رشيد سكري - عوالم سفلية

كنت دائما متيما بالعودة الدؤوب إلى قراءة نصوص لرواد القصة القصيرة العربية ، التي نـُشرت ، ما بين الخمسينيات والسبعينيات من القرن الماضي ؛ أي على مدى ثلاثين عاما الماضية . في هذه النصوص صورة حديثة و متجددة للإبداع ، فيها كانت معالم سيرة الشخصيات تدون نثرا من خلال حكي مبأر ؛ بهدف كشف عن جوانب من حياة الفقد والتيه والتشرذم ، التي دأب عليها البطل ... وعاش ، وهو ينازل قساوة العيش والحياة .
لغة هذه النصوص متينة ، وألفاظها جزلة ، ولبناتها يشد بعضها بعضا ، وصورها شاعرية ، حيث يصبح الأديب ، في هذا المستوى من الإبداع ، مصورا فوتوغرافيا ، ناقلا للحياة في تفاصيلها البسيطة والممتعة في الآن نفسه . فضلا عن ذلك ، فشرط الانعكاس في الإبداع ضروري كي تتحقق بلاغة الإمتاع ، من خلال اختيار الشخصيات أكثر واقعية في الزمن والفضاء المناسبين ؛ بما يخدم رؤية الكاتب للواقع وللعالم . فالخصوصية ، التي يتمتع بها الأدب ، هنا ، هي اصطباغه اللانهائي بالفن في الأقاصي . فإذا كان الرسام يعبر ، عما يختلجه من شعور و إحساس ، بريشته و ألوانه ؛ فإن الأديب يتوسل باللغة ليشكل عوالمه و نواديه .
في " مجلة العربي " التي صدرت في يوليوز سنة 1989 ، خصصت إدارة المجلة هذا العدد للقصة العربية أجيال وآفاق ، تناولت فيه مواضيع حساسة لجهابذة هذا الفن في العالم العربي . جمع هذا العدد ، بين دفتيه ، ثلاثة أجيال . بما هي بصمت فن القصة العربية بملامحَ وتيارات ، تتجدد باستمرار . بدءا من رواد كبار كمحمود تيمور و العقاد و ميخائيل نعيمة وعبد السلام العـُجيلي مرورا بجيل الوسط ، وانتهاء بالجيل المعاصر من كتاب هذا الفن ومبدعيه .
كان تقديم هذا العدد لرئيس تحريرها الدكتور " محمد الرُميحي " ، ركز فيه على مفهوم القصة القصيرة العربية ، من خلال سياقها الثقافي، وروافدها في تاريخ الأدب العربي . فلا ضير أن يعود بنا الرُميحي ، في هذا التقديم ، إلى مقامات الهمذاني و كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ، والحريري، بما هي تحوي ـ أي فن المقامة ـ نماذج متأصلة وقديمة للقص في الأدب العربي . فضلا على أنها الجنس الأدبي الوحيد القادر على التعبير عن العصر ومزاياه ، وعن المدنية و التمدن و إفضالهما ؛ وبذلك فالقصة فن حضاري بامتياز . فأيا كانت روافد القصة ، فإنها تعيد تشكيل العالم من حولها ، كطفلة تؤوب مع ضوء القمر . ففي مسارها الطويل ، حسب الرُميحي ، خاطبت الخيال و المخيال العربيين ؛ فاستعملت في ذلك الحوار والمحاورة . واعتنت بالتشكيل و التشكل . كما أنها أمتعت بالمسرَحَة و التمسرح من خلال التمثيل في التمثيل . وهي التي قال عنها شيخ القصاصين المغاربة ، أحمد بوزفور ، في زرافته المشتعلة : " إن القصة طفلة في الأدب ، تراها من الخارج ، فتعتبرها مجرد قصة . أو لأنها لا تكتب بلغة الكبار ، التي تكون فيها الجملة كاملة والدلالة تامة " .
ففي دراسة نقدية عميقة للدكتور " إحسان عباس " ، والتي واكب من خلالها القصص المنشورة لهؤلاء الرواد ، في هذا العدد من مجلة العربي ، أصر عباس على أن إعادة تشكيل بنائية القصة ، في الأدب العربي ، أصبح أمرا في غاية الأهمية ولا محيد عنه . خصوصا وأن المحاولات الجادة لكتاب جدد ، الذين بزغوا في الساحة الأدبية ، تعد منعطفا خطيرا في تاريخ القصة العربية . وفي سبيل ذلك من الواجب ، في نظر إحسان عباس ، تجاوز أسئلة البدايات ، التي راهنت عليها القصة منذ نشأتها ؛ كإشكاليات التعريف ، وعوامل الإنتشار، الحدود الفاصلة بين القصة والرواية ، وغيرها من القضايا الأدبية ... لذا يرى إحسان عباس أن القصة العربية يجب أن تطرق مواضيع تمس الإنسان العربي في جوهره الوجودي ، وأن ترتاد ضفافا أثيلة وجديدة للتعبير عن الكينونة العربية ، خصوصا أن هذه الشعلة الأدبية المتاحة ، في التعبير عن الذات والجماعة ، صادفت بزوغ فجر استقلال معظم الدول العربية ، وخروجها المهيض من براثن استعمار غاشم ، وسراديبه المدلهمة .
من جانب آخر ، إذا نظرنا إلى المواضيع الجديدة ، التي انتصر إليها إحسان عباس في هذه الدراسة ، نجد : الغربة و الجفاف ، والوهم ، والحلم ، والخيانة و الأرض وغيرها من المواضيع الحساسة والمصيرية في تاريخ المجتمع العربي .
ففي تجربة غربة الإنسان العربي في ذاته والعالم ، بسبب الظروف السياسية ، التي دفعته إلى الهجرة والعيش في بلاد المهجر ، كتب الجزائري عبد الحميد بن هدوقة قصته القصيرة " المغترب " ، والذي صور فيها فرنسا الإنتهازية ، فرنسا القامعة الناسفة لأحلام مستعماراتها ، فرنسا المتوحشة ، حيث يجد المهاجر الجزائري نفسه في مواجهة الشرطة ، التي تهدده باعتقالات ومتابعات قضائية . فضلا عن التهم الجاهزة ؛ سرقة المال الذي مكن " علالي مولود " البطل ، من فتح مشروعه التجاري ، الذي عبارة عن مطعم في شارع قابرييل بيري في سانت وان . يقول السارد " وصلوا عند الساعة الثامنة في الوقت الذي كان فيه المحل مكتظا بالناس ، أغلبهم لم يتناول طعام العشاء ، وساقونا إلى هنا كالبقر . هل نستطيع أن نحتج أو نعمل شيئا ؟ كلا يفعلون بنا كما يشاؤون . نحن كالبقر تماما".
وظف هدوقة الحوار التهكمي كتعبير عن الإهانة ، التي يتعرض لها المهاجر الجزائري في فرنسا ، يقول السارد :
ـ " من أين جاءتك الأموال لاكتراء محل مثل هذا ؟
ـ أنا لي عشرون سنة في الشرطة ، ولم أستطع توفير ما أكتري به شقة في فندق ، فكيف استطعت أنت توفير كل هذه الأموال ؟
ـ لكن يا سيدي المحافظ ، أنت لا تستطيع أكل الخبز والبطاطس سنوات ."
ففي قصة " أحسن حمار " لعباس محمود العقاد ، والتي نشرتها مجلة العربي سنة 1971 ، كانت منعطفا في تغيير مسار السرد القصصي ، حيث لم تعد الشخصيات قاصرة على العقلاء ، بل أصبح الحمار ، كذلك ، شخصية رئيسة في تطور أحداث النص . إلا أن هذا الحمار جمح ، في القصة ، بسائحة روسية ، أثناء طلعاتها الاستكشافية للمآثر التي تزخر بها مصر ، مما اضطرت السائحة أن تؤنب صاحب الحمار ، وما كان جوابه إلا أن قال : إنه أحسن حمار في البلد .
ومن أجل تصوير الظروف الصعبة ، التي يعيشها العمال المغاربة في المناجم ، ارتأى محمد زفزاف في قصته " مهمة صحفية " أن ينقل صحفي هذه المعاناة بكتابة تقرير لأسبوعية معينة . إلا أنه اضطر المكوث معهم لفترة أطول ؛ ليقف عن كثب على حجم هذا الأذى الجسماني ، الذي تعرض له أحد المستخدمين ، مما جعل هذا الأخير في حالة انتظار. وأمام تأخر الصحفي في إرسال المقال إلى الأسبوعية ، أعترف بأنه ـ أي الصحفي ـ في حالة انتظار أيضا ، أسوة بالعامل الذي بـُترت ساقه جراء عطل في إحدى الآلات ؛ التي يستخدمونها داخل المنجم .
أما القاص جمال الغيطاني في قصة " المحصول " ، سلط الضوء على طبقة الوسطاء بين الفلاحين و المستهلكين ، الذين يغتنون بطرق ملتوية وغير شرعية . وفي هذا المسعى أراد " موجود " ، الشخصية الرئيسة في النص ، بيع محصوله الذي هو عبارة عن البسلة ، لثلاثة رجال من أهل البندر؛ ليزودوا بها لوكاندة كبيرة . وفي ذلك يكون موجود قد تخلص من المحصول ، إلا أن هؤلاء الثلاثة لم يوفوا بالوعد ، الذي قطعوه مع " موجود " ، مما تسبب ذلك في فساد المحصول .
وبهذا كانت القصة القصيرة العربية ترتاد هذه العوالم السفلية من أجل الإحساس العميق بحجم المعاناة ، التي تتنفسها الكينونة العربية . تهجير واقتلاع و متابعات ومحاكمات صورية ؛ عوالم تطارد شخصيات القصة القصيرة العربية . استطاعت ، هذه الأخيرة ، أن تعبر عن الفضاءات غير المسبوقة ، تطالعنا بعوالمها المتبدلة ، والقادرة على التشكل من جديد ؛ بهدف ألا يصبح الأدب في خطر .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى