عبدالله البقالي - التربية و حماقات الأجيال

حللت يوما ضيفا على إحدى الإعداديات لتأطير لقاء ثقافي- وهو شئ لا أتحمس له عادة بسبب صعوبته - و هذا يعني أن المستهدفين من النشاط هم شابات و شباب مراهقون. و هذه الفئة العمرية تحدث لها تحولات كثيرة و إن كانت تظهر بحدة عند الفتيان الذين يكونون في الغالب اكثر اندفاعا. ذلك أن المراهق يصر على أن ينتزع من العالم اعترافا بكونه لم يعد طفلا. و أنه يتوجب التعامل معه كإنسان راشد بعيدا عن كل اشكال الوصاية و الاستصغار، وهو ما قد يشكل عقبة تجعل التعامل معه عسيرا إن خلا من الحذر و الحكمة. و قد يسبب ذلك صدامات عنيفة تكون لها عواقب يمكن أن تؤثر على مسار العمر بأكمله.
بالإضافة لهذا ، فمصدر التخوف الإضافي هو تأثير هذا التحول الرهيب الذي نسف المفاهيم المشتركة المرتبطة بالتعلم و التثقيف عند هذا الجيل مقارنة بما كان عليه الأمر عند الأجيال السابقة. فالتثقيف عند الأجيال الحالية يعاش و يمارس أكثر مما يلقن. و هذا ينتج أبعادا مختلفة عما كان عليه الأمر. فالتثقيف سابقا كان من ضمن أهدافه ربط الإنسان بصيرورته ككائن من خلال محاولة استيعاب الدروس التي لها علاقة بالصيرورة ، وهو من شأنه أن يرفع قدره و يعطي لحياته أبعادا أكبر من تلك التي تنحصر في مجرد كسب لقمة العيش. بينما التثقيف الذي تفرزه الآن تلك الآلية الرهيبة المرتبطة بثقافة الإستهلاك تغيب الإنسان و تلغي الأزمنة و تدفع الكائن ليعيش اللحظة فقط. وهنا يظهر الفارق بين الحفر في العمق و بين التوقف عند الصورة البادية و الدعوة لجعل العصر عصر احتفاء بالجسد. و بمبرر أنه العنصر الذي غيبته كل الثقافات البائدة
كل هذا شكل بالنسبة لي خطين متنافرين لا تقاطع بينهما. وهو ما كان يدفع كي أسائل نفسي مرارا: لماذا أنا هنا ؟
هذا الوضع كان مجسدا بكل وضوح داخل القاعة. فبالإضافة إلى اللباس المثير، و الخرائط و الخطوط الهندسية التي علت الرؤوس، فقد كان كل شاب تقريبا يجلس بجوار خليلته. لحد ان البعض منهم لف ذراعه حول جيدها و ضمها إلى صدره. ولو كان هذا قد حصل في زمان شبابنا، فأكيد كانت ستحصل انعكاسات يصعب حصرها. فعلى الأقل كان سيجتمع المجلس التأديبي. و يدين الواقعة. و يعمد إلى اتخاذ قرارات التوقيف أو قد تصل إلى الطرد. ناهيك عن رد فعل الأسر خارج المؤسسات. و الأكثر إثارة أن هذا كان يحدث على مرأى من الإداريين و الأساتذة الذين كان حضورهم في الغالب من باب مجاملة الإدارة من أجل توظيف سلطتهم المعنوية لجعل التلاميذ يلتزمون الهدوء.
أسئلة كثيرة راجت في ذهني و أنا أتأمل المشهد. و أحاول في الوقت نفسه رصد انعكاس صورتي في أعين الشباب. و في الوقت نفسه كنت أفكر في المدخل المناسب لمخاطبة أشخاص من عينة مختلفة لا يبدو عليها أنها مهتمة بإيجاد مشترك مع فئة اجتماعية تراها متجاوزة، و لا شي لديها لتقدمه. و في كل مرة كنت أنتهي إلى فرضيات مخيفة.
حين منحت فرصة التحدث. كانت هذه الهواجس هي ما عبرت عنه. و أوضحت للحاضرين أن لدي أسئلة شبيهة بأسئلتهم. فهم قد يقولون و يتساءلون عما يمكن أن يقدمه لهم إنسان قادم من عصور الوصاية. و أنا اتساءل عما يمكن أن يجمعني بجيل وصف قديما ب" التجال بوضريسة " و طرحت السؤال ما فوق السؤالين ما إن كان ذلك هو اللون الوحيد الذي يمكن أن يلون و يختصر هذه العلاقة؟
كان لا بد ان يفهموا أن هذا الذي يعدونه فارقا يميزهم، هو شئ لا يخصهم لوحدهم. و أنه لايمكن أن يمتلكونه إلى النهاية. و المثال هو أني لم أخلق بالصورة التي أظهر عليها الآن. و أني يوما ما كنت شابا في مثل عمرهم. و أني كأبناء جيلي تركنا الشعر يطول لينزل تحت الأكتاف. و لبسنا أقمصة ملتصقة بالجسد في المنتصف لتتسع في الأسفل. و أننا لبسنا سراويل كانت فتحاتها عند الأقدام تتجاوز النصف متر. و أن الإناث لبسن تنورات قصيرة جدا لا تجرؤ بنات جيلهم على لبسها اليوم. و أن هذا لم يخص الجيل الذي أنتسب إليه فقط. فقد كان للأجيال اللاحقة موجاتهم أيضا. وهم لن يكونوا الموجة الأخيرة. و يوما ما سبجدون أنفسهم في مكاني ينظرون إلى مظاهر أجيال وهم يتخذون أشكال لباس قد لا يصورها خيالهم. كل هذا متغير و عابر. و لكل جيل حماقاته. لكن ما الذي يعد ثابتا و لا يمكن تغييره أبدا.
إنها القيم الإنسانية الخالدة. الحرية و الكرامة و العدل و نبذ التمييز.
كلما أهنت ستوظف كل شئ و تناضل من أجل إعادة الاعتبار. و كلما سلبت منك حريتك ستخوض الحروب و تسترخص الغالي و النفيس من أجل استعادتها . و كلما هضمت في حق من حقوقك، ستقيم الدنيا و تقعدها من أجل استرجاع ما سلب منك. هذه هي المبادئ التي لا تقبل التغيير. و لا يمكن أن تتعامل معها على أساس انها مجرد موضة أو موجة عابرة. و هذا هو ما يستحق أن نبذل المجهود من أجل تحقيقه و قبل ذلك تعميق وعينا به. و من أجل ذلك نحن نجتمع هنا ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى