ميمون حِرش - المهنة "معلم" أو لعنة حرف الكاف

في البدء كان التقديس لمهنة التدريس، والآن هنا، و هناك ،وهنالك يحصد رجال ونساء التعليم إهاناتٍ شتى في الفصل، ومقرات العمل، والمكاتب، والشوارع، والنتيجة بُعْدُ الشقة بين المدرس وبين صفة الرسول بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى منها، كما قال أمير الشعراء “أحمد شوقي”.
المدرس الذي كاد أن يكون رسولا تضيق به السبل، ويضرب عليه الخناق والطوق من كل الجهات، أصبح مثل البعير الصريع، تكثر من حوله الخناجر، كل يريد نصيبه من النيل به، ألصقوا به كل الهَنات، حملوه كل أوزار المجتمعات،لذلك لم بنجُ من سوطهم،ولا صوتهم، فأفرغوا عليه كل اللعنات، قالوا إنه بخيل، ووسخ، ووضيع، ومتهور… بل وهناك من اجتهد فجعله بطلا لنكات بائخة تنقص من هامته.. فما أكثر النكت التي تستبيح شخصية المعلم وتسخر منه !، وما أكثر ما قيل عنه !، ولعلَّ النكتة المشهورة التي سارت بها الركبان لها نصيب في كل مكان، وكما الأطْيَبْين رسخت في الأذهان، يحفظها الوِلْدانُ في كل زمان، ويحكيها جاهـل وفلان وعلان..
إليكم النكتة يا سادة يا كرام..
يقول الراوي:
“بدأت الحكاية في حفل رسمي باذخ حضرته شخصيات بارزة ووازنة، وبما أن “إتيكيت” التعارف تقتضي أن يقدم الأشخاص أنفسهم كما في الأفلام وليس في الواقع، بدأ الأول فقال: “الكولونيل فلان”، تلاه الثاني فقدم نفسه قائلا: “الكوموندان علان”، ثم الثالث: “الكابتن فرتلان” وحين تقدم الرابع ليقدم نفسه حار في حرف الكاف في الألقاب، ثم قدم نفسه وقال: “أنا (كُ)علم فلان”، يريد كما هو واضح (معلم).
النكتة لا تُضحك طبعاً، ولكن الموقف ربما نعم، ودعوني أوضح أمراً هو أن النصوص على اختلافها مثل المرأة الحامل تكون حبلى بقضية، برسالة، بفكرة، بإضاءة، بإشارة ما.. وكل نص منتفخ كبالون، أو كقصبة فارغة من الداخل هو مجرد هرطقة ليس إلا.
وتأسيساً على ما سبق، إذا اعتبرنا النكتة السابقة نصاً فالسؤال هو:
ـ ما الرسالة؟ وماذا يبغي واضعُها أن يقول؟..
اللازمة في النكتة السابقة تراهن على المعلم، وعلى حرف الكاف تحديداً (كموندان- كولونيل- كابتن-(كُ)عَلم( ، بقي فقط أن نضيف كلمة أخرى وهي أن “مبدع” النكتة مجرد “كامبو” (كاف أخرى تضاف، لِمَ لا؟ !) ،لأن الكوموندان أوالكولونيل أو الكابتن ما كان لأحدهم أن تقوم له قائمة لولا هذا المعلم.
إذا كانت النكتة البائخة السابقة تروم النيل من قيمة المعلم عندنا في المغرب وفي بلدان كثيرة، فلا واضعها ولا من يصيخ السمع لمن يحكيها، ولا من حولهما قادرون على أن ينكروا قيمة الرجل والمرأة من المعلمين في كل مكان؛ لأنهم بإساءاتهم لهم لن يتعدوا الناحية السلبية أبداً حين يحكون عن أشياء إن تُـبْـد لهم من هذا المعلم المكافح تطوح بهم في مزبلة التاريخ، ألا ساء ما يتوهمون..!!
فمتى كان المعلم لا يستحق؟ ألا يرون إلى أولادهم كيف يفكُّون الحروف، ألا يرون إلى أنفسهم وكيف أصبحوا يحاكون انتفاخاً صولات الأسود وهم مجرد حملان، لا يقوون، ولا يتجرؤون إلا على المعلم، في الوقت الذي يصبحون مطايا لمجرد “بوليسي” بسيط يمارس عليهم السلطة بمفهومها القديم ومع ذلك تجدهم يحاكون أبناء “أبي الهول” في صمته لا في حكمته.
إذا كانت النكتة البائخة السابقة تروم النيل ممن كاد أن يكون رسولاً فالعيب ليس في المعلم، إنما في من ينظر إليه متهكماً، يقول الشاعر:
أرى العنقاءَ تكبُـرُ أن تـُصادا فعانـدْ من تُـطيق له عــنــادا
رجل التعليم مثل العنقاء في قيمته؛ حضوره الوازن، علمه، ونكرانه لذاته… أمور لا تزيده سوى هامة تكبر أن تطالا، والمفروض ألا يزيدنا ذلك إلا تعلقاً بكل معلمي الأرض، أفلم يكن رسولنا الكريم محمد صلوات الله وسلامه عليه أكبر معلم عرفته الدنيا، بدأ بكلمة “اقرأ”، وبها أنار الدنيا بعلمه، وأخرج الأنام من الظلمات إلى النور بعلمه، ولولا هذا العلم لظلت البشرية تتخبط في ظلمات الجهل.
يقول “ابن خلدون”:
ـ “العلم علمان: علم حُمل، وعلم استعمل، ما حمل ضر، وما استعمل نفع”، ورجل التعليم من الصنف الثاني، يرهن نفسه لتعليم الآخرين حباً؛ لأنه اختار مهنته عن طواعية، فخير المهن هي التي نمارسها عن حب وهواية؛ التعليم إذن مع حبه، والتفاني في خدمة المتعلمين، وممارسة التربية قبل التدريس لا يطهر مجتمعاتنا فقط، إنما يقربنا من الله، ويجعل من يقوم بدور التعليم أقرب الناس إلى الرسول يوم القيامة مجلساً.. فكم معلماً الآن إذا صلَّينا دعوْنا له في سجودنا (رحم الله من علمنا)… هل تقدرون أن تُحصوهم؟. ما أكثرهم طوبى لهم..!!
إذا كانت النكت البائخة عن المعلم مطروحة في الطريق كما المعاني بهذا الشكل فإن مجتمعاً عربياً، منتمياً لخير أمة أخرجت للناس، ومؤسساً على مفارقات عجيبة لا زال الإنسان فيها يفرق بين هذا وذاك بالنظر إلى جيبه وسلطته.. إن مجتمعاً مثل هذا، كل التناقضات أعمدته، لا يحدث فقط أن نحط من قدر المعلمين والمعلمات، إنما نتمادى حين نتوهم أن المجتمعات بخير لولا المعلم.. مجتمع من هذا النوع ماذا يُـنتظر منه أن يفرز غير مثل هذه الخزعبلات، أكثرها قائم على أساس من الجهل وسوء الأدب متين.
المعلم نجمٌ في سماء دنيانا، ومن ينكر فهو سيكتب عند الله من الجاحدين، يقول الشاعر:
والنجمُ تستصغرُ الأبصارُ رؤيتـــــــــــــــه
والذنب للطرْف لا للنجم في الصغر !
مهنة التدريس هي المهنة الوحيدة في البلدان العربية التي يتعرض ممارسوها لضروب شتى من الإهانات، فعلى الرغم من قيمة المعلم العلمية، وسلطته التربوية، ومكانته في المجتمع.. كل ذلك لا يشفع له، وبدل تبجيله تنهال عليه معاولُ كثيرةٌ تقصم ظهره… يحدث هذا في الوقت الذي لا يحرك بعضهم ساكناً أمام لصوص مدنهم الكبار، فبسبب أساليبهم الملتوية يُحرمون القنص والحبالة، والقبس والذبالة، ومع ذلك يبدون إزاءهم كالحملان، ولا يكشرون أنيابهم الصفراء إلا مع المعلمين.. هؤلاء يريدون أن يقنعونا بأن المجتمع أبيض ناصع، والمعلم هو النقطة السوداء فيه.
هذه واحدة، الثانية يا سادة يا كرام:
لا بد من أن نكون موضوعيين ونعترف أن الوضعية التي يوجد عليها المدرس، إنما يساهم فيها أهل الدار بقسط وافر؛ لأن المعلم لم يتبنَّ موقفاً معيناً يردُّ به الاعتبار لنفسه، هو بدوره يساهم في تكريس الصورة السلبية التي يحصل حولها الاتفاق الآن لدى القاصي والداني.. ودعونا نعترف بأن وضعية المعلم المادية اليوم تسر الجيوب والناظرين، ولكن الذي يحصل هو أننا لا زلنا نتباكى دون أن نقوم بدورنا.. فصول كثيرة يهش فيها المتعلمون الذباب من فراغ، وينكشون أنوفهم من قرف، ولا يتعلمون فيها حرفاً ،لأن المدرس يعادي اللوح الأسود ويكتفي بما لست أدري ويترك أولاد الناس دون تعليم، أما رخص المرض التي تتقاطر على إداراتنا إذا جُمعت ستضاف سلسلة أخرى إلى جبال الأطلس.. نحن بشر.. نمرض، أيْ نعم.. نسافر ونحيي مناسباتنا ألف آمنا.. لكن حين نجعل كل هذا مشجباً نعلق عليه تهاوننا فنحن نساعد الآخرين على أن يعادونا…
بكلمة: علينا أن نقوم بواجبنا.
إذا لم نقم بواجبنا، ولم نحسَّ بوخز الضمير حين نتركه ستزداد الأفواه اتساعاً:
– المعلم لا يستحق..
– المعلم مرَّ من هنا دون أن يترك أثراً..
– المعلم لا يقوم بدوره..
– المعلم لا يحسن من هندامه..
– المعلم يمارس التهريب فضلا عن مهنته..
إنهم يحسُبون أنفاسه، إنهم يحْبِسون أنفاسه.. فلينظروا جيداً إلى الأشياء من حولهم، الدنيا تتغير، والثابت هي هذه الذهنيات التي تظل عصية على التأقلم مع واقع الحال.
المعلم.. المعلم.. المعلم… أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟!
دعوة: دعوه – رجاءً – يترجل؛ ليقوم بدوره.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى