نعيمة الواجيدي - قراءة في قصيدة (قلتُ في خاطـري وكـان عليـلا) للشاعر أ. د. مصطفى الشليح

في هذه القصيدة يتحول الشاعر إلى ناقد ينظر لتجربته الشعرية ،فيخلق حوارا طريفا بينه وبين ذاته التي تتجلى في صورة الخاطر،وهو حوار يكشف عن تردد الشاعر بين النظم على وزنين مختلفين ،ينعت أحدهما باسم الفراشة،وهو الوزن الخفيف الذي نظمت عليه القصيدة،ويشبه الوزن الثاني في جزالته بالعمود ،وهو الوزن الطويل الذي وصفه المعري في كتاب الصاهل والشاحج بملك الأوزان كلها،وجعل الخفيف من أوزان العامة ،وهي أوزان الدرجة الثالثة بعد الكامل والوافر،وهما وزنا الدرجة الثانية من حيث الأهمية،يكشف الشاعر عن قوة إيقاع الطويل ،حين يقول على لسان الخاطر
هات شعرا كالعمود وإلا
تربت منك القافيات عويلا
وهو، إذ يدعوه إلى النظم على الطويل الذي اكتسب جزالته من وفرة مقاطعه وانسجام إيقاعه،يدعوه إلى مناكبة كبار الشعراء القدماء الذين ركبوا الطويل
كن خليلا للنابهين كلاما
تركب الخيل عدة وصهيلا
ولما كان الوزن الطويل هو البحر الذي ركبه كبار الشعراء،فإنه سيمنح قصائد الشاعر سمات القوة ويجعله فارسا قويا للكلمة الشعرية ،وهو ما عبر عنه بصهيل الخيل ،وكأن هذا الصهيل يحاكي إيقاع الوزن الطويل،ويقبل الشاعر هذه المغامرة ويعد بالنظم على هذا الوزن الذي سيمنح شعره الأصالة والقوة.يناقش الشاعر قضية نقدية أخرى تتعلق بالحداثة الشعرية،فحين يصف الخاطر الحداثة بالغرثى،والغرث هو الجوع،ويصف شعرها بالنحول،فإنه يعبر عن موقف نقدي من بعض تجارب الحداثة التي تفتقر إلى مقومات الشعرية،سواء تعلق الأمر بالإيقاع،أم بمختلف خصائص اللغة الشعرية،ولهذا فإنه يعود إلى أصالة الشعر العمودي الموزون في أبهى صوره وتجلياته،إنها انتفاضة الشعر العمودي الذي تنبثق شرارته قوية، فقد لاحظنا في الوقت الراهن أن القصيدة العمودية عادت بكل قوة وعنفوان،لتناقش قضايا العصر،ولا سيما السياسية منها ،ولتكشف عن قدرةالقصيدة العمودية على ممارسة النقد السياسي..
ذكرني الشاعر مصطفى الشليح،وهو ينظر لشعره من داخل القصيد نفسه،بالشاعر العباسي أبي تمام الذي خالف معاصريه ونقاد شعره في تجربته المتفردة،والذي دافع عن رؤيته الشعرية في كثير من قصائده. وإذا كان كل شاعر ناقدا بالضرورة،فلم لا يصول مصطفى الشليح في مجال النقد،راكبا أوزان الخليل،مؤصلا لهذه التجربة الفريدة التي تجعلنا نقبل على شعره الجزل لغة،والقوي معنى ومبنى،والٱسر وزنا وإيقاعا...إننا نلمح التكلف والتقليد
في تجارب بعض من يركبون الأوزان الخليلية في عصرنا،ولكننا نشعر بأصالة الشعر وصولته وعنفوانه حين نسمع القصائد الجياد التي يبدعها،ويبتكر فيها صورا جديدة وقوية تنبئ أنه فعلا شاعر أصيل مجدد.



* القصيدة:

قلتُ في خاطـري وكـان عليـلا = كيفَ لم تكتب القصيـدَ قليـلا ؟
تهتَ فـي عالـم الفراشـةِ حتـى = نسيتكَ العروضُ بحـرا طويـلا
أعرضتْ كـلُّ القافيـاتِ ومالـتْ = واستحالـتْ شيئـا يـعـزُّ بـديـلا
خلتَ أنَّ المسـاءَ ينـدى مسيـلا = بانزيــاحـاتٍ تستبـيـحُ المسـيـلا
تتمـادى طـيَّ الغمـوض كلامـا = يتـنـادى إذا تـصـادى سـبـيلا
يتخـفَّـى فـمـا وسـعــتَ بـيـانـا = غيـرَ مـا قلـتَ ثـمَّ كنـتَ دلـيـلا
حالـمـا واهـمـا بـأفـق مُـحـيـل = كـنـتَ أفـقـا للقافـيـات مُـحـيـلا
قـال لـي كلـمـا أتــى مُشرئـبا = طـرفـه فــي قصـيـدةٍ ومُـجـيـلا
ويــداه التـفـاتـــة مـــن زمـــانٍ = قـد تـولـى وكــان قـبـلُ خلـيـلا
مقلـتـاه حكـايـــة عـــنْ جـمـيـل = والمساءاتِ حيثُ ضمَّت جميلا
حـاجـبـاه إشــــارةٌ لا تُــــورَّى = بالكنايـاتِ الـزرق قــالا وقـيـلا
هـاتِ شعـرا كمـا العـمـودُ وإلا = تربـتْ منـك القافـيـاتُ عـويـلا
خـلِّ مـا تكتـبُ انتـهـاءَ مـعـان = هـذيـانـا فـما أتـيــتَ سـبـيـلا
خــلِّها تـلـكـمُ الـحـداثـة غـرثـى = فلـمن تكتـبـون شعرا نحـيـلا
خلِّها وحدَها.. وطـفْ بالمجالي = مزهـراتِ الفضاء لفظا جليلا
كــنْ خلـيـلا للنابهـيـن كـلامــا = تركـبِ الخـيـلَ عُــدةً وصهـيـلا
أنــتَ لا تملكُ انفـلاتـا فـريـدا = كلمـا العقـدُ نـاظـمٌ لــنْ يمـيـلا
قلتُ: كانتْ رؤيا وتأويلُها لـي = إنما فيـم البحـرُ ميـلا وميـلا ؟
سـوفَ آتيـكَ بالعـموديِّ ســرًّا = كيْ أقولَ القصيدَ، بعدُ، أًصيلا
إنمـا حسبـيَ الفـراشـة مأوى = لكـلام يـطـوفُ بــي مُستحـيـلا
سوف ألقي إلـى المتاهـة قـولا = فــإذا كــانَ كـنـتُ مـنـه نـزيـلا
لغتـي منـفـايَ الألـيـفُ مقـامـا = بـيـنَ لا أيــنَ أقتفيـنـي خلـيـلا
والتَّـحـيـاتُ للخـلـيـل خـزامــى = وأنــا أنــأى بالقصـيـد سبـيـلا
.
قيلَ: فاغربْ لك المنافي قوافٍ = ضلـةً حـتـى تستـقـلَّ الطـويـلا
.
قـلــتُ: لا بـحــرَ للـفـراشـة إلا = خوفُها ذاتَها .. ولـنْ تستقيـلا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى