عبدالله السفر يكتب عن كمين الحكاية في ليل ضال مثل بلاد ضائعة

شجنٌ ضاربٌ حتى أقصى الجذور. يمسك بصاحبه وقتَ حلمه ويقظته وما بينهما، فيما الذكريات أبلغُ محرّك ليهجمَ الحنينُ بضراوة.
فهد العتيق، في كتابه «ليل ضال مثل بلاد ضائعة»، دار روافد للنشر 2018 . هو هذا الممسوس بالماضي قريبه وبعيده ويجذبه سحرُ المكان ووقائعه؛ الحارة المكنونة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، تفدحُ به وتأخذه إليها عبر دروبٍ لا تكون سالكةً كل مرة. ثمة تيهٌ واقفٌ بثقبه الأسود يلتهمُ ويلتهم؛ تيهٌ يراقب وبيدِهِ صكُّ قصاصٍ لا يحتمل التأجيل. وكأنما هناك وجهٌ للانتقام يستوفي ثمن الغياب والترك والارتحال عن مكانٍ لا يزول وإنْ درسَ وإن نأى.. وعن زمنٍ يظلُّ محفورًا بعلاماته الخفيّة على جلد الروح. زمن لا يُطمَر. بئرٌ مموّهةٌ تفور لأقلّ الوطء، ومكانٌ يمثُلُ كلّما سرَى الخدرُ في الجهات وغامَ الوقتُ وتلفّعَتْ مزولته بالظلال العميقة.

إن الانفراجةَ، التي تتيح الإطلالة على الماضي بأمكنته وشخصياته وما يموج هناك من أحداثٍ مضت ولكن أثرها لم يمضِ، تُعطِي انطباعًا أن العينَ الذاهبة تستقصي وتستعيد إنما هي عينُ الشخص الحاضر في ثيابه الآن وفي حضوره الزمني الآن. هي رحلةٌ مختومةٌ بـ «الآن»، لا تجعل الجلد غضًّا ولا تريق السواد على شعرٍ أبيض. وربما هذا مكمن الحسرة التي تتردّد في أكثر من نصٍّ سواءٌ في تلك النصوص المكتوبة قبل سنة أو قبل ثلاثةِ عقودٍ ويزيد. ثمة وعيٌ لا يسمح بالالتحام. ثمة مسافة تستعصي على الحلم ولا تقدر الذكريات على تذويبها. تلك المعاينة، بهذا الوعي المنتبه الصارم، يفسّر الحرقة والألم وغشية الشجن التي تمتدّ على مدار النصوص. وهنا يمكن أن نفتح نافذةً سينمائية على فيلم «الأبدية ويوم واحد» للمخرج اليوناني الراحل «ثيو أنجيلوبولوس» - لتأكيد المسافة والوعي وانعكاساتهما شعوريًّا - حيث الشخصية الرئيسية تسترجع الماضي «فلاش باك» بهيئتها التي هي عليها دون حذف الزمن ولا أثره.
مع أغلب الحكايات التي تمضي إليها الذات الإبداعية في «ليلٍ ضال...» يبرز السردُ المشغول شعريًّا («كمين الحكاية»، «ليل ضال مثل بلاد ضائعة»، «يمضي مثل عابر سبيل»، «الأناشيد والناس»، «أنفاس الليل»، «أبواب وطرقات حائرة»،...) والذي يستمد شعريّته لا من مناخ اللغة وبلاغتها - وإنْ كان العتيق ينجح في اصطيادِ بعض الصور عبر التشبيه وتوظيفها في نصه - إنما من الحالة التي يعمل عليها مشهديّاً ويقتنص زوايا التعبير عنها واستخدام التكرار، لكلماتٍ أو جمل، بما يمثّل إيقاعًا وعودّةً وعنصرَ تبئيرٍ يجذب حركة النص ويدفع بها إلى ما هو أرحب رؤيةً وإلى ما هو أغنى جماليّاً..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى