أيمن دراوشة - جدالات الاستشراق

منطق العلاقة بين العقل العربي والعقل الأوروبي

يقول عبد الأمير الأعسم إنه ظهر على الساحة الثقافية نوعان من التحريف في القرون 14،15،16، ويرى أن التحريف الأول هو:

إنَّ الأوروبيين كانوا منبهرين بالشرق لما وصلهم من تراث عربي إسلامي، وما ورثوه من اخبار الحملات الصليبية على الشرق، وبدأت طلائع الاستشراق العقلي لعصر النهضة مع راموسيوس الإيطالي وكرستينوس البولندي، وهو العصر الذي شهد التطور والتجديد في الفنون والعلوم والآداب، ونحن هنا أمام سلطة جديدة للقراءات الأوروبية المختلفة للفنون والعلوم والآداب التي وصلت إلى اللاتين من العرب والمسلمين، بما يتلاءم وحجم متغيرات عصر النهضة الأوروبي، " وتبدل عقائده، ونمو واضطراد الأحكام التي حكمت الروح الأوروبية الجديدة، بصدورها متعصبّة أصلاً ضد العرب المسلمين تعبيراً جديداً عن فهم جديد للعداء الكامن بين المسيحية والإسلام، وبين اللاتين والعرب، وبين الشمال والجنوب! ". (6)

هذا الأمر سيؤدي نحو إنتاج مستشرقين سيعملون على التقليل من قيمة الدور العربي الإسلامي في تشيد بناء الحضارة في العصر الحديث.

أما الثاني: فهو تجاهل إنجازات العرب والمسلمين " في أعمال العلماء والفلاسفة الذين برزوا في القرون الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر. كما لاحظنا أن من الفلاسفة والعلماء اللاتين من اقتبس نصوص الفلاسفة العرب، فانتحلها، عن قصد أو غير قصد ". (7) وهذ أدى إلى دخول لأفكار الفلاسفة العرب والمسلمين في عمق البناء الفلسفي والعلمي عنهم.

إنَّ علماء التأريخ لتواريخ الفلسفة، عملوا على التقليل والحط من شأن مؤثرات العقل العربي في تكوين العقل الأوروبي من خلال المرور عليهم مرورًا سريعًا لا يتناسب وحجم تأثيرهم في بناء الفلسفة والعلوم الأوروبية.

إنَّ العلماء والفلاسفة اللاتين الذي اقتبسوا بحرية من العرب والمسلمين، " حفّزوا العلماء والفلاسفة الأوروبيين في عصر النهضة على انتحال النصوص ". (8)

وليس صوابًا ما يذهب إليه الاستشراق " إنَّ الفلاسفة اللاتين لم يقرأوا النصوص الفلسفية العربية إلا ليعدّلوها. وينقضوها، ويردّوها وينحوا إلى اتجاه مخالف لها ". (9)

إنَّ العلماء والفلاسفة المستشرقين قدموا لنا تحريف وتزيف للاتصال الفلسفي والعلمي العربي والعقل اللاتيني، ولا ريب إنَّ هذا الأمر نابع من النظرة الاستعلائية ونكران الجميل وتشويه متعمد لإسهامات العرب في تكوين العقل الأوروبي.

لقد أنجز المستشرقون العديد من البحوث والدراسات، واهتموا في الدراسات الإسلامية فدرسوا العقيدة وصوروا الإسلام منذ الرسول الكريم اعتمادًا على السير والتاريخ من تراثنا، فتناولوا القرآن الكريم في تفسيرات وتم ترجمته، وعملوا على نقده بقسوة وربطوا الكثير من الموضوعات القرآنية بالإسرائيليات، وهذا قادهم لدراسات التصوف والتشدد الديني والطائفي، واختلافات المذاهب. ودرسوا التاريخ العربي والإسلامي وعملوا على " تقديم صور مختلفة اجتماعية وسياسية واقتصادية عن مجتمع الحضارة العربية الإسلامية، يكمن في الكثير منها تزوير لحقائق معروفة، أو تنكيل بالعرب المحدثين عندما يجدون تاريخهم نهبا للأطماع والحكام والأنظمة الفاسدة والأعاجم. لذلك، فدراساتهم التاريخية تقوم على تقسيمات جغرافية وإقليمية وعنصرية ومذهبية وطائفية، هيأت الظروف التي تتزامن مع نشوء النهضة العربية وانبعاث الأمة العربية في العصر الحديث ". (10)

في محاولة لتفكيك وتشتيت الأمة العربية. كما درسوا اللغة العربية وأصولها وعلاقتها باللغات الأخرى، ودرسوا قواعدها وفقه اللغة، والعروض، وأخذ اللغة العربية واقتباسها من اللغات الأخرى. كما درسوا الأدباء والشعراء العرب من حيث جذورهم وعقائدهم والمؤثرات التي وقعت عليهم.



أزمة الاستشراق من وجهة نظر المستشرقين



يعتبر مكسيم رودنسون أنَّ أزمة الاستشراق الحالية نابعة من إهمال المستشرقين التقليديين

(المتمسكين بالمنهجية الفيلوجية ) مثله لتطور العلوم الإنسانية، ويعزو ذلك إن الوقت قصير فوقت الباحث قصير وكذلك عمره.

كما يركز على مشكلة العرقية المركزية الأوروبية، ودخول الباحثين القوميين ابناء البلدان المبحوثة ميدان البحث العلمي، وهم على الأغلب يميلون إلى رمي انجازات الاستشراق لاعتقادهم إنه ملوث بالعرقية الأوروبية، ودافعه الأساسي الولوج إلى العالم العربي والإسلامي واستغلاله، ويدعم رأيهم النظرة السلبية لتراثهم وثقافتهم.

وهو لا يعترض على دخولهم معترك التوغل في ثقافتهم، كما لا ينفي حقهم في " النضال من أجل الدفاع عن قيمهم ومصالحهم القومية ". (11)

ويعترض على أنَّ البعض من الباحثين القوميين " يتجاوزن الحد في الاستخدام الإيديولوجي لأصولهم لكي يفرضوا أنفسهم كناطقين رسميين باسمها ولكي يفرضوا الصمت على مخالفيهم في الرأي موحين لهم بتهمة الوصم بالعنصرية كنوع من الابتزاز ". (12)

كون ذلك يضر بالعلم نفسه وحتى بالبلدان ذاتها أكثر ما يضر الغرب الأوروبي.

ويبدي مكسيم رودنسون اهتمامه ببعض الباحثين العرب، فيقول عن كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" إنه حقق نجاحًا باهرًا في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وأنه شكل صدمة نفسية للمستشرقين، فهو ساعد في تحديد إيديولوجيا الاستشراق الأوروبي، وخاصة الإنجليزي والفرنسي، لقد حدد الإيديولوجيا "من خلال تبلورها في القرنين التاسع عشر والعشرين وعلاقتها الجذرية بالأهداف السياسية والاقتصادية والأوروبية لتلك الفترة، ويأخذ عليه تأوله لبعض مؤلفات المستشرقين ويعزو ذلك لحساسية سعيد المفرطة اتجاه ردود أفعال المفكرين الأمريكيين والأوروبيين، ويتفق مع سعيد في نقده اللااستشراق التقليدي، ويقول: عن الصدمة الذي أحدثها كتاب الاستشراق إنها " مفيدة جداً إذا ما دفعت بالمختصين إلى إدراك أنهم ليسوا بريئين إلى الحد الذي يدعون أو حتى إلى الحد الذي يعتقدون. كما أنها ستكون مفيدة إذا ما دفعت بهم إلى محاولة أخذ الوعي بالأفكار العامة (أو بالخلفيات المسبقة) التي ينطلقون منها بشكل لا واع وإلى فرزها وتوجيه نظرة نقدية إليها ". (13)





الهوامش

1- المعجم الوسيط. القاهرة: مجمع اللغة العربية، المجلد الأول، د ت، ص 482.

2- موقع ويكيبيديا. ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.

3- إدوارد سعيد. الاستشراق (المعرفة. السلطة. الانشاء). ترجمة كمال أبو ديب، بيروت: منشورات مؤسسة الأبحاث العربية، ط4، 1995م، ص 101.

4- المرجع السابق نفسه.

5- للاستزادة انظر: محمد أركون وآخرون. الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، ترجمة هاشم صالح، بيروت: دار الساقي للطباعة والنشر، ط3، 2016م، ص 88.

6- عبد الأمير الأعسم. دراسات في الاستشراق. دمشق: منشورات دار الفرقد، ط1، 2011م، ص 42-43.

7- الرجع السابق. ص 43.

8- المرجع السابق. ص 45.

9- المرجع السابق. ص 46.

10- المرجع لسابق. ص 60.

11- محمد أركون وآخرون. مرجع سبق ذكره، ص 94.

12- المرجع السابق نفسه.

13- المرجع السابق. ص 106.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى