ان يكون الرمز التذكاري له بعد وفاته صغيرا جدا، في حجم الطاولة. ويوجد الآن، أمام دار الوثائق الوطنية في واشنطن، نصب تذكاري لروزفلت في حجم الطاولة. ثالثا، الكرسيان اللذان جلس عليهما، في سنة 1960، كنيدي ونيكسون خلال اول مناظرة في التلفزيون خلال حملة انتخابية رئاسية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى