د. محمد سعيد شحاتة - مراوغات العنوان وإنتاج الدلالة.. قراءة في قصة (فؤاد الأول) للكاتب سمير الفيل

ينتمي سمير الفيل إلى البيئة الدمياطية، وهي بيئة تقدِّس العمل، وقد عبَّر عن ذلك بقوله (في الحارة الدمياطية تغلب علاقات العمل على أي علاقات أخرى وتهمشها، والحياة مليئة بالمآسي التي يتعرض لها الرجل والمرأة على حد سواء، وتلك هي قماشة السرد التي أعمل عليها بدأب وإخلاص منذ بدأت كتابة القصة القصيرة) وهذا يعني أن الكاتب سمير الفيل يعلن صراحة عن مذهبه الأدبي، وهو المذهب الواقعي، وعبر عن ذلك في أكثر من مناسبة، إذ يقول معللا انحيازه إلى القصة القصيرة بعد أن كان شاعرا (أنت في القصة القصيرة تقترب من الناس وتستطيع التعبير عن آلامهم ، خاصة أنني ابن بيئة شعبية ” حارة معري ” في دمياط، اكتشفت أن الكتابة القصصية هي أكثر اقترابًا من الواقع ، لكنها لا تعيد استنساخه ، ولكنها تعكس المرارات والخيبات التي تمر بالإنسان، والقاص هو الأقدر على التعبير عن ذلك ، حين أكتب قصة ما أحس بها ويدخلني الألم . مثل قصة نرجس، ومشيرة، وتمرحنة)
ولكن الواقعية ليست الواقع بحرفيته، وإنما الواقع عندما يختلط بالأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات، وتموجات الأحاسيس، وانكسارات النفس البشرية في المواقف المختلفة، وعجزها أمام مصيرها، وقد بدا ذلك كله في قصة مشيرة؛ فقد اختلط الواقع المعيش بأحلام النفس الإنسانية وطموحاتها وشغفها ثم انكساراتها، وقد كتب سمير الفيل في كل أنواع الأدب، فقد بدأ شاعرا، وأسفرت تجربته الشعرية عن خمسة دواوين شعرية، واتجه إلى القصة القصيرة والرواية، كما كتب للطفل، وفي كل ذلك كان حريصا على تقديم أدب راق، وسوف نتناول قصة (فؤاد الأول)، محاولين استكناه عالم النص، والتعرف على رؤيته الفكرية، وانحيازه الجمالي، واضعين في الاعتبار أن ما نقوم به مجرد محاولة لفهم عالم النص، وتفكيك شبكة العلاقات اللغوية التي تتخفى بين أنسجتها الرؤية الفكرية متخذة من اللغة قناعا؛ لإغواء المتلقي بمحاولة الاكتشاف.
العنوان مفتاح تأويلي:
يضع عنوان النص (فؤاد الأول) المتلقي في بؤرة الدلالة مباشرة؛ إذ يدفعه إلى توقع أن يكون النص يدور حول شخصية تسمى فؤاد الأول، ووصف فؤاد بالأول يدفع المتلقي إلى توقع أن يشتمل النص على أسماء أخرى تحمل لفظ فؤاد مما جعل الكاتب يميزها عن بعضها بوصف الأول والثاني والثالث، ويكون لكل منهم دور فاعل في الأحداث، ولكن المتلقي يكتشف أنه لم يكن لأي اسم من الأسماء التي تحمل هذا اللفظ دورٌ في الأحداث إلا من خلال التمني في أن ينجب نعيم عوض الله أكثر من شخص يطلق عليه اسم فؤاد ويكون ملكا يضع التاج فوق رأسه ويحمل الصولجان (هذا ابني " فؤاد الأول" . هكذا أسميته وإن شاء ربي سيكون لي "فؤاد الثاني" و"فؤاد الثالث" لاشك عندي أن واحدا منهم سوف يضع التاج على رأسه، ويمسك الصولجان بيده، سوف يحكم بالعدل؛ فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) وإذا دققنا النظر فسوف نجد أن الاسم الوارد في العنوان (فؤاد الأول) لم يحظَ باهتمام الأحداث في القصة كما حظي نعيم عوض الله؛ فهو الذي دارت حول الأحداث على الرغم من أن اسم فؤاد الأول هو عنوان القصة مما يدل على أن العنوان قد جاء موجِّها لذهن المتلقي، وكاشفا للدلالة في النص، وليس محورا للأحداث، وهنا لابد من التوقف أمام الاسم/الإشكال في النص، وهو (نعيم عوض الله) لنستدل من خلاله على دلالة العنوان الوارد في النص؛ فلا شك أن الاسم (نعيم عوض الله) اختيار مقصود الدلالة، وبخاصة إذا تتبعنا حركة المعنى في النص التي ستدلنا على أنه دال من خلاله ملامحه على جوانب الرؤية الفكرية التي استطاع الكاتب إلباسها كثيرا من الأقنعة؛ لإغواء المتلقي، والمبالغة في إخفاء الدلالة خلف شبكة العلاقات اللغوية التي تدل صياغة النص على إتقان الكاتب في نسجها نسجا محكما، فالاسم يتكون من مقطعين، وكل مقطع يحمل جزءا من الدلالة، فالمقطع الأول هو (نعيم) وهو دالٌّ على الخير، والحياة المرفَّهة، وعموم النعم، وأما المقطع الثاني فهو (عوض الله) وهو لفظ للدلالة على زوال الشيء، أو النعيم، فإذا قلنا النعيم يعوّض الله فيه فهو دلالة على زواله، واليأس من انتظاره أو عودته، والندم على زواله، والشعور أحيانا بالتقصير، أو المساهمة بدون قصد في زواله، ومعنى ذلك أن الاسم يدل على أن النعيم يعوِّض فيه الله، أي أن النص يرجو أن يعوِّض الله أهل الحارة في هذا النعيم، ومن ثم فإن اختيار الاسم ليس عشوائيا؛ فهو مفتاح تأويلي بالغ الأهمية، فهل يعتبر اختيار الاسم من خلال هذه الزاوية التأويلية انحيازا من الكاتب لدلالة الأحداث في النص؟ أو أنه يعتبر تفسيرا لتوجهات بعض الشرائح المجتمعية التي رأت في (نعيم عوض الله) واحدا منهم، ينتمي إليهم فشيَّعوه في جنازة مهيبة طالبين له الرحمة؟ ولذلك قلنا إن اختيار الاسم ليس عشوائيا، وإنه ذو دلالة مقصودة، وهنا يكون السؤال عن كينونة فؤاد الأول الوارد في العنوان مشروعا، ولكننا لا تستطيع التعرف على كينونة فؤاد الأول إلا من خلال التعرف على كينونة والده نعيم عوض الله؛ فالاشتباك بينهما كبير، والترابط بين الاسمين أشد قصدا في إرباك المتلقي، وتحفيزا له في الوقت نفسه لاكتشاف الدلالات المخبوءة وراء الألفاظ والجمل والعبارات في النص، فهل كان نعيم عوض الله ملكا فعلا كما يمكن أن نلاحظ من دلالات الأحداث والألفاظ أحيانا (هذا ابني " فؤاد الأول" . هكذا أسميته وإن شاء ربي سيكون لي "فؤاد الثاني" و"فؤاد الثالث" لاشك عندي أن واحدا منهم سوف يضع التاج على رأسه، ويمسك الصولجان بيده، سوف يحكم بالعدل؛ فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى – الملكية انتهت – لم ينجب " فؤاد الثاني" ولا " فؤاد الثالث" لكن نظرته الملكية ظلت تهيمن على المكان – وكان يخرج مع نجية، وهي مكشوفة الشعر، إذ ترتدي أزياء مودرن، وذراعها في ذراعه كالأجانب – دمك أزرق لا جدال في ذلك. لكن يا سيد نعيم الملكية ألغيت – ولا يوم من أيامك يا نعيم باشا) وإذا كان نعيم عوض الله فهل يكون فؤاد الأول وارث حكمه، إن أحداث القصة تشير إلى إلغاء الملكية، ومن ثم فإن فؤاد الأول لا يحق له أن يكون ملكا، كما أن الاختلاف حول دماء نعيم فيه إشارة إلى أنه ليس مصريا، وفي ذلك إشارة إلى أسرة حكمت مصر/أسرة محمد علي، فهل كان نعيم عوض الله يشير إلى الملك فاروق؛ فإذا انتقلنا إلى المستوى الواقعي للأحداث فسوف نجد أن الملك فاروق هو الذي كان محور الاهتمام، والذي دارث حوله الحكايات، واختلف الناس حوله بين مؤيد ومعارض، فهناك من يرى أن عصره كان عصر ازدهار، وأنه تعرَّض للتشويه المتعمَّد، ومن ثم راحوا يدعون له بالرحمة رغم إقرارهم بعيوبه التي لا يمكن إنكارها، ويبررون ذلك بأنه كان واضحا (فهناك طائفة من أهل الحارة تعترف بعيوبه، ويجدون أنه واضح وصريح ولا يزعم التقوى في الخفاء – وقد سدد بالفعل كل ديونه – أغلب من مشى فيها طلب له الرحمة فهو رغم تفانينه الغريبة ابن لهذه الحارة البائسة) وهناك من يرى أن عصره كان عصر فساد، ومن ثم صبوا عليه جام غضبهم (طائفة تراه ممعنا في الضلال – قليل ممن رفض المشي في الجنازة دعوا الله أن يسدد رأسه في جهنم حتى يكون عبرة لمن لا يعتبر) فهذه الدلالات كلها تشير إلى عصر الملكية التي انتهى أمرها كما صرَّح النص بذلك، أما الابن فؤاد الأول فقد كان طفلا صغيرا، ولم يكن ذا وجود فعلي على مستوى الأحداث، كما أن رغبة الملك كانت في استمرار نسله من بعده، وامتداد حكم أسرته، وهو ما يفسره رغبته في إنجاب فؤاد الأول والثاني والثالث، ولكنه لم يقدر إلا على إنجاب فؤاد الأول الذي كان نهاية حكم الأسرة، وانتقال الحكم إلى جهة أخرى مغايرة تماما، وهو ما جعل نجية زوجة نعيم عوض الله تغلق الأبواب على نفسها، وتهتم بتربية ابنها، وفي كل مرة تنطق بجملتها المعهودة (وهي تتمتم في سرها : ولا يوم من أيامك يا نعيم باشا) والتمتمة في السر إشارة إلى أن الحديث عن الملكية، وبخاصة من أبنائها لم يكون مرغوبا فيه؛ لأنه يعتبر انتقادا للحكم الجديد وأهله الذين آلت إليهم مقاليد الأمور. إن استخدام العنوان والأسماء الواردة في النص كان ذا دلالة في توجيه المتلقي نحو تأويل محدد، ولكن ذلك لا ينفي أن هذه القراءة مجرد قراءة قد تتفق أو تختلف مع غيرها من القراءات؛ فقد اشرنا في أكثر من موضع إلى أن أية قراءة لا يمكن أن تدعي لنفسها اليقين، ولا تتخذ من نفسها مقياسا للصواب والخطأ، بل ينبغي أن تدرك أنها مجرد محاولة ضمن عشرات المحاولات لقراءة النصوص؛ فالتعدد التفسيري للنص الواحد يثريه، ويضيف إليه، ويؤكد على أن النص لا يتضمن بالضرورة معنى نهائيا، كما يكشف التعدد التفسيري للنص عن آفاقه وأبعاده في سياق الثقافة المتغير؛ فلا وجود للنص بمعزل عن المركبات الذاتية للقراء.
حركة المعنى وإنتاج الدلالة:
تتنازع حركة المعنى في النص مجموعة من الجمل تمثل ركائز للدلالة، وهي جمل تدور حول الشخصية المحورية التي المثيرة للجدل/نعيم عوض الله، وهذه الجمل تعدُّ نقاط ارتكاز في التأويل (نعيم عوض الله رجل بصباص – نعيم رجل هلاس – نعيم رجل خباص – لا يصلي نعيم عوض الله سوى يوم الجمعة – الحقيقة أن نعيم عوض الله محل جدل لا ينتهي – حدقوا في الدم الذي بدأ في التجلط، فوجدوا زرقة غير معهودة – مات نعيم عوض الله ذات مساء، وهو يعبر شريط القطار دون أن يأخذ حذره) وقد حرص النص على توصيف كل جملة توصيفا تتشكل من خلاله في ذهنه المتلقي دائرة دلالية محددة، أما الجملة الأولى (نعيم عوض الله رجل بصباص) فقد أشارت القصة إلى دلالتها، فهو رجل يخرج يتشمم النساء، ولكنه لا يفعل شيئا؛ إذ إنه يكتفي بإلقاء الكلام دون أن ينظر إلى المرأة التي يوجه لها الكلام، بل ينظر للسماء حينا، وإلى حائط حينا آخر، ثم يلقي بكلماته (القمر بعيد .. مين يقرب لي القمر – أنا عاشق جمال النبي) وهي جمل لا تخدش حياء المرأة بقدر ما تعبر عن الإعجاب بها، وهو ما يتناسب مع طبيعة وذوق إنسان راق ذي مكانة، وحتى كلماته التي يرى النص أنها تعبر عن الرغبة المشحونة (أنا عاشق جمال النبي) لا تحمل أي معنى خادش للحياء، ويرى البعض أن لفظ (بصباص) ينتمي إلى البيئة المصرية وهو يدل في اللهجة المصرية على الرجل (ذو العيون الزايغة) وقد اشتهر هذا اللفظ في المجتمع المصري الراقي في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين في دلالة على الاهتمام بمعاكسة النساء، ولكن اللفظ (بصباص) لفظ عربي قديم؛ إذ ورد في المعاجم العربية (بَصْبَصَت الإبلُ: حَرَّكت أذنابَها عند الحُدَاء وأَسرعت – يبصبص بسيفه: يُلَوِّحُ بِهِ، يُحَرِّكُهُ – بصبص عليه :اختلس إليه النظرَ، وأشار إليه بطرف عينه – بَصْبَصَت الإبلُ: حَرَّكت أذنابَها عند الحُدَاء وأَسرعت – بَصْبَصَ في دعائه: رفع سبَّابتيه إلى السماءِ وحرَّكهما- بصبص الشَّخصُ للمرأة: نظَر إليها نظرات غَزَل – بَصْبَصَ الرجلُ للمرأة: تملَّقها وغازلها – بَصْبَصَت الأرضُ: ظهر أَولُ نبتها...الخ) كما ورد اللفظ في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي، وعبر العصور بمشتقاته اللغوية المختلفة، يقول الفرزدق:
وَهَرّتْ كِلابُ الجِنّ مني وَبَصْبصَتْ بِآذانِهَا مِنْ ضَغْمِ ضِرْغامةٍ وَرْدِ
ويقول صريع الغواني:
فَالكَلبُ إِن جاعَ لَم يَعدُمَكَ بَصَبصَةً وَإِن يَنَل شَبعَةً يَنبَح عَلى الأَثَرِ
ويقول ذو الرمة:
إذ قعقعَ القربُ البصباصُ ألحيها واسترجفتْ هامها الهيمُ الشَّغاميمُ
وقد استخدم اللفظ بعد ذلك في الدلالة على اختلاس النظر إلى المرأة، والتلويح ببعض الحركات في إشارة إلى الإعجاب بها، ومحاولة إغرائها، ومن ثم فإن الجملة الأولى تدل على جانب من جوانب الشخصية (نعيم عوض الله) هو أنه رجل (بصباص) أي أنه رجل ذو عيون (زايغة) أي مغرمة بالنظر إلى النساء، ويتحين الفرص لإظهار ذلك، أما الجملة الثانية (نعيم رجل هلاس) فإنها تشكل ملمحا آخر من ملامح شخصية نعيم عوض الله، وقد عبَّر النص عن مضمون هذا اللفظ (هلاس) بقوله (فهو يذهب كل ليلة ليشرب قطعة الحشيش التي توضع على كرسي الجوزة، عندما يسطله الدخان الأزرق، يمدد رجليه ويشوح بيديه: "الجمال نعمة. من لا يصونها يعمى"؟!) فهو بذلك يضيف جانبا جديدا من جوانب شخصية نعيم عوض الله، ويتركز هذا الجانب حول شيئين الأول شرب الحشيش، والثاني ذكر النساء، وفي ذلك إشارة إلى عدم اكتراثه بالحياة وأحداثها، أو الأخذ بجدِّيتها، ولكنها حريص على إذهاب عقله في حالة من النشوة، ثم يأتي الملمح الثالث من ملامح شخصية نعيم عوض الله، وهو (نعيم رجل خباص) وقد ورد لفظ (خباص) في المعاجم العربية دالا على الإيقاع بين الناس (الخبَّاص: صيغة مبالغة من خبَصَ: من يسعى بالوقيعة بين النَّاس بنشره الأخبار الكاذبة – خبَص الفتَّانُ بينهما :سعى بالفتنة والوقيعة بينهما، نقل كلامًا عن أحدهما يسوء الآخر – الخَبْص: أشدُّ من الكذب) ومن ثم فإن لفظ (خباص) ذو دلالة سلبية؛ لأنه يدل على الوقيعة بين الناس بالكذب، بيد أن النص يصف نعيم عوض الله بأنه خبَّاص، ثم تصف أفعاله التي اتقدت هذا الوصف، فيقول (فهو حين يذهب إلى السوق ليشتري قميصا جديدا من الحرير، يختلف على السعر، يقوم من مجلسه ليؤكد أن هذا الثوب بالذات مهرب من جمرك بورسعيد. فيضرب البائع أخماسا في أسداس، ويهم بلطمه غير أنه يعرف كيف يترك المكان في اللحظة المناسبة) وهي دلالة لا تخلو من مراوغة وكذب، ويؤكد الكاتب على هذه الدلالة من خلال الحديث عن عمل نعيم عوض الله؛ فهو (سمسار، وحمال، وتاجر بيض بلدي، وحداد عند الطلب، ومخلص جمركي، وشاهد زور إن كان عنده وقت للذهاب إلى المحكمة) وتزداد السلبية هيمنة على ملامح نعيم عوض الله من خلال حديث النص عن صلاته؛ فهو لا يصلي إلا يوم الجمعة مع حرصه الشديد على التوضأ في ميضأة الجامع، والوقوف في الصفوف الأولى، ولا يخلو حديثه من مفارقة حين يسأله البعض عن فعله (يقول لمن يلومه : ربنا يقبل توبة العبد، فمالنا بالح (ومن الملاحظ أن الملامح السابقة قد احتوت جوانب شخصية نعيم عوض الله الدنيوية والدينية، وكشفت عن توجهاته الفكرية، فهو إنسان غير مبالٍ بشيء؛ فهو بصباص وهلاس وخباص، وهذه صفات دنيوية تحدد علاقته بالحياة، وهو كذلك لا يصلي إلا يوم الجمعة، وهذا يحدد ملامحه الدينية، ثم ينتقل النص إلى اختلاف الناس حول شخصية نعيم عوض الله (الحقيقة أن نعيم عوض الله محل جدل لا ينتهي، فهناك طائفة من أهل الحارة تعترف بعيوبه، ويجدون أنه واضح وصريح ولا يزعم التقوى في الخفاء. يقابلها طائفة تراه ممعنا في الضلال) على أن حياته لا تخلو من تطبيق عملي لرؤيته الفكرية، كما حدث مع أنغام الممرضة بالمستشفى التخصصي التي خطبها، وعندما كانت تستعد للزواج طلب منها سلفة مالية؛ ليتاجر في قطع الرخام، ولما خسر كل أمواله، وعدها برد ما أخذه غير أنه اختفى لعامين، وقد عاد بعدها لبيت العائلة الذي يوشك على التهدم، ومعه امرأة وطفل، وكان يقول لمن يقابله: هذه زوجتي " نجية "، وهذا ابني " فؤاد الأول"، وفي ذلك استمرار لحياة غير المبالية، أما اختلاف الناس في انتمائه إلى الحارة فقد راوغ نعيم كعادته في الحصول على ما يريد، وأثبت لهم أن دمه ينتمي إلى دمهم.
لقد استطاعت هذه الجمل الركائز الكشف عن ملامح شخصية نعيم عوض الله، ولكن السؤال الذي يلح على المتلقي: هل كانت النص عن نعيم عوض الله أو عن فؤاد الأول؟ والحقيقة أن إثبات حقيقة نعيم عوض الله تستتبع وجود حقيقة فؤاد الأول، وإذا نطرنا إلى الصفات التي أوردها النص عن نعيم عوض الله فسوف نجد أنها الصفات نفسها التي اتصف بها الملك فقد عرف عنه علاقاته العاطفية المتعددة، إضافةً إلى علاقته مع الكاتبة البريطانية بربارا سكيلتون غيرها، وقد تزوج فاروق مرتين، كانت زوجته الأولى صفيناز ذو الفقار، حيث ذهب فاروق وعائلته في جولة إلى صعيد مصر، ثم جولة أوروبية، وانضمت صافيناز ذو الفقار إلى العائلة في تلك الجولة فخطبها فاروق، وتزوجها، ثم كانت زوجته الثانية من العامة، وهي ناريمان صادق، تزوجها ثم انفصل عنها بعد ثلاث سنوات، وقد أنجبا طفلًا واحدًا وهو الملك فؤاد الثاني، وقد أشار النص إلى امرأتين في حياة نعيم عوض الله، كما أصيب فاروق بهوس السرقة، فبدأ بسرقة أشياء وقطع أثرية أثناء زياراته للدول، ومنها سرقته سيف من شاه إيران وساعة جيب من ونستون تشرشل، حتى إن أشخاص العامة كانوا في كثير من الأحيان ضحايا سرقات فاروق، وقد أصبح فاروق محترفًا في السرقة حتى لقبه الشعب بلص القاهرة للدلالة على سرقاته الكثيرة، وقد أشار النص إلى كثير من هذه الصفات لنعيم عوض الله (لو سألتني : ماذا يعمل نعيم عوض الله ؟ سأنتظر بعض الوقت لأقول لك : هو سمسار، وحمال، وتاجر بيض بلدي، وحداد عند الطلب، ومخلص جمركي، وشاهد زور إن كان عنده وقت للذهاب إلى المحكمة( وقد كان فاروق ذا جذور مصرية من جهة والدته نازلي صبري، وهو ما أشار إليه النص إلى الاختلاف في انتمائه إلى المصريين، واحتجاجه بدمه، وبعد ذلك كله هل نستطيع القول بأن قصة (فؤاد الأول) تدور حول حياة الملك فاروق واختلاف الاراء حوله، وانقسام الناس حول تقييم فترة حكمه؟ لقد ظلت فترة حكمه تفرش ظلالها على الأماكن كلها سلبا أو إيجابا، وانتقادا أو انحيازا، وفي جميع الأحوال فقد شغل الناس، وهو ما عبَّر عنه النص بقوله (صحيح أنه لم ينجب " فؤاد الثاني" ولا " فؤاد الثالث" لكن نظرته الملكية ظلت تهيمن على المكان) لقد شغل الناس ما بين من يرى أن فترة حكمه كانت مزدهرة، ومن يرى أنها كانت تعج بالمفاسد.


*****

فؤاد الأول
سمير الفيل

نعيم عوض الله رجل بصباص . كل من في الحارة يعرفون هذا عنه، غير أنه لا يعتدي أبدا على نساء الحارة بالكلام أو بالإيماءة، بل يخرج ليتشمم نساء غريبات، ويكتفي بتلقيح الكلام، فهو ينظر للسماء مثلا، يقول: " القمر بعيد .. مين يقرب لي القمر"؟!".
أحيانا يتفتق ذهنه عن حيلة ليقول كلماته المشحونة بالرغبة، ويمضي في سلام، عندما يرى امرأة جميلة، يصيح في حائط بجواره: " أنا عاشق جمال النبي ".
يحرص حين يتكلم أن يمسك بيده كوب شاي تفوح منه الرائحة العطرة ، لا ينتهي منه قبل مرور فتاة أو ظلها، ففي رأيه أن الشاي يهب العاشق شحنة من الصفاء تجعله يسمو لسابع سماء: الصحة وسلامة القلب.. يا رب.
نعيم رجل هلاس، فهو يذهب كل ليلة ليشرب قطعة الحشيش التي توضع على كرسي الجوزة، عندما يسطله الدخان الأزرق، يمدد رجليه ويشوح بيديه: " الجمال نعمة. من لا يصونها يعمى"؟!
نعيم رجل خباص، فهو حين يذهب إلى السوق ليشتري قميصا جديدا من الحرير، يختلف على السعر، يقوم من مجلسه ليؤكد أن هذا الثوب بالذات مهرب من جمرك بورسعيد. فيضرب البائع أخماسا في أسداس، ويهم بلطمه غير أنه يعرف كيف يترك المكان في اللحظة المناسبة.
لو سألتني : ماذا يعمل نعيم عوض الله ؟!
سأنتظر بعض الوقت لأقول لك : هو سمسار، وحمال، وتاجر بيض بلدي، وحداد عند الطلب، ومخلص جمركي، وشاهد زور إن كان عنده وقت للذهاب إلى المحكمة.
لا يصلي نعيم عوض الله سوى يوم الجمعة، ويحرص على الوضوء في ميضأة الجامع ثم يتجه للصفوف الأولى حتى يكون ثوابه مضاعفا. يقول لمن يلومه : ربنا يقبل توبة العبد، فمالنا بالحر .
الحقيقة أن نعيم عوض الله محل جدل لا ينتهي، فهناك طائفة من أهل الحارة تعترف بعيوبه، ويجدون أنه واضح وصريح ولا يزعم التقوى في الخفاء. يقابلها طائفة تراه ممعنا في الضلال، وعلى الحاكم العادل إقامة الحد عليه حيث يخوض في مسائل دينية ليس متفقها فيها.
أغرب ما ينسب إليه حكايته مع أنغام الممرضة بالمستشفى التخصصي فقد خطبها بخاتم وسلسلة من ذهب عيار 21 . وحينما كانت تجهز نفسها طلب منها سلفة مالية ليتاجر في قطع الرخام، ولما خسر كل أمواله، وعدها برد ما أخذه غير أنه اختفى لعامين، والفاتحة مقروءة.
عاد بعدها لبيت العائلة الذي يوشك على التهدم، ومعه امرأة وطفل في اللفة، قال لمن قابله: هذه زوجتي " نجية "، وهذا ابني " فؤاد الأول" . هكذا أسميته وإن شاء ربي سيكون لي " فؤاد الثاني " و" فؤاد الثالث " . لاشك عندي أن واحدا منهم سوف يضع التاج على رأسه، ويمسك الصولجان بيده . سوف يحكم بالعدل، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.
راجعه أهل الحارة قائلين له : الملكية انتهت، وأنت كشخص لا تجري في شرايينك دماء زرقاء!
ماذا يمكنه أن يفعل، هذا الشخص البصباص، الهلاس، الخباص ؟!
جاء بالمشرط، وجرح يده، فسال الدم على معصمه، نادى أصحابه الذين انزعجوا لمرأ ى الدم . قال لهم كي يخجلهم ويضعهم في موقف الضعف : انظروا للون الزرقة. قولوا الحق ولا تكذبوا. الكذوب في النار الموقدة .
حدقوا في الدم الذي بدأ في التجلط، فوجدوا زرقة غير معهودة، زرقة لا يمكن إنكارها . نطق أكبرهم سنا: معك حق. دمك أزرق لا جدال في ذلك. لكن يا سيد نعيم، الملكية ألغيت. وأنت مهما رحت أو جئت، صعلوك مثلنا . فما الذي يحشرك بين الملوك ؟
لم يتلجلج نعيم في كلامه، بل صارت حجته أقوى، وهو يرصف الكلمات المدججة بالشواهد: يبدل الله المرء من حال إلى حال.
من زاوية بالمقهى صرخ شخص يكن له العداء : ونقود أنغام؟؟
رد عليه وهو يرمقه بغل وعناد فيما يواصل شرب قهوته: في موعد محدد، سيصلها المبلغ بلا نقص قرش واحد.
وقد سدد بالفعل كل ديونه، وكان يخرج مع نجية، وهي مكشوفة الشعر، إذ ترتدي أزياء مودرن، وذراعها في ذراعه كالأجانب . لو رفع أحد شباب المقهى عينه في عينيه النافذتين، يقف كي يرغمه على الانكماش في أحد الاركان: خليك في حالك.
نشأ الابن فؤاد محتفظا باللقب الذي وسمه به" فؤاد الأول"، وبالرغم من أن موظف السجل المدني رفض التسمية وكتبه باسم " فؤاد" فقط، فقد جرى اسم الشهرة على لسان الجميع.
مات نعيم عوض الله ذات مساء، وهو يعبر شريط القطار دون أن يأخذ حذره. وجدوا جثته وقد تمزقت إربا عند الفلنكات الخشبية، وكان وقتها في عز شبابه، صحيح أنه لم ينجب " فؤاد الثاني" ولا " فؤاد الثالث" لكن نظرته الملكية ظلت تهيمن على المكان .
شيع أهل الحارة القتيل في جنازة مهيبة، أغلب من مشى فيها طلب له الرحمة فهو رغم تفانينه الغريبة ابن لهذه الحارة البائسة. قليل ممن رفض المشي في الجنازة دعوا الله أن يسدد رأسه في جهنم حتى يكون عبرة لمن لا يعتبر .
كل الحارة تعرف أن الله حليم ستار، استمرت نجية تسكن الحارة مع ابنها" فؤاد الأول" ولم ترض بالاقتران بأي عريس ممن تقدموا لها، لأنها تدرك في قرارة نفسها أن زوجها كان عشري، كريم، واصل للأرحام.
ربما حين يكبر " فؤاد الأول"، تتحقق نبوءة الأب حيث يكون للابن شأن عظيم، هي الآن تغلق النافذة المطلة على نهر الشارع، وتحكم وضع الترباس، ككل البيوت الآمنة في الحارة. وهي تتمتم في سرها : ولا يوم من أيامك يا نعيم باشا.

26/11/ 2019


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى