د. خليل قطناني - صور مبتكرة في شعر مريد البرغوثي ( الخريطة والرصيف)

(الحلقة الأولى)

استقبلت شعر مريد بادىء الأمر في أثناء اشتغالي برسالة الدكتوراة التي تناولت الشعر المقاوم ما بين عامي (1987-1993)
وبتقديري أن القصيدة المرادية بعامة كانت- منذ البدء- ناضجة فنيا ،وليس ذلك فحسب ،بل إن المتلقي يلمس التعب الذي تملّك الشاعر في أثناء طقوس التأليف الشعري التعب الذي لا ينافي التلقائية بالطبع.
والأسطر الشعرية الآتية تؤكد ما ذهبت إليه من الحكم على شعر مريد البرغوثي من النضوج الفني عبر تكوين الصورة الفنية التي تحيل إلى البعد النفسي والأثر الإنساني والمتن الثقافي .
من تلك الصور التي يصف فيها الأم الفلسطينية، بالتأكيد ليست البيولوجية فقط بل في رمزيتها إلى فلسطين الأم الوطنية أيضا ، يقول مريد البرغوثي:
تمشينَ بينَ مسالكٍ فيها المهالكُ
دانياتٌ والنَّجاةُ بعيدةٌ
والخوفُ كالذِّئبِ الأليفِ بباب بيتكِ صامتٌ مٌتَّنعِّمٌ
بالشمس يُغلقُ عينَه، ويطلُّ بالأُخرى عليكَ
على خطاكِ على
نواياكِ الصّغيرة
يشتغل النص على تصوير المضمون الوطني الملتبس بالبعد القومي العائم وما تعانيه الثورة من عدائية مزدوجة، وقد تجلى هذا العداء باستدعاء دال الذئب، بوصفه رمزا متداولا في ذهنية المتلقي العربي، وعلى الرغم من تكرار صورة الذئب في الموروث الديني كما هو معلوم عن قصة النبي يوسف عليه السلام ،وكذلك في الشعر العربي ، ونستذكر هنا قصيدة الفرزدق التي يحاور فيها الذئب ومنها :
وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما / أخيين كانا أرضعا بلبان
كما ويصف البحتري الذئب أيضا في نص يتواجه فيها الشاعر والذئب فيرديه قتيلا يقول :
عوى ثم أقعى فارتجزت فهجته/ فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد
فأوجرته خرقاء تحسب ريشها/ على كوكب ينقض والليل مسودّ
وعلى الرغم من استدعاء الشعراء لرمزية الذئب وتجليها كصورة مستهلكة موضوعيا ،إلا أنها تبقى محملة بمعطيات فنية لا متناهية بما يمنحها الشاعر من إبداع تصويري يعبر من خلاله عن عالمه المأزوم، ويفضح عالمه النفسي الداخلي، على نحو يجلي تجربته الشعرية .
ومعلوم بالبديهة أن الذئب من السباع الوحشية التي تتمتع بخاصية الغدر والخداع و الافتراس
غير أن مريدا يفجؤنا بصورة مبتكرة تتسع فيها المسافة الجمالية بين خبرة القارىء ومعطى النص وذلك عبر تقنية فنية تتجاوز التشبيه البلاغي القديم بمفهومه التقليدي لتقفز نحو التصوير البصري والسمعي في بعديه الفني والنفسي ، تتمطى هذه التقنية في تصوير الخوف وهو شيءمعنوي مجرد بالمحسوس "الذئب"، ويبغي الشاعر من وراء ذلك أنْ تمثُل صورة الذئب المخاتل أمام القارىء كواقع تعيشه فلسطين في عديد محطاتها.
وتصوير الخوف بالذئب صورة جديدة،تكمن جديتها في الصفات التي أضفاها الشاعر على الذئب، فهو ذئب أليف، وهنا يكسر الشاعر أفق توقعات القارىء بحسب نظرية التلقي ،إذ كيف يكون الذئب أليفاً؟، وهنا تبدو طزاجة الصورة الشعرية؛ فهذا الذئب يبدو كالأليف أمام البيت يستمتع بالشمس حتى لا يلتفت إليه أحد، أو يشك في فعله ،فلا هو عدو ظاهر ولا هو صديق واضح .
ولعله من المفيد الإشارة إلى أن الشاعر يستعيد صورة الذئب جماليا في تناصه مع بيت بيت حميد بن ثور الهلالي
ينام بإحدى مقلتيه ويتّقى
بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع
لم يكن استدعاء الذئب في النص فضوليا أو استعراضا فنيا بقدر ما هو خلخلة تجاوزية لفضح الواقع المستمر الذي واجهته القضية الفلسطينية على نحو يجليه الفعل الزمني الحاضر ( تمشين ) في رصدها حتى في نواياها الصغيرة من جانب العدو القريب المخاتل .
#خليل قطناني / #مريد../ #الذئب الأليف



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى