أسامة الرحيمي - العائش في الرواية!

ـ حين قال الأديب الفرنسي المعروف «ستاندال» صاحب رواية «الأحمر والأسود» الشهيرة:«إن الرواية مرآة تتجول في الطريق العام» كان يبشر بالدور الجوهري الذي اضطلعت به فعلًا في قابل الزمان، وأثبتته عبر قرنين لاحقين علي تلك المقولة، حيث ازدهر هذا الفن علي أيدي مبدعين أفذاذا، حفروا له مجرى عميقًا متسعًا، استوعب تيارات هادرة، جعلت الرواية تبدو نهرًا دافقًا من الإبداع.
وبين الآباء المؤسسين تربع الراحل الكبير «نجيب محفوظ» الذي يُظِلَنا عَامَهُ المائة (من 11/12/ 1911 إلى 11/ 12/ 2011) المتمم لقرن من الدأب والإخلاص.
فمنذ بواكيره إنحاز للرواية، حين تعرض لمفاضلة قاسية بين اشتغاله بالفلسفة، أو احتراف الأدب، فكان ـ بنص كلامه ـ يمسك بكتاب فلسفة في يد، وباليد الثانية قصة طويلة لـ «يحي حقي» أو«توفيق الحكيم»، فاشتبكت في رأسه المذاهب الفلسفية مع أبطال القصص «في صراع رهيب لا يعرف مداه إلا من عاش فيه».
وعن هذه الإشكالية المبكرة قال: «..كان عليّ أن أقرر شيئًا أو أُجن. ومرة واحدة قامت في ذهني مظاهرة من أبطال «أهل الكهف» الذين صوّرهم «توفيق الحكيم»، و«البوسطجي» الذي رسمه «يحي حقي»، والفلاح الصغير الذي لا يعرف من الدنيا أبعد من حدود عيدان الغاب المنتصبة علي حافة الترعة في رواية «الأيام» لـ «طه حسين»، وأشخاص كثيرين من أبطال قصص محمود تيمور، كلهم كانوا يسيرون في مظاهرة واحدة، وقررت أن أهجر الفلسفة وأن أسير معهم».
واختار هذا الفن الحديث وقتها علي الإبداع المصري بملء إرادته، لأنه وجد في الرواية وفق تعبيره: «اللحظة أو الموقف الواحد اللذين تمتاز بهما الأقصوصة، وفيها نجد التحليل والنقد كما في المقالة، ونجد الحوار والموقف الدراماتيكي كما في المسرحية، وفيها متسع للتعبير الشعري، والخيال الشعري إن وجد الاستعداد لهما كما في الشعر، بل إن في الرواية إمكانيات الوسائل التعبيرية الأحدث منها كالإذاعة والسينما، وبينما نجد في كل شكل فني مجالًا محدودًا للتعبير لا يستطيع الفنان أن يتجاوزه، فإن الرواية لا حدود تحدها.. فهي شكل فني لا نظير له».
وكتب عشرات القصص القصيرة، ونشرها في المجلات السيارة، وكانت باكورتها «ثمن الضعف» في «المجلة الجديدة» أغسطس 1934، وتبعها بأخريات في جريدة السياسة، ومجلات الرسالة، والرواية، ومجلتي، والثقافة، وجمع منها لاحقًا أولي مجموعاته القصصية «همس الجنون».
وشجّعه «سلامة موسى» الذي احتفي به وسانده في خطواته الأولي، علي ترجمة كتاب «مصر القديمة» للكاتب الاسكتلندي «جيمس بيكي»، ونشره في المجلة الجديدة 1934، ويبدو أن هذا الكتاب كان سبب تفكيره في كتابة تاريخ مصر القديمة كاملًا في سلسلة تمتد لخمس وعشرون رواية. لكنه لم يقدم منها سوى الثلاث المعروفة فقط، «عبث الأقدار، ورادوبيس، وكفاح طيبة»، التي سريعًا ما فارقها إلي الرواية الحديثة، متخليًا عن مشروعه كتابة تاريخ مصر القديمة بالأدب، مفضلًا عليه تاريخ مصر الاجتماعي المعاصر، لما يراه من المكابدات السياسية والإنسانية التي يعانيها الناس.
وفي ذاك الوقت أصدر الكاتب «عباس محمود العقاد» كتابه «في بيتي» وكان يشبه المونولوج، افترض فيه وجود قرين له يلازمه في تنقلاته بأنحاء بيته، ويسأله في شئون شتي، من بينها ما يُفَضِلَه من القراءة، وعن قلة كتب القصة في مكتبته، فأجاب العقاد بكلام فيه استخفاف صريح بالرواية، وأنه يفضل الشعر عليها، باعتباره الفن الأول بتقديره، والرواية عنده كالخرّوب (كتبها الخرنوب) كما وصفه المثل الشعبي «قنطار خشب ودرهم حلاوة»، فبادر بعض قراء مجلة «الرسالة» التي كان العقاد أبرز كتابها لمناقشة رأيه هذا علي استحياء، وبعتب المحبين، لكن الأديب الناشئ «نجيب محفوظ» الذي كان يتحسس بداية طريقه آنذاك، آثر تفنيد رأي العقاد بثقة لا تخلو من تحد وسخرية، وفي مجلة الرسالة أيضًا نشر مقالته «القصة عند العقاد» التي ذهب فيها إلي: إن وصف العقاد للقصة بأنها ليست من خيرة ثمار العقول، وما قاله لصاحبه، في بيته، حين لاحظ ضآلة نصيب القصص في مكتبته، من أنه لا يقرأ قصة حين يسعه أن يقرأ كتابًا أو ديوان شعر، إنما هو أمر يسلب العقاد حق الحكم علي القصة، فالرجل الذي لا يقرأ قصة حين يسعه أن يقرأ كتابًا أو ديوان شعر ليس بالحكم النزيه الذي يقضي في قضية القصة. والرجل الذي يلاحظ علي مكتبته صغر نصيبها من القصة ينبغي أن تكون القصة آخر ما يرجع إليه في حكم يتصل بها، بل إنه يفضل النقد ـ لا الشعر والنثر الفني وحسب ـ علي القصة، والنقد ميزان لتقويم الفنون، فكيف يفضّل علي أحدها؟ وهل تنزل القصة هذه المنزلة عند أحد إلا إذا كان لها كارهًا وعليها حاقدًا؟!».
وبدأ نجيب محفوظ ردّه علي العقاد المستخف بالرواية ــ أو القصة كما أسماها ــ برفض المفاضلة بين الفَنَّيْنْ غير المتعارضين، وإن اختلفت اشتراطات الإبداع في كل منهما، فهما يتفقان في الأهداف كما قال: «إن الفن ـ أيا كان لونه وأيًّا كانت أداته ـ تعبير عن الحياة الإنسانية، فهدفه واحد وإن اختلفت كيفية التعبير تبعًا لاختلاف الأداة، وكل فن في ميدانه السيد الذي لا يبارى، ففي عالم اللون التصوير سيد لا يعلى عليه، وفي دنيا الأصوات الموسيقي سيد لا يدانى، فالفنون جميعا تتفق في الغاية، وتتساوي في السيادة كل بحسب مجاله. وهي في مجموعها تُكوّن دنيا الأفراح والمسرّات والحرية، حيث يعيش أبناؤها علي وفاق ومحبة وتعاون، لا يكدر صفوهم مُكدِّر إلا أن يتصدى رجل كبير كالعقاد لدنياهم المطمئنة، فيرمي بحيرتها الساجية بحجر ثقيل يُطَيِّن رائقها، ويبعث الثورة في أطرافها، فيقول إن هذا اللون من الفن راق وذاك منحط، هذا عزيز وذلك مبتذل. ولن يفيد الفن شيئًا من تحقير العقاد لبعض أنواعه، إلا أن يغضب قوما أبرياء يحبون الحق كما يحبه، ويولعون بالجمال كما يولع به، ويبذلون في سبيل التعبير عنه كل ما في طاقتهم من قدرة وحب.
ولفتني في رد نجيب محفوظ عدة ملحوظات، أولها موضوعيته بالرغم من أنه كان في فورة الشباب (تجاوز الثلاثين بقليل)، حيث اتخذ موقفًا مبدئيًا في الدفاع عن قيمة فنية رفيعة، ولم يتهيب مكانة العقاد كعملاق كما كان يراه العموم، ومن دون أن يهدرها أيضًا. والثانية تحيُّزه الجاد لفن الرواية، باعتبارها رهانه المستقبلي، وخياره الاستراتيجي الوحيد، الذي احتشد له من وقتها وأبلى فيه بلاء حسنًا، وقدم فيه ما لم يستطع غيره أن يقدمه، وربما كان يُحسّ قدر موهبته، التي أسهمت بنصيب الأسد في تأسيس قواعد الرواية العربية، التي شهدت ازدهارًا مذهلاً، وإلي الآن، لدرجة باتت معها علامة عصر، بظهور مصطلح «زمن الرواية» الذي التقطه الناقد الكبير «د.جابر عصفور» واتخذه عنوانًا لأحد كتبه المهمة. ولم يتردد محفوظ أيضًا في ردّ العقاد كما يردّ المحامي القاضي إذا ما وجد سببًا لذلك، ويبدو أنه أصاب العقاد، أو أقنعه، فلم نشهد له ردًا علي إفراطه في حسن ظنه بنفسه، والاعتداد بآرائه وعدم تراجعه عنها - كما اشتهر عنه - فربما لم يكن يميل لفكرة تصويب وجهة نظره علانية إذا ثبت عدم دقتها، كما بدا في هذا الأمر، ويبدو أنه آثر الصمت إذ وجد نفسه في حرج أمام رد نجيب محفوظ المُفحِم.
والبادي أن محفوظ كان يدرك أين يضع قدمه، ويعرف ما يتحدث عنه يقينًا، فلم يكتف بدحض مقولات العقاد، بل دفعه تعلقه بمحبوبته الرواية للتغزل بها واستعراض مناقبها في جمل حازمة: «إن الإبداع الفني لا يتمثل في عمل أدبي كما يتمثل في أدب القصة»، وهي عنده «أبرع فنون الأدب التي خلقها الإنسان المبدع في جميع العصور»، وأعاد أسباب انتشارها وسيادتها علي بقية الفنون الجميلة إلى «روح العصر»، مؤكدًا أن الشعر شاع:«.. في عصور الفطرة والأساطير، أما هذا العصر، عصر العلم والصناعة والحقائق، فيحتاج حتما لفن جديد، يوفق علي قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق، وحنينه القديم إلي الخيال، وقد وجد العصر بُغيَته في القصة، فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار، فليس ذلك لأنه أرقي من الزمن، ولكن لأنه تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائمًا للعصر، فالقصة علي هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة».
ولم يألُ«محفوظ» بعد ذلك جهدًا ولا وقتًا، فانقطع لكتابة الأدب بإخلاص، وبناء مشروعه الإبداعي، الذي أوقف عليه عمره، ولم تكن الوظيفة الحكومية في حياته سوي سبيل للعيش يعينه أكثر علي التفرغ للأدب، ومصدرًا للإلهام ينهل منه أفكارًا عبر احتكاكه اليومي بالناس، فاختلط انحيازه إليهم بحبه للرواية، بدا ذلك في أولى رواياته «القاهرة الجديدة»، التي انتقد فيها تردي الأوضاع السياسية التي دفعت بعض المجتمع إلي حضيض العدمية، كما جرى على «محجوب عبد الدايم»، الشخصية الناضجة روائيًا، وصاحب كلمة «طُظ» الشهيرة، التي يتخذها العدميون تكأة لتبرير انهياراتهم، والتخلص من منظومات قيم أثقلت كواهلهم، من دون منحهم بشارة للخلاص، ولم تعفهم من مشقات الحياة، فجاءت تصرفاتهم كمن يحاول النجاة من الوحل بالغوص فيه، فيطيّن نفسه وواقعه أكثر فأكثر.
واتسمت قدرته علي التفاعل مع الواقع بالوعي، وإدراكه دور المجتمع الذي ينتمي إليه، ومحيطه الذي يتنفس فيه، واكتسب خبراته، وعرف ناسه، فالطبقة المتوسطة ميزان المجتمع، إذا مالت مال، وإذا انصلح شأنها اعتدلت أحواله بالضرورة. مع خبرته المباشرة بحواري وأزقة القاهرة الإسلامية، التي كانت تعج بالقيم الروحية المختلطة، والعادات الاجتماعية المحافظة، ومتخمة بمكامن الفقر العاصف، ومسارب « ساعات الحظ» الخفية، ومراتع البراءة واللهو، تحت وطأة الاحتلال الإنجليزي، وفساد النظام الملكي، والتردي الفادح لأحوال المصريين المعيشية، إضافة لإلمامه الجيد بالمتغيرات اللاحقة علي ثورة 1919، وهي عنده الحدث الفارق في تاريخ الأمة، وكذا زعيمها «سعد زغلول» المثال الذي أُولع به إلي أن مات، وبقي يراه والوطن صنوان، كما قال عنهما في أحد حواراته:«.. كنت لا أفرق بين الاثنين، أحب الاثنين معا، سعد زغلول الذي أعتبره رمزا للوطنيين، والوطن الذي منه سعد وعنه يدافع، كان من الصعب عليّ في هذه الفترة التفريق بين الاثنين، ومن السهل محبتهما معا».
هذا مع الحضور الطاغي لليبرالية العظيمة وصُنّاع النهضة الثقافية المصرية الكبار، وفي الصدارة منهم «أحمد لطفي السيد» و«طه حسين» و«محمد حسين هيكل» و«العقاد» و«المازني» و«سلامة موسى» والشيخ «مصطفي عبد الرازق» و«الزيات»، و«سيد درويش» في الموسيقى، و«محمود مختار» في النحت، و«محمود سعيد» في الرسم، وهذا إجمالاً وتفصيلاً كان خليقًا بمنح موهبة محفوظ زخمًا فكريًا، وأفقًا إبداعيًا منفتحًا، فطرح عناوينه المثمرة مثل «القاهرة الجديدة»، و«خان الخليلي»، و«زقاق المدق»، و«السراب»، و«بداية ونهاية»، التي شهدت نضجه الإبداعي، وتوج تلك المرحلة بثلاثيته ذائعة الصيت «بين القصرين» و«قصر الشوق« و«السكرية»، التي أنهاها في إبريل 1952، وهي روايات احتشدت بالتباسات الواقع، وتخللتها أسئلة قلقة تحث أي قارئ علي البحث عن إجاباتها، باعتبارها تثويرًا هادئًا للوعي الفردي والجمعي. وازدحمت بتفاصيل وصفها هو بقوله: «.. أكثر التفاصيل في القصص صناعة ومكر لإيهام القارئ بأن ما يقرؤه حقيقة لا خيال، إذ أنه يُثَّبِت الموقف أو الشخص كحقيقة مثل التفاصيل المتصلة به، وكلما دقّت كان القارئ أسرع إلى تصديقها».
وبعد ثلاثة أشهر من إنهائه الثلاثية قامت ثورة يوليو 1952، فكف عن الكتابة تمامًا، في حال وصفها البعض بـ «الصمت الإبداعي»، لكنها كانت مفيدة لتأمل ذلك الحدث الضخم، الذي زلزل أوضاعًا راسخة منذ قرون، كرّست صورًا جارحة للظلم الاجتماعي، لكن محفوظًا بتكوينه الحذر، وليبراليته المكينة تشكك بانتهاج العسكر الديمقراطية، وإن سمُّوها ضمن مبادئ ثورتهم، وسرعان ما تأكدت شكوكه، لانتكاسهم علي مبادئهم، واهدار أكثر من نصف قرن من الليبرالية، بُني بمكابدات وطنية بذل فيها النخبة والشعب الغالي والنفيس.
اكتظ وجدان محفوظ بكل هذا، ودخل في تشكيل قناعاته السياسية الجديدة، فلم يستطع هضمه مباشرة، ولا الصراخ في وجهه علانية، وبلا بصوت عال، لكن بحسّه الفني، وحرفيته الأدبية، وليبراليته العائدة إلي ثورة 19 وتجلياتها في بعث الروح المصرية، وتدشين حياة مدنية حديثة، وإعلاء شأن الدستور والقانون، ورأب اللُحمة الوطنية في مواجهة التعصب الطائفي. لم يشأ أن يكون صمته أبديًا، وبعد انقشاع الغيوم، وبزوغ الحقائق، طابت له الرؤى الجديدة. وحان دور الأدب. لكن في شكل مختلف. وفي حوار بمجلة الإذاعة والتليفزيون (ديسمبر 1957) قال محفوظ عن حالة التوقف هذه:«.. لا أعرف متي أعود إلي الكتابة، ولكن عندما أستأنفها لن أعود إلي الواقعية مرة أخري، لقد مللت هذا اللون من الكتابة، وتكفيني أطنان الواقعية التي شحنتها في رواياتي. إنني أشعر بتطور في أعماقي، وسوف ينتهي هذا التطور حتمًا بطريقة جديدة في الكتابة استعملها عندما أمسك قلمي الكوبيا وأوراق العرائض مرة أخرى».
وكانت «أولاد حارتنا» عودة قوية إلي الكتابة، وفاتحة لواقعية جديدة الباعث إليها عنده حسب قوله: «.. أفكار وانفعالات معينة تتجه إلي الواقع لتجعله وسيلة للتعبير عنها. فأنا أعبر عن المعاني الفكرية بمظهر واقعي تمامًا».
وبانزياح حالة التوقف، وعودته لأسئلته الوجودية والإنسانية، فاجأ الجميع برواية «أولاد حارتنا» التي انحاز فيها للضعفاء المقموعين، وقلوبهم المسكونة بالعدل الغائب، الموجوعة بظلم نشط، وشر يتعاضد أنصاره قبالة خير ضعيف، عمره قصير كالومضات، فاستعان بقوة العلم، محاولا إنزال «الجبلاوي» من غيبيته لينظر في أمر المغلوبين، ويرفع ضيم نظار وقفه عنهم، لعله يستطيع توفيق أفكاره بصيغة ما مع توجهات «عرفة»، رمز العلم والثورة، الذي تمرد علي البطريركية العتيدة، وربما كانت تلك إشارة من زاوية ما «لأبوية عسكر يوليو الباطشة»، أو الاستبداد في عمومه الذي أرهق البشرية علي امتداد عصور أليمة، ما جعل الناقد الكبير الراحل «محمود أمين العالم» يرى أن «أولاد حارتنا»: «توكيد للمعنى الإنساني الصرف للأديان، وأن جوهر الدين هو العدالة والأمن والكرامة والحرية والمحبة والخير، هو التقدم للإنسان، وأن العلم امتداد واستمرار لرسالة الأديان، وهو وسيلة لتحقيق أنبل أهدافها»، وأضاف أن: «عرفة لم يكن مجرد مخترع، بل زوج عاشق، زوجته تدعي عواطف. وفي الزواج معنى من معاني اللقاء بين العلم والشعر، العلم وإنسانية الإنسان».
إذن. كان التوقف عن الكتابة استراحة ضرورية لشحذ الرؤى، والتقاط الأنفاس، واحتشاد لعناء البحث عن «سيد سيد الرحيمي» في متاهات «الطريق»، ذلك الأب الغامض، الرمز العصي علي الظهور، دينيًا أو دنيويًا، لينزل العدل بين أبنائه، وطرح التخوفات السياسية، والهواجس الفلسفية بشكل أعمق وأكثر حيوية، في «اللص والكلاب» و«الشحاذ»، و«ثرثرة علي النيل» و«ميرامار»، ما يعني أن نجيب محفوظ العائد إلي رواياته لم يكن معنيًا بشئون وطنه وحسب، بل قضايا الإنسان عامة، لا انفصال عنده بين مكان وآخر، ولا اختلاف بين زمان وغيره في أوَلِيّات القضايا الإنسانية، فيما يخص الوجود والحريات والكرامة، وأبدي مقته لفساد وانتهازية «رءوف علوان» في «اللص والكلاب»، و«عيسي الدباغ» في «السمان والخريف» و«سرحان البحيري» في «ميرامار»، النموذج الثوري الانتهازي المتكرر الذي تعقّبه بلا كلل في أعمال عديدة له. وعبر هؤلاء وغيرهم من شخوصه، نثر آراؤه في أعماله، يمكن لأي مهتم واع تجميعها بسهولة كقطع «البازّل»، ليعي موقفه بشكل ظاهر، ويفهم مقاصده، ويعرف أنه ظل في مسعى نشط علي امتداد مساره الإبداعي، يدور مع الإنسان في مكابداته، التي تضفي على حياته أهمية وحيوية، وتمنح سعيه نحو مُثُله العليا قيمة أرفع، وسط إصرار الإخفاقات على ملاحقته، ورمي صخرة سيزيف إلي السفح كلما أوصلها إلى القمة.
لم يأت ذلك التوهج المحفوظي من عدم، ولم يذهب بددًا. بل كان نتاج رصد دقيق، واعتناء دءوب، ورؤى سياسية لمبدع منتمٍ، وشجاعة داخلية خلّاقة، بعكس ما يوحي ظاهره، ودهاء ومرونة في مراوغة صُنّاع القمع، رهانًا علي خلود الإبداع وتجدد معانيه، وضعف القهر تدريجيًا وزواله بالتقادم، فالأدب ديدنه المواربة والتخفي، وعدم المباشرة تجعله مستغلقًا على أفهام مترصديه، فيبدو على نحو ما سخرية من فشلهم، وعجزهم عن فهم ما يمر من تحت ذقونهم، وفي هذا الصدد أظهر «محفوظ» براعة لافتة باستخدام الرموز الملتبسة، والأسماء الموحية، وتغليف المضامين، وتمويه الاتهامات، في مدارات أوسع من قدرات العقول المتشنجة، إمعانًا في السخرية من عسس الأدب، وأركان النظام المتغطرسون بجهلهم، كما حدث مع مسئول رفيع في الستينات سأله عن حكاية «ثرثرة علي النيل؟» فرد من فوره:«.. دا كلام حشاشين»، وضحكا معًا، من دون أن يتنبه السائل لبراعة الكاتب، ما يكشف قدرة الإبداع علي تفادي منزلقات الواقع.
ولم يقف النضج بمحفوظ عند حد، فانفتح على المدى، في الرؤى، واللغة، والمغامرة والتجريب، في الشكل والمضامين، وتجلت صوفيته الإنسانية، وصفاؤه اللغوي في ملحمته «الحرافيش» التي رأى البعض نسخة مكتملة من «أولاد حارتنا»، وأن هذه الأخيرة كانت «بروفة جنرال» للحرافيش، وهو فيها يهيم خلف أسئلة فكرية حيّرت العالمين، تدور حول تحولات الإنسان، وتقلبات الزمان به، ففيما ينكسر الجبار العاتي، وتذوي قوته وبعد توحشه وتربصه بالخلق يصبح مدار إشفاقهم، وأمثولة يعتبرون بها ويتندرون عليها، ويتحول المعدم الحافي إلى متسلط قاس، متنصلًا من تاريخه، متجبرًا علي بني جلدته، في جدلية وصيرورة سرمدية، لا تكف عن إنتاج أسئلة متلاحقة تعجز الإجابات عن إدراكها، أو فض مغاليقها، ليعلق علامات استفهامه في أعناق الكافة كالأجراس، حول أزلية الشقاء الإنساني، دوّامة مكرورة المشاهد. يصفو عبرها سرد محفوظ كروحه، وتأتي جُملَه بليغة متفجرة، ملضومة في خيط الفكر الجارح، متصلة وإن تناثرت:«ألا يبالي رجال الله بما يقع لخلق الله؟.. متى إذن يفتحون الأبواب ويهدمون الأسوار؟.. حتى متى تشقي حارتنا وتمتهن؟.. لمَ ينعم الأنانيون والمجرمون، ولمَ يجهض الطيبون والمحبون؟.. لِم يغط في النوم الحرافيش؟».
وكيف تكون حياتنا، وكيف نعيشها؟ فتوات أم حرافيش، أم فتوات وحرافيش، من الفاعل والمفعول به، وهل يمكن أن تتحكم إرادة الإنسان منفردة في الصيرورة القدرية، وهل يمكن أن يجتمع الحرافيش لمواجهة الفتوات؟.
فهل كان نجيب يقصد حارة يعرفها وعاشها، أم حارة حوّمت بمخيلته فقط، أم حارتنا التي نسكنها الآن، وحياتنا المعيشة، ومعاناتنا الآنية، أم حارة سكنها الأسلاف في حضارة غابرة، بمعاناة مرّرت عيشهم، وظلم ممضِّ نغّص حياتهم، كما يُنغِّصها علينا اليوم؟.
ربما كانت الرواية معنية بواقع ما، أو حقيقة تدور مع الإنسان وجودًا وعدمًا، بين مشقة اليومي التفصيلي، أو طوباوية أرهق الإنسان تنكُّبها، ترقبًا لحلم استعصى علي الجميع، ذلك العدل الذي راوغ البشرية، منذ النشأة الأولى، وإلي أجل غير منظور دائمًا في سائر العصور، ذلك العدل الذي دفع «عاشور الناجي» للمحاولة، هذا المجهول النسب الذي التقطه الشيخ «عفرة زيدان» الكفيف، ولقّنه القرآن، والتعاليم الأخلاقية، وزرع في وجدانه بذرة الخير، فبرّ بالفقراء وشملهم بحمايته، وتصدي للمتجبرين الذي سلبوا شقاؤهم، وأوصي ابنه «شمس الدين الناجي» من بعده ألا يتردد في نصرة الضعفاء، وتجنب غوايات الشيطان، فليس ثمة ما يساوي «طهارة الضمير».
والحق أن التنوع الإبداعي، والتجريب كانا من أسباب الاحتفاء النقدي بأعمال محفوظ في كل مراحله، إلا أن الأمر لم يخل من تفسيرات أيدلوجية لأعماله، وانحيازاته، وإن كانت قبل كتابته الثلاثية، كما ذهب الدكتور «عبد العظيم أنيس» إلى أن محفوظ: «كاتب البرجوازية الصغيرة، وليس المُعَبِّر عن القوى الاجتماعية الجديدة التي تكافح لكي تؤكد وجودها، أعني الطبقة العاملة المصرية»، والبرجوازية الصغيرة بنظر «أنيس» هي:«.. الشريحة الاجتماعية التي توفر نجيب محفوظ علي دراستها، بكل أوهامها وفرديتها،وبكل آمالها وتناقضاتها، بكل رغبتها في التخلص من الجذور القديمة التي تربطها بالطبقات الشعبية الفقيرة».
وأنه برأي «أنيس»:«.. المعبر عن مأساة البرجوازية الصغيرة في المرحلة الثانية من الكفاح الوطني، وهو يحرك نماذجه البشرية في إطار هذه الطبقة الاجتماعية ويحمّلهم أوهامها، ويضع علي أكتافهم كل أوزار تناقضاتها..»، «..والحقيقة أنه حين يعبر عن مأساة البرجوازية الصغيرة، فإنه يعبر بالدرجة الأولى عن مأساته هو، إنه يسجل مأساة طبقته، لكنه لا يرى أبعد منها».
وحمل «عبد العظيم أنيس» على «محفوظ» لتقديمه شخصيات ضعيفة تتحدث عن اشتراكية حالمة، وعدالة اجتماعية باهتة، ولأن البطولة في أعماله شابها نُكوص على الرواية في عهودها الأولى لارتباط محفوظ بالأدب الغربي البرجوازي، فلم يقدم بطلًا ثوريًا حقيقيًا، بالإضافة إلى عيب وضع حوار فصيح على ألسنة شخصيات شعبية في أعماله.
ويبدو أن الدكتور «أنيس» ظل متمسكًا برأيه هذا إلى أن مات ولم يبد تراجعًا عنه، ولم أعثر له ـ في حدود سعيّي ـ على رأي مكتوب مخالف لهذا الكلام لاحقًا، لكن الناقد اليساري الكبير «محمود أمين العالم» ذهب باتجاه مغاير تمامًا بالرغم من شراكتهما في الفكر والطريق، وتقاسمهما تأليف الكتاب الشهير «في الثقافة المصرية» (1955) الذي أحدث دويًّا في الوسط الثقافي العربي عند صدوره، ودشن مصطلح ونظرية الواقعية الاشتراكية النقدية التي تم تفسير مئات الأعمال بمعاييرها، وكان لها أبلغ الأثر في قراءة الإبداع لعقدين علي الأقل علي أساس أيدلوجي، وتدشين ودعم كُتَّاب ضِعاف لمجرد أنهم من البروليتاريا، فأصابوا من الشهرة ما هو كثير مقارنة بأعمالهم الهزيلة.
لكن «محمود أمين العالم» للحقيقة تخفف من غُلَوَاء تلك النظرة بعد سنوات قليلة، وكتب مقالات عديدة صحح رؤيته فيها لأعمال «نجيب محفوظ»، خلال الستينات ضمّنها في كتابه «رحلة تأمل عبر عالم نجيب محفوظ» (1970م) خلص في تقديمه له إلى أن: «أدب نجيب محفوظ أرفع صورة متكاملة نابضة لأديب عربي معاصر، يمتزج فيها المفكر بالشاعر بالمناضل امتزاجًا خلاقًا».
وخلال الثلاثة عقود الأخيرة ظل «نجيب محفوظ»، مخلصا لأسئلته حول الإنسان، في الزمان والمكان، فهو المعني بشئون الوطن كما في «أمام العرش»، و«يوم قتل الزعيم» وشجون الإنسان في «ليالي ألف ليلة» و«رحلة ابن فطومة» و«العائش في الحقيقة»، وكلها مع غيرها في تداعيات السياسة، وتجليات الوجودية، التي بقيت تشاغله حتى آخر نفس، والملاحظ في أغلبها أن لغته باتت رائقة تمامًا، وعالمه شفاف كالوجد الصوفي، خاصة في «أصداء السيرة الذاتية» و«أحلام فترة النقاهة»، المفردات تذوب في مضامينها الفلسفية، والمعاني مفهومة وغامضة، قريبة للقلوب ومحيرة للأذهان، وتضفي عليها أثيريتها غموضا محببا، ماضية إلي أبدية أكثر غموضًا، لكنها تحلق بالأذهان مع تساؤلات ممتعة مؤلمة، من نحن؟ وما حدث لنا؟ ولماذا؟ وإلى أين نسير؟ وهل كنا مُخيّرون أم مُسيّرون؟ وهل كنا نملك من أنفسنا شيئًا أفضل مما حدث؟
يقول الراحل العظيم في أصداء السيرة الذاتية تحت عنوان «فيلسوف صغير جدا»:«يطاردني الشعور بالشيخوخة رغم إرادتي وبغير دعوة. لا أدري كيف أتناسى دنو النهاية وهيمنة الوداع. تحية للعمر الطويل الذي أمضيته في الأمان والغبطة. تحية لمتعة الحياة في بحر الحنان والنمو والمعرفة. الآن يؤذن الصوت الأبدي بالرحيل. ودع دنياك الجميلة واذهب إلي المجهول. وما المجهول يا قلبي إلا الفناء. دع عنك تُرّهات الانتقال إلي حياة أخرى. كيف ولماذا وأي حكمة تبرر وجودها؟ أما المعقول حقا فهو ما يحزن له قلبي. الوداع أيتها الحياة التي تلقيت منها كل معني ثم انقضت مخلفة تاريخا خاليا من أي معنى». (من خواطر جنين في نهاية شهره التاسع).
ومن «أحلام فترة النقاهة» قال في الحلم1:«أسوق دراجتي من ناحية إلي أخرى مدفوعًا بالجوع، باحثًا عن مطعم مناسب لذوي الدخل المحدود، ودائما أجدها مغلقة الأبواب، وحانت مني التفاتة إلى ساعة الميدان فرأيت أسفلها صديقي، فدعاني بإشارة من يده فملت بدراجتي نحوه وإذا به علي علم بحالي فاقترح علي أن أترك دراجتي معه ليسهل عليّ البحث، فنفذت اقتراحه وواصلت البحث وجوعي يشتد، وصادفني في طريقي مطعم العائلات، فبدافع من الجوع واليأس اتجهت نحوه علي الرغم من علمي بارتفاع أسعاره، ورآني صاحبه وهو يقف في مدخله أمام ستارة مسدلة، فما كان منه إلا أن أزاح الستارة فبدت خرابه ملأى بالنفايات في وضع البهو الفخم المعد للطعام، فقلت بانزعاج:
ماذا جرى؟
فقال الرجل:أسرع إلى كبابجي الشباب لعلك تدركه قبل أن يُشطِّب، ولم أضيع وقتا فرجعت إلي ساعة الميدان، ولكنني لم أجد الدراجة أو الصديق».
هذا النوع من الكتابة يعد بمثابة «ذروة الحكمة» لدى أي مبدع جاد كنجيب محفوظ، ويعكس من جانب ثان علاقة الإنسان الجدلية والعكسية بالمعرفة، فكلما ازدادت تجاربه زادت شكوكه، وكثرت أسئلته الفلسفية، وكلما علم أكثر شعر بأنه لا يعرف شيئًا، فهذه جدلية الحياة الكبرى، والنقطة الفاصلة بين المفهومية والجهالة، وبين المبدعين العظماء، الذين يملئون حياتنا متعة وسعادة وتساؤلات، مجدية، وغيرهم من العاديين الذي يجلدوننا بِلَغْوِهم، كما ذهب المتنبي في بيته الشهير:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله.. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.
وهذا يقودنا إلي مقولة الناقد الكبير الراحل «د.لويس عوض» في 1962:«ما عرفنا كاتبًا من الكتاب ظل مغمورًا مغبونًا مهملًا عامة حياته الأدبية دون سبب معلوم، ثم تفتحت أمامه سبل المجد دفعة واحدة في السنوات الخمس الأخيرة دون سبب معلوم أيضا، مثل نجيب محفوظ، وما عرفت كاتبًا رضي عنه اليمين والوسط واليسار، ورضي عنه القديم والحديث ومن هم بين بين، مثل نجيب محفوظ، فنجيب محفوظ قد غدا في بلادنا مؤسسة أدبية أو فنية مستقرة، تشبه تلك المؤسسات الكثيرة التي نقرأ عنها، ولعلك لا تعرف ما يجري بداخلها، وهي مع ذلك قائمة وشامخة، وربما جاء من السُيّاح، أو جِئ بهم، ليتفقدوها فيما يتفقدون من معالم نهضتنا الحديثة، والأغرب من هذا أن هذه المؤسسة التي هي نجيب محفوظ ليست بالمؤسسة الحكومية التي تستمد قوتها من الاعتراف الرسمي فحسب، بل هي مؤسسة شعبية أيضًا، يتحدث عنها الناس بمحض الاختيار في القهوة وفي البيت وفي نوادي المتأدبين البسطاء».
وكذا احتفت به حيثيات جائزة نوبل في إشادات واضحة:«لقد أعطى إنتاجه دفعة كبرى للقصة كمذهب يتخذ من الحياة اليومية مادة له، كما أنه أسهم في تطوير اللغة العربية كلغة أدبية، ولكن ما حققه نجيب محفوظ هو أعظم من ذلك، فأعماله تخاطب البشرية جمعاء»، و«تتضمن روايات نجيب محفوظ أشكالًا من السير الذاتية رسمها لشخصياته وتمت بصلة للظروف السياسية والاجتماعية والثقافية التي مرت بها مصر، وقد أثّر نجيب محفوظ تأثيرًا كبيرًا في مجتمعه من خلال رواياته».
ليت الكاتب الكبير «عباس محمود العقاد» شهد هذا الفوز المؤزَّر، وقرأ هذه الحيثيات ليدرك إلي أي مدى كان «نجيب محفوظ» محقًا في ردّه عليه بمجلة الرسالة عام 1945م، وأنه كان مؤمنًا بكل ما افترضه في فن الرواية، واستطاع تطبيقه في أعماله بإخلاص باهر، لأنه لم يكن يحب الرواية وحسب، بل عائشًا فيها.
بعد فوز «نجيب محفوظ» بنوبل قال:«.. الشيء الذي أعتز به أنني كنت مخلصًا لعملي ومحبًا له».



أسامة الرحيمي


* كتبت هذه المقالة في الذكرى المئوية للعظيم «نجيب محفوظ» (1911 ـ 2011 ) ونُشرت في ملحق الجمعة بالأهرام ديسمبر 2011 احتفاء بمائة عام من الأدب.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى