د. عادل الاسطة - الفلسطيني في الرواية العربية : الياس خوري في "الوجوه البيضاء" وأسطرة الفدائي .

1 -
في الكتابة عن صورة الفلسطيني في الرواية العربية يجدر التوقف طويلا أمام الكاتب اللبناني الياس خوري ، وذلك لأنه يشكل حالة متميزة ، بل فريدة ، في الكتابة عن الموضوع الفلسطيني والفلسطينيين .
الياس خوري لبناني المولد اقترب وهو في العشرين من عمره من المقاومة الفلسطينية والتحق بحركة فتح وهي في الأردن ، ولما عاد إلى بيروت ظل قريبا منها ومن مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية التي عمل فيها بصحبة أبرز أدبائها ، والتفت إلى نصوصهم وكتب عنها ، وحين كتب الرواية كان الفلسطينيون حاضرين فيها ، وفي العام ١٩٩٨ كتب روايته " باب الشمس " وعد غير الفلسطيني الذي كتب رواية الفلسطينيين ونكبتهم .
وإذا كنت بالدرجة الأولى معنيا بصورة الفلسطيني في الرواية العربية في القرن الحادي والعشرين ، فإنه يجب الوقوف أمام البدايات ، فما كتبه عن الفلسطينيين قبل العلم ٢٠٠٠ يتقاطع وما كتبه روائيون عرب أبرزوا للفلسطينيين صورة تراوحت بين صورة اللاجيء وصورة الفدائي البطل الأسطوري .
ويمكن القول إن الفلسطيني في الرواية العربية قبل العام ١٩٦٧ لم يكن سوى اللاجيء المغلوب على أمره الذي يحزن المرء لواقعه ويرثي له ويشعر معه من ناحية انسانية .
كانت الكتابة عن الفلسطينيين في الرواية العربية قبل العام ١٩٦٧ تكاد تكون شبه معدومة ، وهذا ما توقف أمامه الشاعر معين بسيسو في مقدمة كتابه " نماذج من الرواية الإسرائيلية المعاصرة " ( ١٩٧٠ ) حين قارن بين كتابات الأدباء الإسرائيليين عن واقعهم ومحتمعهم والفرد الإسرائيلي وبين الكتاب العرب الذين يجلسون في مكاتبهم ولم يكلفوا أنفسهم بزيارة مخيمات اللاجئين والإقامة مع سكانها لتفهم معاناتهم وظروفهم والكتابة عنها ، على الرغم من أن هذه المخيمات لا تبعد كثيرا عنهم .
غالبا ما نتوقف ونحن ندرس صورة الفلسطيني في الرواية العربية قبل العام ١٩٦٧ أمام رواية اللبناني جورج حنا " لاجئة " ( ١٩٥٢ ) ، ونشير إلى أنها أول عمل أدبي صور معاناة الفلسطينيين وتعاطف معهم . وعلى الرغم من القيمة الاجتماعية والتاريخية لهذه الرواية إلا أن دارسيها لم يثمنوها من ناحية أدبية إطلاقا ، فهي مجرد عرض لواقع اللجوء من خلال صور تفتقر إلى القالب الروائي .
بعد هزيمة العام ١٩٦٧ وانطلاق الثورة الفلسطينية في العلن كتب روائيون عرب عن الفدائي ورسموا له صورة أسطورية ، وهذا ما لاحظه الدارسون الذين درسوا روايات أديب نحوي " عرس فلسطيني " وحيدر حيدر " حقل أرجوان " و " شموس الغجر " ، وإن كان هناك روائيون آخرون كتبوا عن المثقف الفلسطيني المدرس في الجامعة الذي يدافع عن فلسطين في كتابته ويقترن بالثورة ثم سرعان ما يصيبه الإحباط ويعود إلى وضعه الذي يتناسب وموقعه ، وهو ما بدا في بعض روايات السوري الأستاذ الجامعي حليم بركات مثل رواية " عودة الطائر إلى البحر " .
لقد كتب دارسون كثر عن الأعمال السابقة ؛ يهود عرب وعرب مثل شمعون بلاص وجميل كتاني وفؤاد عزام وواصف أبو الشباب وغيرهم ممن درسوا فلسطين في الرواية العربية .
تعد رواية الياس خوري " الوجوه البيضاء " ( ١٩٨١ ) واحدة من الروايات العربية التي أتت على الواقع الفلسطيني في العالم العربي ورصدت التحولات التي عاشها الفلسطينيون قبل هزيمة حزيران وبعدها حتى العام ١٩٨١ .
يمكن الوقوف أمام الفصل الخامس من الرواية لقراءة صورة الفلسطيني فيها وما آلت إليه .
يتكون الفصل الذي يقع في الصفحات ١٩٥ إلى ٢٦٤ من قسمين ؛ الأول يغطي ٥٠ صفحة والثاني ٢٠ صفحة ، ويأتي الأول على واقع الفلسطينيين في لبنان إبان الحرب الأهلية التي اندلعت في العام ١٩٧٥ ، فيم يرتد الثاني إلى ما قبل العام ١٩٦٧ ، وفي القسمين نقرأ صورتين مختلفتين تقريبا للمقاومة وللمقاومين الفلسطينيين ؛ المقاومة حين انخرطت في الحرب الأهلية واشتبكت مع اللبنانيين ، والمقاومة يوم كانت سرية وكان انشغالها بالدرجة الأولى مقارعة العدو الصهيوني من أجل تحربر فلسطين .
لا يغفل الياس خوري ، وهو يكتب عن المقاومة في القسمين ، ما قام به النظام العربي ، وهو هنا النظام اللبناني ، من ملاحقات للفدائيين وزجهم بالسجون وتعذيبهم والحيلولة بينهم وبين ممارسة النضال ، والصورة التي يبرزها للمحقق اللبناني تبدو سلبية في المطلق ، وبخلافها الصورة التي أظهرها للفدائي سمير عمرو أبو جاسم الذي تقترن الكتابة عنه بالكتابة عن أبو علي إياد القائد الفلسطيني الذي استشهد في الحرب الأهلية في الأردن في ١٩٧١ ومثل نموذجا إيجابيا ، وما زال، للقائد الفلسطيني .
إن الفدائي أبو جاسم يبدو بطلا أسطوريا في صموده في وجه المحقق اللبناني ، ويبدو مثالا للفدائي الشريف النظيف الذي يتماثل وما كتبه ابراهيم طوقان عن الفدائي في قصيدته الشهيرة " الفدائي " :
" هو بالباب واقف
والردى منه خائف
صامت لو تكلما
لفظ النار والدما "
كما لو أن الياس الذي درس شعر طوقان ينثر القصيدة ويخترع لها اسما . إن أبو جاسم " تروى عنه الأساطير ... يقال إنه كان من المقربين إلى أبو علي إياد .. يروى أنه أصيب عام ١٩٦٦ ، في معركة مع الجيش الإسرائيلي بسبع رصاصات في بطنه ، فزحف حتى الحدود اللبنانية ، وهناك أنقذه أحد الضباط الوطنيين ، أرسله إلى مستشفى صيدا ، لكن المكتب الثاني ... " .
أبو جاسم الفدائي الجريح يصمد في التحقيق ويفشل ضابط التحقيق القاسي الذي بلا رحمة في استدراجه .
هل استمر فدائي الستينيات المقاوم الشريف النظيف الذي هدفه تحرير بلاده على ما كان عليه أم أنه تغير في السبعينيات في فترة تدفق أموال النفط ؟ وهل الصورة التي نقرؤها عن الفدائيين في فترة الحرب الأهلية تشبه صورتهم في سنوات التأسيس ؟
2 - تحولات الفدائي : من السر إلى العلن ومن بطل أسطوري إلى فدائي مكاتب :
هل تغير فدائي ستينيات القرن العشرين عندما تدفقت أموال النفط على منظمة التحرير ؟
حين نتابع شخصية " أبو جاسم " في الرواية فإننا نقف أمام فدائي ظل وفيا لما تربى عليه ، في علاقته بالمال وبالناس ، ولم يتغير سلوكه الفردي كثيرا ، خلافا لغيره من القيادات التي صار لها حرس ومواكب .
رفض أبو جاسم في البداية ، حين صار قائدا ، أن يسير ومعه حراسه ، وظل الفدائي السري البسيط المتواضع هو ما يفرض عليه سلوكه وتصرفاته ، ولكنه اضطر للخضوع إلى أوامر الجهات العليا في المنظمة التي أرادت أن تحافظ على حياته ، فهو لم يعد فدائي الظل المجهول . لقد غدا قائدا معروفا والسير بلا حراسة يشكل خطرا عليه ، ومع أنه انصاع للأوامر إلا أنه لم يبالغ في الأمر وظل أقرب إلى طبيعته ونشأته .
أبو جاسم الذي رفض مظاهر البذخ والترف ولم يخضع لإغراء المال الوفير ظل أيضا يحافظ على أخلاقيات الثورة ، فوقف ، مثل " أبو علي إياد " موقفا صارما وقاسيا من التجاوزات ومن سلوكات الفتوات التي بدأت تظهر في أثناء الحرب الأهلية .
" ولكن من هو هذا الدنيء ، الذي يقتل رجلا مسكينا من أجل محبسه الذهبي . أين الرجولة؟
ثم حذف فكرة أن يكونوا هم القتلة .
- لا يمكن ، إنهم لا يقتلون من أجل محبس . هل هناك ، وبعد كل هذه البنوك التي سرقت ، من يقتل رجلا من أجل محبس ذهبي رفيع وتافه ، ولا يساوي أكثر من مئتي ليرة ."
يعترض فدائي أمام " أبو جاسم " على حياة بعض الزعماء حيث يملكون السيارات ويعيشون كالأغنياء في حين يحيا المقاتلون في فقر ، فيرد أبو جاسم :
"- هذا غلط ، دلوني على فقير واحد ، وأنا أدير له عملا شريفا " .
هنا يمكن العودة إلى القسم الأول من الفصل الخامس الذي يأتي على الفدائيين من جيل السبعينيات ؛ الجيل الذي حارب العدو الصهيوني ثم فجأة وجد نفسه ينخرط في الحرب الأهلية اللبنانية ويمارس أفعالا لم ترق لقسم من الفدائيين ، لأنها تتنافى والوعي الثوري .
فهد بدر الدين البالغ من العمر ٢٦ عاما طالب في قسم الأدب العربي في الجامعة لم يتابع دروسه بسبب عينيه " فهو لا يستطيع القراءة بشكل متواصل . أعزب " ، ينخرط في صفوف المقاومة ويتشكل لديه وعي انساني وثوري ويشارك في المعارك التي تخوضها قوات الثورة الفلسطينية والقوات التقدمية واليسارية في لبنان ضد القوات الكتائبية ، ويكون مستعدا للتضحية بنفسه من أجل إنقاذ رفيق جريح له ، ويعجب حين يصغي إلى قائده وهو يثنيه عن ذلك ، بحجة أنه ليس مستعدا للتضحية بعشرة مقاتلين من أجل إنقاذ مقاتل واحد .
أكثر مما سبق لا يروق لفهد ما ينهجه المسؤول عنه وما توافق عليه سمر التي تريد تصوير فيلم سينمائي . يرى المسؤول وترى سمر أن الحقيقة يجب أن تخدم الثورة ، ويرى فهد أن الحقيقة يجب أن تخدم الحقيقة ، وهنا يحدث الاختلاف ، فما يراه فهد لا يروق الأكثرية التي تقرر نقله إلى بيروت وإبعاده عن مناطق القتال للتخلص من أفكاره وتأثيرها .
كانت ذروة الاختلاف تتمثل في موقفه من أسير من الجهة المعادية أقدم المسؤول والمقاتلون على إعدامه . لقد استاء فهد من عقلية الثأر التي تسود وتطغى لدى المقاتلين ورأى أنه كان الأجدر ألا يقتل الأسير الشاب الخائف المرتجف وأن يعامل أسيرا لا قاتلا .
" الحرب هي الحرب " يقول الآخرون ويتصرفون بوحشية لا بانسانية ، ويكون فهد استثناء لا يؤخذ برأيه بل يعاقب عليه .
ليس فهد الفلسطيني الوحيد . هناك شخصيات فلسطينية أخرى لافتة ، فهناك سمر التي تشارك في الثورة من خلال الفن . تقوم سمر بتصوير فيلم من أجل فضح الفاشيين ، وتوافق على أن تقيم في شقة مصادرة وتبرر مصادرة أملاك الأعداء بحجة ما ارتكبوه بحق الفلسطينيين ، وتنظر للفكر الثوري ، ولكنها سرعان ما تتزوج من تاجر لتعيش حياة برجوازية .
وهناك الأستاذ الجامعي ابراهيم الذي يلتحق بالثورة ويقاتل ، فيكون أول أستاذ جامعي ومقاتل يراه فهد " هذه هي المرة الأولى التي ألتقي فيها بأستاذ جامعي ومقاتل " ، ولكن ابراهيم الذي كان يحدث المقاتلين عن " ماوتسي تونغ و بول بوت الذي ألغى المدن وجزر الخيال ، وعن حرب الشعب والثورة والتحرير وكان مقنعا ومقاتلا " سرعان ما ترك الثورة وصار ينظر للدين ويدعو إليه ، وحين يسأله فهد عما ألم به يجيب :
" - كل شيء فرط "
وأخبرني أن العودة إلى الدين هي الحل الوحيد " .
إن نموذج اليساري الذي يتحول إلى الدين ويدعو إليه نموذج سوف يطالعنا في الرواية العربية التي كتبت في العقود الثلاثة الأخيرة ، وقد تكون رواية " الوجوه البيضاء " من أوائل الروايات العربية التي كتبت عن هذا التحول ، وهذا يسجل لصالحها .
لا يكتفي الياس خوري برصد الواقع الفلسطيني من خلال هذه النماذج وإنما يبدو في كتابته ، على لسان فهد وغيره من الفدائيين ، نقد ذاتي للثورة وسلوك بعض قيادييها ، فالثورة كانت في السر ثورة مختلفة ، وحين ظهرت إلى العلن اختلفت ، وكان الفدائيون مقاتلين حقيقيين يوم لم يملكوا المال ، وحين امتلكوه اختلفوا و " صرنا نتلهى بأمور لا معنى لها " و " صاروا يكذبون ويدعون الشجاعة " فأين هم من أبو جاسم أو من أبو علي إياد؟.


المراجع :
- الياس خوري ، الوجوه البيضاء ، دار الآداب ، بيروت ، ط١ / ١٩٨١ ، ط٢ / ٢٠٠٣ .
- جميل كتاني ، شاهد على الواقع : دراسات و أبحاث في الرواية العربية المعاصرة ، فلسطين ، دار الهدى ، ٢٠١٤ .( ١٢٠ - ١٤٧ ) .
- شمعون بلاص ، الأدب العربي في ظل الحرب من ١٩٤٨ - ١٩٧٣ ، شفا عمرو ، دار المشرق ١٩٨٤ ( ترجمة زكي درويش ...) .
- د.فؤاد عزام ، شعرية النص السردي : دراسة في أشكال الحبكة في روايات حيدر حيدر ، فلسطين ، حيفا ، مجمع اللغة العربية ، ٢٠١٢ . ( ١٧٩ و ٢٥٢ و٢٥٣ وغيرها ) .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى